المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

سليم سلامة استقالة عمرام متسناع من رئاسة حزب "العمل"، (الأحد ـ 4/5) كانت من نوع "التوقعات" المؤكدة، الحتمية، ولم تحمل، في طيات أسبابها ومداليلها وأبعادها، اي مفاجأة جدية تذكر. الأمر المفاجىء الوحيد الذي يمكن الاشارة اليه في هذا السياق هو انها جاءت أسرع بكثير مما كان يتوقعه حتى ألد أصدقاء متسناع ورفاقه واشقائه، لا سيما في "العمل" وقيادته. ورغم ما يشتم من "تحاذق متأخر" في هذا الكلام، الا انه يبقى هو الحقيقة بعينها.

غير ان استقالة متسناع الآن، ورغم ما ذكر عن كونها "قصة موت (سياسي ـ شخصي) معلن"، تؤشر على أكثر من أزمة في أكثر من صعيد في ساحة العمل السياسي الاسرائيلي وفي تشكيلة الخارطة السياسية الجديدة فيها. "جئت (الى رئاسة حزي العمل ـ س.س.) لأحارب من اجل صنع السلام ومن أجل صورة الدولة من الناحية الاجتماعية"، قال متسناع في خطاب الاستقالة. استقالته، اذن، تؤكد فشله ليس في تحقيق هذين الهدفين، وانما فشله المدوي في مجرد العمل (المحاربة) من أجل تحقيقهما. والفشل هنا ليس الفشل الشخصي (ولن نخوض في الجوانب الشخصية في كل ما يتصل بمتسناع منذ إنتخابه وحتى استقالته) وانما هو الفشل الأوسع والأشمل، والأكثر أهمية وخطورة بالتالي: انه الفشل في صياغة وطرح بديل، حقيقي وجاد وواضح، وقادر على لجم الانجراف الاسرائيلي العام، في السنوات الأخيرة تخصيصاً، عميقاً نحو اليمين.

لكن خطيئة متسناع الأولى هي في عدم ادراكه، مسبقاً، ان حزب "العمل" لم يعد قادرًا على طرح نفسه "بديلا لسلطة اليمين الفاشل"، ليس لأن "بعضًا من قيادييه منشغل بحياكة المؤامرات والدسائس، وهم أشخاص تحكمهم غريزة التدمير الذاتي وغريزة الانتحار السياسي"، وليس لأن "الحزب يقف على شفا الافلاس الاقتصادي". ذلك ان الافلاس الاقتصادي هو نتيجة حتمية، وتحصيل حاصل، للافلاس السياسي والأخلاقي المدوي الذي أعلنه هذا الحزب منذ قرر زعيمه آنذاك، شمعون بيرس، اغتنام "فرصته" الشخصية التاريخية للانتقام من هزائمه السابقة والتربع على كرسي رئاسة الحكومة "بأي ثمن" في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أيار 1996، بعد اغتيال اسحاق رابين (نوفمبر 1995): فانطلاقا من حساباته واعتباراته الانتخابية آنذاك، داس بيرس، بفظاظة، على توقيعه الشخصي هو ايضا على الاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني ورفض تنفيذ "النبضة" التي استحقت بالانسحاب من الخليل وتسليمها الى السلطة الفلسطينية، ثم شن حرباً مهووسة على لبنان ("عناقيد الغضب") ورطته بمجزرة قانا، ليخرج من الانتخابات سفاحًا يجر أذيال الخيبة والهزيمة أمام بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين. فسوية مع هزيمة بيرس امام نتنياهو، خسر حزب "العمل" في تلك الانتخابات البرلمانية 10 أعضاء كنيست، وهبط من 44 عضوا الى 34.

كان ذلك هو التحول المفصلي في طريق وتاريخ حزب "العمل"، الذي أقنع جمهور ناخبيه، بخاصة، والجمهور الاسرائيلي بعامة، بأنه لم يعد يطرح نفسه بديلا سياسيا ـ اقتصاديا ـ اجتماعيا ـ أخلاقيا لحزب "الليكود" وحلفائه من اليمين. بعد ذلك، كان من الطبيعي جدا ان يحتضن حزب "العمل" مرشحا مثل ايهود براك ليطفىء نيران شبقه المستعرة الى السلطة. ولم يكن فوز براك برئاسة الحكومة، في انتخابات أيار1999، الا لأنه شكل بديلا شخصيا لنتنياهو، لا لأن "العمل" شكل بديلا سياسيا ـ اقتصاديا لـ "الليكود". والدليل القاطع على هذا ان فوز براك الشخصي (الذي كان خلع بزته العسكرية رئيسا للأركان، للتو، وتركزت دعايته الانتخابية على بطولاته وأمجاده العسكرية) رافقه تراجع كبير آخر في قوة حزب "العمل"، اذ هبط تمثيله في الكنيست من 34 عضوا الى 26 عضوا، على الرغم من خوضه الانتخابات في قائمة تحالفية موسعة ("اسرائيل واحدة") ضمت حزب "ميماد" المتدين المعتدل وأوساطا شعبية أخرى.

من الحقائق الثابتة ان ايهود براك ما كان من الممكن ان يتفوق على ارئيل شارون ويفوز برئاسة الحكومة في الانتخابات التي جرت في آذار 2001، حتى لو صوُت المواطنون العرب برمتهم لصالحه (تلك الانتخابات اقتصرت على منصب رئيس الحكومة فقط، ولم تشمل الكنيست). ذلك لأن حزب "العمل" كان قد أنجز في تلك الفترة ـ في الممارسة العملية ـ محو ما تبقى من "فوارق" (شكلية، ينبغي القول) بينه وبين "الليكود"، ولأن يمينية براك وحزبه تبقى ـ في نظر الاسرائيليين ـ تقليدا / نسخا ليمينية شارون، لا تبلغ كاحلها مهما أوغلت في صقريتها. ورغم ان الاسرائيليين لا يزالون يعتبرون حزب "العمل" قائدا لما يسمى بـ "اليسار الاسرائيلي"، الا ان قادة هذا الحزب يصرون على اعلان تنصلهم من هذه "التهمة" التي تعني ـ في القاموس الاسرائيلي ـ وضعهم خارج حظيرة "المعسكر القومي الصهيوني". وليس تنصلهم هذا الا نتاجا طبيعيا لافتقارهم الى برنامج واضح ومتماسك يطرحونه بديلا حقيقيا وجديا لبرنامج "الليكود" والأحزاب اليمينية الأخرى، على الصعد كافة. وفي مثل هذه الحالة، حالة الافتقار الى بديل برنامجي يطرحونه للجمهور ويقودونه على اساسه، يصبح الانقياد هو الخيار الاضطراري ولا سواه. وفي غياب بديل برنامجي كهذا يعولون عليه لكسب ثقة الجمهور والفوز بالسلطة، يصبح الاذدناب هو الملاذ الأخير والبوابة الوحيدة التي يمكن ان يتاح لهم من خلالها احتلال بعض المواقع في سدة الحكم. ففي هذه المواقع سلطة وسطوة ونفوذ ان لم يتحصلوا عليها، فمعنى ذلك انهم يستسلمون لمصيرهم المحتوم: التفكك والتلاشي، سياسيا وشخصيا.

هذه هي الحقيقة التي كانت المحرك والدافع لهرولة بنيامين بن اليعيزر وشمعون بيرس وأتباعهما الى الجلوس في حكومة ارئيل شارون الأولى (من 7/3 /2001) والضلوع في كل موبقاتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية، دون ان يشعرا بأي حرج. ولم يكن انسحابهما (وانسحاب اتباعهما معهما) من تلك الحكومة الا لاعتبارات حزبية داخلية تتعلق بالانتخابات الداخلية التمهيدية لرئاسة حزب "العمل"، والتي جرت في نوفمبر 2002. ولم تكن ذريعة الانسحاب ذاك (الخلاف على الميزانية العامة للدولة) الا ورقة توت، لم يكن بمقدورها ستر عورتيهما.

هذه هي الحقيقة الأولية التي لم يستطع متسناع الغوص الى أعماقها، فاختار الانتحار السياسي واستدعى خناجر "رفاقه" في اللحظة التي أعلن فيها، ابان معركة الانتخابات البرلمانية الأخيرة (يناير 2003)، ان حزبه لن يدخل في ائتلاف حكومي برئاسة شارون "بأي حال من الأحوال". في تلك اللحظة اصدر متسناع حكما بالاعدام السياسي ضد نفسه، مانحا بنيامين بن اليعيزر وشمعون بيرس وأتباعهما حق التنفيذ ومتعته. وطوال الأيام التي اجرى فيها متسناع مفاوضات مع شارون حول الانضمام الى حكومته الجديدة، كانت النيران المطلقة عليه من قادة حزبه، جراء ما كان يطرح من شروط، أقوى وأشد بأضعاف من تلك التي اطلقت عليه من "الليكود".

خمسة أشهر قضاها متسناع في رئاسة حزب "العمل" شكلت كابوسا خطيرا على قادة الحزب، الذين لم يدخروا اية وسيلة في العمل للتخلص منه، حتى نجحوا. وكأن زعيم "شينوي"، الوزير يوسف (طومي) لبيد، كان يطلق لهم زغرودة المباركة حين قال، تعقيبا على استقالة متسناع، ان هذه الاستقالة "تفتح الباب اما انضمام حزب العمل الى الحكومة".

اما تعقيب شمعون بيرس الذي قال فيه ـ بعد صمت وانطواء طويلين ـ ان استقالة متسناع "تحتم على حزب العمل، الآن، اجراء مناقشات جدية حول الطريق الأصح والأفضل لترميمه وعودته الى الموقع الجدير به في الدولة"، فهو ينضح بالتضليل ولا يخرج من اسار الشبق اللاهب الى مقعد سلطوي في حكومة، لا بأس أن يكون شارون رئيسها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات