تحاول أبواق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ربط استمرار الحرب على غزة وفي جبهات أخرى بعوامل تحيل إلى فوائد جمّة على المستوى البعيد، كي تبعد عنها بالأساس شبهة المصالح السياسية والشخصية لنتنياهو خصوصاً واليمين الإسرائيلي المتطرّف عموماً. وفي هذا السياق يمكن مصادفة أمور يتم تداولها باعتبارها حقائق لا يمكن الخروج عن سلطتها. وهو ما حاول أن يسوّقه وزير الطاقة والبنى التحتية إيلي كوهين ضمن مقال بعنوان "خط الطاقة الجديد: كيف تعزّز الحرب مكانة إسرائيل في المنطقة" ("معاريف"، 27/3/2025).
برأي كوهين أدت النتائج التي أسفرت عنها الحرب حتى الآن "إلى إظهار قوة إسرائيل أمام أنظار العالم بصورة عامة، ودول الخليج العربيّ المعتدلة بصورة خاصة، وإلى انكشاف ضُعف إيران"، ما يعني أن التقارب مع إسرائيل سيعود على أصحابه بالفائدة، أيضاً من الناحية الأمنية، وعلى وجه التحديد في كل ما يتعلق بحماية طرق التجارة العالمية.
وأشار كوهين إلى أنه في أيلول 2023، أعلن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن خطة "سكة السلام"، المتمثلة في إنشاء ممر اقتصادي يمتد من الهند، مروراً بالإمارات العربية المتحدة، والسعودية، والأردن، وإسرائيل، وصولاً إلى أوروبا. وبرأيه "تعزّز هذه الخطة مكانة إسرائيل في سوق الطاقة، وتُضعف قبضة إيران في المنطقة، كما توطد التحالف بين إسرائيل ودول الخليج المعتدلة، الأمر الذي أقلق قادة الحكم في طهران وشكّل عاملاً مهماً في قرار إيران ووكلائها مهاجمة إسرائيل. وفي البداية، بدا أن الحرب يمكن أن تعيق عملية التطبيع، ولكن اليوم، وبعدما ظهرت قوة إسرائيل أمام أنظار العالم بصورة عامة، ودول الخليج المعتدلة بصورة خاصة، بعد انكشاف ضعف إيران وعودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يبدو أننا على أعتاب فصل جديد في الشرق الأوسط وتوسيع اتفاقيات أبراهام. والدول السنية المعتدلة تدرك الآن أن التقارب مع إسرائيل سيعود عليها بالفائدة أيضاً من الناحية الأمنية".
وفي قراءة كوهين يشكّل الهيدروجين، من الناحية الاقتصادية، جزءاً جوهرياً من خطة "سكة السلام"، إذ يتم إنتاج الهيدروجين الأخضر باستخدام طاقة متجددة، وهو لا يصدر ملوثات، ويُعتبر "وقود المستقبل"، كما أن دول الخليج، التي حظيت بإشعاع شمسي عالٍ، وبسماء خالية من الغيوم، ومساحات صحراوية شاسعة، قادرة على إنتاجه بتكلفة منخفضة، بينما تبحث أوروبا، التي تستهلك نحو 10 بالمائة من الطاقة العالمية، عن مصادر للطاقة النظيفة. ويمكن لإسرائيل بفضل موقعها أن تكون جسراً بين الدول المنتجة للهيدروجين في الشرق الأوسط ومستهلكي الطاقة في أوروبا، وهو ما يعزز الروابط بين الطرفين. وهذه التوقعات بدأت تتحقق فعلاً عبر خطوات تقودها الدول المعنية. فالسعودية، على سبيل المثال، أعلنت أن مدينة "نيوم" المستقبلية ستتضمن مشروعاً لإنتاج الهيدروجين الأخضر بتكلفة تقارب 8 مليارات دولار.
كما ينوّه الوزير الإسرائيلي بأن هناك مصدرين إضافيين يقعان في صلب كون إسرائيل جسراً اقتصادياً جاذباً، هما المياه والغاز الطبيعي. وإذا ما كانت المياه في الماضي سبباً رئيساً للحروب في الشرق الأوسط، فإن التكنولوجيا والابتكار الإسرائيليَيْن أتاحا اليوم إيجاد حلول لأزمة شح المياه، وفي الإمكان استخدام هذه الحلول لتعزيز العلاقات مع الإقليم؛ فإسرائيل تصدّر المياه إلى الأردن، وتصدّر تقنيات مياه إلى جميع أنحاء العالم. وبطريقة مشابهة، كانت إسرائيل في السابق مستوردة للغاز الطبيعي، لكنها أصبحت اليوم تصدّره إلى مصر والأردن. كذلك، يجري في هذه الأيام تسريع بناء مشروع الكابل الكهربائي البحري، وفي إطاره يُخطّط لإنشاء ربط كهربائي بين إسرائيل وقبرص واليونان، ومن هناك إلى باقي القارة الأوروبية.
فضلاً عما ذُكر، تواترت على مدار أيام الحرب المستمرة ولا تزال تتواتر التقارير التي تتحدّث عن استخدام القتال من أجل تطوير إنتاج الصناعات الأمنية الإسرائيلية، وعن صفقات أسلحة جديدة عقدتها إسرائيل مع عدة دول وتتضمن تصديراً لأسلحة جديدة أو أسلحة قديمة تمّ تطويرها.
وبدون الدخول في كل التفاصيل تركّز هذا التقارير على ارتفاع حجم مبيعات الأسلحة الإسرائيلية في العالم، مثلاً في الهند التي باتت تعتبر بمثابة القوة الاقتصادية الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وهو ارتفاع مرتبط بتغيرات أيديولوجية وسياسية حدثت وتحدث في هذا البلد. ولا بُد من التنويه بأن ارتفاع حجم مبيعات الأسلحة الإسرائيلية في العالم يبقى ذا صلة بـ "توجّه تجاريّ" أيضاً يعتمد على تسويق هذه الأسلحة بكونها ناجعة وذات "رصيد وتجربة مثبتة"، من طريق الاستناد إلى كون إسرائيل دولة حروب وعمليات عسكرية بامتياز على مرّ تاريخها كله.
لعلّ هذه الحقيقة وفي كل ما يرتبط بغزة تحديداً، تعيدنا إلى مسألة سبق لنا تناولها بالتزامن مع الضجة التي ثارت في إسرائيل في العام 2017 على خلفية محاولة وزيرة الثقافة الإسرائيلية في ذلك الوقت ميري ريغف منع عرض فيلم "المختبر" الذي أنتج العام 2013 في القدس. وبحسب ما نُشر في ذلك الحين، زعمت ريغف أن الفيلم يعرض جانباً سيئاً وبشعاً لإسرائيل يمسّ صورتها كـ"دولة أخلاقية"، فضلاً عن أن مخرج الفيلم معروف بمناهضته لقيم هذه الدولة ورموزها. والمُخرج هو يوتام فيلدمان، نجل المحامي المعروف أفيغدور فيلدمان، وعمل في السابق صحافياً محققاً، وخصص فيلمه لمحور تجارة السلاح الإسرائيلية من زاوية شديدة الخصوصية هي زاوية لجوء إسرائيل إلى تسويق منتجاتها من الأسلحة "عبر التباهي بأنها ناجعة ولها تجربة مثبتة في الميدان".
وفي هذا الشأن يشير الفيلم إلى أن أحد أسباب ما يسميه "دورية" الحروب التي تقوم إسرائيل بشنّها في قطاع غزة يعود إلى تحويل القطاع إلى مختبر لتجربة أحدث أنواع الأسلحة المُنتجة من جانبها بما يُسعف في تصديرها إلى شتى أنحاء العالم.
وفقاً لفيلدمان، شهدت الصناعات العسكرية الإسرائيلية، منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، ازدهاراً غير مسبوق. ويعمل ضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي، تحولوا إلى مستشارين وتجار أسلحة، على تطوير وبيع معدات عسكرية ونظريات قتالية، أضحت سلعة مطلوبة في أنحاء العالم، ومصدر رزق لمئات آلاف الإسرائيليين، وأخذت الصادرات الأمنية الإسرائيلية تزداد من عام إلى آخر لتغدو كذلك رافداً مهما للاقتصاد الإسرائيلي.
وبرأيه يعتمد النجاح الإسرائيلي في هذا المضمار على مختبر يتيح اختبار وفحص هذه الاختراعات والابتكارات في ميدان حقيقي وعلى بني بشر حقيقيين. ويتناول فيلدمان في "المختبر" ومدته ستون دقيقة، بصورة متعمقة، صناعة تصدير الأسلحة والخبرة العسكرية التي شهدت ازدهاراً ملحوظاً في إسرائيل منذ مطلع الألفية الحالية، ويبيّن أن الحروب التي تشنها إسرائيل على غزة باتت تشكل جزءاً من نهج الحكم وبمثابة مختبر رئيس لهذه الصناعات الإسرائيلية.
يدعو الفيلم جهراً إلى الربط بين الصناعات التكنولوجية الإسرائيلية المتطورة وبين القوة العسكرية الجامحة التي يتم تناولها في تقارير منظمات حقوق الانسان، بدلاً من رؤيتهما كظاهرتين مختلفتين في زمن وحيز قريبين. ويشير فيلدمان إلى أن حرب 2008- 2009 على غزة (التي أسميت إسرائيلياً "عملية الرصاص المصبوب") أسفرت عن صدور "تقرير غولدستون" الذي تحدث عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل أثناء تلك الحرب، ومن بينها جريمة قصف طابور طلاب مدرسة الشرطة الفلسطينية في أول أيام الحرب، ولكن بعد الحرب أصدرت "سلطة تطوير الوسائل القتالية" في إسرائيل ("رفائيل") منشوراً تسويقياً تحدث عن التجربة العملانية لصاروخ "سبايك- 4" الذي استخدم في قصف طابور مدرسة الشرطة، وفقط قلائل يدركون أن الحديث يدور حول وصفين مختلفين للحدث نفسه. كذلك هي الحال بالنسبة إلى طائرات صغيرة من دون طيار تستخدمها إسرائيل في عمليات التصفية والاغتيالات في قطاع غزة، وعلى هذا يمكن قياس الكثير من الأحداث.
ينقل الفيلم مثلاً عن مسؤول كبير في الصناعات العسكرية قوله إن اختبار شبكة ديجيتالية مُخصصة لاستخدام القوات البرية تبلغ قيمتها مليار دولار، خلال حرب 2008- 2009 أتاح رفع سعر هذه الشبكة في صفقة أبرمت مع أستراليا بعد عام واحد من الحرب. وأكد أحد رجالات التسويق في شركة الصناعات الجوية أن العمليات العسكرية والاغتيالات في غزة تؤدي إلى ارتفاع بعشرات النسب المئوية في مبيعات الشركة.
لعل المعلومة الأبرز التي يوردها الفيلم هي أنه أصبح لرجالات "اليسار الصهيوني" موطئ قدم في هذه الأعمال أكبر مما كان عليه في الماضي، فمثلاً يوسي بيلين يزاول تجارة بيع السلع الأمنية في السوق العالمية، وشلومو بن عامي عمل في منصب رفيع المستوى في شركة Global CST التي تقوم ببيع سلع أمنية وبتدريبات في كولومبيا، بالإضافة إلى إيهود باراك الذي التحق بهذه الأعمال في أوج ازدهارها بعد هجمات 11 سبتمبر!