المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جندي إسرائيلي يحدق في الخراب في مخيم الشاطئ في صورة تعود لتشرين الثاني 2023. (فلاش 90)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 170
  • ياسر مناع

منذ حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة في أعقاب الهجوم المباغت يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تواجه المؤسسة العسكرية أزمة غير مسبوقة في تاريخها، إذ لا تقتصر خسائرها البشرية على القتلى والجرحى فحسب؛ بل امتدت لتطاول النموذج التقليدي للجيش الإسرائيلي باعتباره "جيش الشعب"، الذي طالما حظي بشرعية سياسية وإجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث تحولت الخدمة العسكرية، وخدمة الاحتياط على وجه الخصوص، إلى موضع رفض وتململ. فيما يرى مراقبون اسرائيليون أن هذا الرفض يكشف عن تصدّع شامل في العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين إسرائيل ومواطنيها لعقود طويلة.

تنطلق هذه المساهمة من عرض مقال استقصائي للصحافي الإسرائيلي ميرون رپاپورت في موقع "سيحا ميكوميت/ محادثة محليّة" بتاريخ 3 نيسان 2025، تحت عنوان: "في قاعدة جبل الجليد للرفض يقبع اليأس"[1]  تناول فيه ملامح هذا التحوّل في المشهد الإسرائيلي، ويستند ربابورت في مقاله إلى شهادات ونقاشات تبرز أزمة الرفض العسكري المتزايدة في أوساط جنود الاحتياط. وبحسب تحليله، تظهر هذه الأزمة في أربعة مستويات متشابكة: أزمة قيادة، أزمة ثقة، أزمة هوية، وأزمة معنى. ولكن جميعها تصبّ في خانة واحدة: "تهاوي المشروع القومي الإسرائيلي في صيغته التقليدية".

يؤكد رپاپورت في مستهل مقاله أن ظاهرة الرفض ليست غريبة على إسرائيل؛ بل سبق لها أن شهدت في فترات سابقة حالات مماثلة. كما جرى في حرب لبنان الأولى العام 1982، أو إبان الانتفاضة الثانية العام 2000. بينما أخذت الظاهرة تزداد زخماً مع التظاهرات ضد التعديلات القضائية، أو ما يسمى الانقلاب القضائي. ففي ذروة الاحتجاجات في تموز 2023 أعلن أكثر من ألف طيار وعضو طاقم جوي أنهم سيتوقفون عن التطوع للخدمة ما لم تتوقف الحكومة الإسرائيلية عن مشروعها.

يشير الكاتب إلى مفارقة برزت  يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، حيث عاد جميع الذين هددوا بالرفض إلى مواقعهم في الخدمة الاحتياطية. غير أن الكاتب يُميّز بين نوعين من الرفض: فالامتناع عن أداء الخدمة في أوقات الهدوء أو الاحتجاجات السياسية يختلف جذرياً عن الرفض في زمن الحرب كما هي الحال اليوم. حيث أن الرفض اليوم أصبح جزءاً من خطاب سياسي مشروع، وقد وصل إلى أماكن لم يكن فيها من قبل، إلى ما يسميه ربابورت "التيار الصهيوني من الوسط - اليسار"

يؤكد يشاي منوحين - من منظمة "يوجد حدّ" - أن هذه الموجة تُعدّ الأوسع منذ حرب لبنان الأولى في العام 1982، حيث يشهد الجيش الإسرائيلي تصاعداً ملحوظاً في ظاهرة رفض الخدمة، لا سيما في صفوف الاحتياط. ويقدّر منوحين أن منظمته تابعت منذ أكتوبر 2023 ما بين 150 إلى 160 حالة رفض لأسباب أيديولوجية، ويشير إلى معادلة لتقدير الحجم الفعلي للظاهرة: مقابل كل رافض معروف، هناك ما بين 8 إلى 10 رافضين غير معلنين، ما يعني أن الرقم قد يتجاوز 1500 رافض أيديولوجي – مجرد "رأس جبل الجليد" لظاهرة آخذة في الاتساع.

وفي هذا الإطار، يقول يوڤال غرين، من منظمة "جنود من أجل الأسرى"، وهي حركة أعلنت رفضها أداء الخدمة الاحتياطية طالما لم تبرم الحكومة اتفاقاً للإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة: "إن غالبية الرافضين اليوم ينتمون إلى ما يسميه "الرفض الرمادي الأيديولوجي" – وهم ليسوا بالضرورة يساريين أو متعاطفين مع الفلسطينيين، بل أفراد من التيار الوسطي. بالتالي، يحظى الرفض اليوم بشرعية تفوق ما كان عليه في مستهل الحرب، لقد أصبحنا أكثر حضوراً وتأثيراً في الإعلام الذي يتناول قضيتنا، في السابق لم نكن جزءاً من الخطاب العام، أما اليوم فالرفض بات موضوعاً متداولاً على نطاق واسع".

في موقفٍ مماثل، نشرت حركة "نقف معاً" إعلاناً من صفحتين في الصحف الإسرائيلية، أعلنت فيه من جملة ما أعلنته أن أفرادها "يرفضون الموت والقتل في حرب نتنياهو". وأضاف أوري ڤولتمان، أحد قادة "نقف معاً"، أن اللافتات التي كُتب عليها "ننقذ الأسرى، نرفض الحرب" كانت تُخطف من المتظاهرين في الاحتجاجات. ويعكس ذلك أيضاً، ما نُشر في صحيفة "هآرتس" من مقالة باسم صريح لوالدة أحد الجنود، عبّرت فيها بوضوح: "أبناؤنا لن يُزجّوا في حرب اختياريّة ذات نزعة مسيانية".

يرى الكاتب أنه في الأسابيع الأخيرة ظهرت تقارير تشير إلى انخفاض ملحوظ في نسبة التجنّد للخدمة الاحتياطية. ففي منتصف آذار من العام الجاري، أبلغ الجيش الوزير يسرائيل كاتس أن نسبة التجنّد، وفقاً لمعطيات شعبة القوى البشرية، تقف عند 80%.  إلا أن القناة 11 نشرت أن هذا الرقم غير صحيح وأن النسبة الحقيقية هي قرابة 60% مقابل 120% يوم السابع من أكتوبر. وقد أشارت تقارير أخرى إلى نسب أدنى، تحدثت عن تجنّد لا يتجاوز 50%، بل وعن لجوء وحدات عسكرية إلى استدعاء جنود الاحتياط عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في خطوة غير مألوفة تعكس عمق الأزمة.

وبحسب معطيات منظمة "يوجد حد" أعلن الجيش أنه جنّد نحو 295 ألف جندي احتياط، وإذا كانت المعطيات التي تتحدث عن نسبة تجنّد تبلغ 50% أو 60% صحيحة، فإن ذلك يعني أن 100 ألف شخص على الأقل لم يلتحقوا بالخدمة الاحتياطية، سواء بسبب السأم أو بدوافع أيديولوجية.

وتعقيباً على هذا الواقع، صرح يائير غولان، رئيس حزب "الديمقراطيون"، ونائب رئيس أركان الجيش سابقاً: "إنها ظاهرة لا مفرّ منها حينما تطيل دولة ما أمد الحرب إلى ما لا نهاية، بدون أهداف قابلة للتحقيق، بدون غاية، وبدون أفق لتحقيق واقع أمني أكثر استقراراً".

كذلك يرى منوحين أن أحد جذور الأزمة الراهنة في إسرائيل يكمن في تفكك التضامن الاجتماعي، نتيجة السياسات النيوليبرالية التي بدأت منذ الثمانينيات، معتبراً أن أحداث السابع من أكتوبر أبرزت هذا الانهيار. وتشير المعطيات إلى أنه مع نهاية العام 2023، كان نحو 30% من الإسرائيليين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في دليل واضح على تراجع دور الدولة كضامن اجتماعي، وازدياد وعي الجمهور بهذه الفجوة.

كما تعكس التحولات الاجتماعية تآكل الهوية الإسرائيلية الجامعة، إذ يتراجع عدد من يعرّفون أنفسهم كـ"إسرائيليين" فقط، لصالح انتماءات فرعية متزايدة مثل "تل أبيبيون"، "صهاينة دينيون"، "حريديم"، وغيرها، وهو ما يعكس تفككاً متسارعاً في النسيج الوطني المشترك، رغم أن الحرب منحت شعوراً بالوحدة في أيامها الأولى.

ويفسّر المقال موقف الجيش من ظاهرة الرفض بتسليط الضوء على ما يراه منوحين تلاعباً في المعطيات من قبل المؤسسة العسكرية؛ إذ يشير إلى أن معظم الرافضين لم يُسجنوا، رغم امتلاء السجون بالمتغيبين، ما يعكس تفضيل الجيش التعامل مع الغياب كقضية فردية. ويضيف أن الجيش يتجنّب الزج بالرافضين في السجون خوفاً على نموذج "جيش الشعب"، فيما تكتفي الحكومة بانتقاد الجيش بدون اتخاذ إجراءات حقيقية، ما يكرّس حالة من الإنكار المؤسسي للأزمة.

الأسباب الدافعة نحو الرفض

تُفسّر البروفيسورة ياعيل باردا، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة العبرية- القدس، هذا التراجع المستمر في التجاوب مع الخدمة الاحتياطية بأنه ينبع من عدة أسباب متنوعة، أهمها:

أولاً: أسباب اقتصادية- "عُطل المادة"، أي تضرر الدخل المادي وفقدان الوظائف، حيث تفيد معطيات رسمية بأن 48% من جنود الاحتياط تعرّضوا لتراجع كبير في دخلهم بسبب استدعائهم، فيما اضطر 41% منهم إلى ترك وظائفهم أو فُصلوا منها. هذا يُنتج شعوراً بالخذلان من الدولة، ويؤدي إلى إحجام متزايد عن الاستجابة لأوامر الخدمة.

ثانياً: الرفض الناتج عن التجربة الميدانية والصدمة من مشاهد الحرب في غزة؛ حيث أن بعض الجنود قرروا رفض الخدمة بعد معايشتهم لما يجري ميدانياً. ورغم أنهم أقلية، فإن تأثيرهم الرمزي كبير. هذا النوع من الرفض يُعبّر عن تصدّع في شرعية الحرب على المستوى الأخلاقي.

ثالثاً: فقدان الثقة بالحكومة والقيادة الإسرائيلية- ثمة فجوة بين الخطاب والفعل؛ الحكومة التي وعدت بإعادة الأسرى من غزة، لكنها فشلت في ذلك. هذه الفجوة بين الأهداف المُعلنة والنتائج الفعلية ولّدت شعوراً بخداع الجمهور. هذه الثقة المتآكلة تؤدي إلى تقويض الالتزام بالمشاركة في الحرب.

رابعاً: الرفض لخطاب التضحية الجماعية؛ يتمحور هذا الرفض حول رفض التضحية من أجل مفاهيم "عليا" مثل الأرض أو الأمة، خاصة عندما يُروّج لها وزراء من تيارات يمينية دينية مثل بتسلئيل سموتريتش، وكثير من الناس باتوا يضعون حياتهم الفردية فوق الاعتبارات القومية، رافضين الخطاب المسياني والتضحية المطلقة.

خامساً: الازدواجية والتمييز داخل المجتمع الإسرائيلي؛ إن قضية عدم تجنيد الحريديم، وظهور وزراء يشاركون في حفلات خلال الحرب، ولّد شعوراً بالظلم والتمييز الطبقي، وهذا يُضعف الإحساس بالانتماء إلى "مجتمع واحد" ويعزز مشاعر الرفض.

سادساً: رفض الحرب بوصفها مشروعاً مسيانياً؛ ابتعاد عن المشروع القومي الديني المتطرف، حيث يعبّر كثيرون عن موقف يقول: "لن نُقتل أو نَقتل من أجل مسيانيتهم"، في إشارة إلى رفضهم للأبعاد الدينية– الخلاصية للحرب التي يروّج لها التيار الديني القومي.

سابعاً: تصاعد النزعة الفردانية في مقابل تراجع الهوية الجماعية؛ أي نوع من التمرد على "الوطنية الرسمية"، حيث يرفض جزء متزايد من الإسرائيليين النموذج القائم على التضحية من أجل الجماعة، ويُطالبون بحقهم في تحديد أولوياتهم الفردية.

كذلك يربط منوحين بين تراجع التجنيد وازدياد سلوكيات العنف وجرائم الحرب في صفوف الجيش الإسرائيلي، معتبراً أن الإنهاك ونقص القوى البشرية يدفعان الجنود إلى التبلّد وارتكاب أفعال كانوا يتجنّبونها في ظروف أخرى. ويعتقد أن الخوف من انهيار نموذج "جيش الشعب" يدفع الجيش إلى التعتيم على أرقام الرفض، إذ إن انتشار الرفض الجماعي يُعدّ ضربة استراتيجية لصورة إسرائيل الأمنية داخلياً وخارجياً.

وتُعزّز البروفيسورة باردا هذا الطرح، مشيرة إلى أن معطيات الاحتياط تُعدّ "السرّ الأكبر في الدولة"، لأن إسرائيل تُبنى على قاعدة الخدمة العسكرية. وتضيف أن ما يُبقي التجنيد قائماً حتى الآن هو الفصل الذي يصنعه الجمهور بين "الدولة" و"الحكومة"، حيث لا يزال الالتزام تجاه المؤسسات الأمنية قائماً بالرغم من انعدام الثقة السياسية.

وترى باردا أن الرفض تطوّر أيضاً من أداة احتجاج على الانقلاب القضائي إلى موقف سياسي ضد الحرب، في ظل اقتناع متزايد بأن نتنياهو يقود الدولة نحو الانهيار من أجل مصلحته الشخصية. وتُحذّر من غياب الفهم الشامل للأزمة، حيث لا أحد يربط بين ضرب مؤسسات مثل جهاز الأمن العام- الشاباك وتآكل الثقة بالجيش.

ختاماً، يشير المقال إلى أن إسرائيل تواجه أزمة متعددة: سياسية، أخلاقية، اقتصادية، وأمنية. ورفض الخدمة العسكرية، سواء أكان صامتاً أو معلناً، جزئياً أو شاملاً، يعكس فقداناً تدريجياً للثقة في مؤسسات الدولة المركزية، وعلى رأسها الجيش. في هذا السياق، لم تعد سرديات التضحية الوطنية، ولا رمزية "جيش الشعب"، كافية لردم الهوة المتسعة بين شرائح واسعة من المجتمع والمؤسسة العسكرية، وما كان يوماً ما "مقدساً" أصبح اليوم محل نقاش.

 

[1] للمزيد أنظر/ي: ميرون رپاپورت، "في قاعدة جبل الجليد للرفض يقبع اليأس"، سيحا ميكوميت، 3 نيسان 2025، تمت المشاهدة في 7 نيسان 2025. https://2u.pw/xoUTG

المصطلحات المستخدمة:

بتسلئيل, هآرتس, جيش الشعب, يسرائيل كاتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات