تزداد في الآونة الأخيرة المؤشرات التي تفيد بأن إسرائيل تعتبر من إحدى الدول الأكثر غلاء في العالم، ما يفاقم الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها الشرائح الفقيرة بالأساس. ولعل أخيرها هو مؤشر معهد "بانلز بوليتيكس" الذي نستعرضه في مكان آخر (راجع مقال هشام نفاع)، وقد بيّن، من ضمن أمور أخرى، أن غلاء المعيشة يشكّل أحد أبرز مصادر القلق لدى الإسرائيليين بل وحتى أكثر من مترتبات الصراع مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي مقدمها ما يوصف بـ"عمليات الإرهاب"!
يصادف هذه الأيام مرور عقد على حدثين ليس مبالغة القول إنهما أثّرا في المصير الذي آلت إليه المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية في الوقت الحالي. الحدث الأول هو محاولة مجلس التعليم العالي إغلاق "قسم السياسة والحكم" في جامعة بن غوريون في بئر السبع، والتي باءت بالفشل في نهاية المطاف. والحدث الثاني هو تحويل المركز الأكاديمي في مستوطنة أريئيل إلى جامعة إسرائيلية معترفٍ بها على الرغم من كونها قائمة في أرض محتلة (الضفة الغربية) بموجب القانون الدولي.
حتى وإن اختلف المحللون في إسرائيل على تسمية ما يحدث في أراضي الضفة الغربية في الفترة الأخيرة على خلفية تصاعد الاشتباكات والعمليات المسلحة، ولا سيما في مناطق الشمال، وهل هي انتفاضة جديدة، الثالثة من حيث تسلسلها الزمني بعد انتفاضتي 1987 و2000، أو فترة تصعيد مرحلية، أو موجة عمليات فردية تغذّي بعضها البعض ثم ما يلبث بريقها أن يخبو، أو.. أو... إلخ، فإنهم لا يختلفون فيما بينهم على أنه من غير الممكن استمرار الوضع القائم في الأراضي المحتلة منذ 1967، وبالأساس من طرف الفلسطينيين وقواهم السياسية على شتى أطيافها.
ونحن نعايش اللحظة الراهنة ونقايسها بما قبلها، من الحق أن يُقال إن هذه هي المرة الأكثر وضوحاً وإقراراً التي تنشئ فيها صحيفة "هآرتس" افتتاحيتين تؤكد فيهما أنه في كل ما يتعلق بالبقرة المقدسة المسماة "أمن إسرائيل" فإن محكمة العدل العليا، رمز السلطة الثالثة، القضائية، ليست أكثر من ختم مطاطي في أيدي المؤسسة الأمنية التي لا يعلو عليها صوت، حتى لو كان صوت القانون أساس الدول الحديثة، أو صوت قيم العدالة الكونية.
ازداد الحديث في إسرائيل خلال العقد الأخير عن أنها تواجه صراعات داخلية عميقة تهدّد وجودها، وتعيد أغلب الكتابات هذه الصراعات إلى الاستقطاب الداخلي الشديد على خلفية الصراع الديني- العلماني والشرقي- الأشكنازي الذي انضفر أيضاً في الصراع الأيديولوجي بين معسكري اليمين الجديد الشعبوي الذي يقوده بنيامين نتنياهو ويجمع تحت مظلته المتدينين من التيارات الاستيطانية المتزمتة والحريديم وتيارات واسعة من الشرقيين، ومعسكر وسط - يسار علماني يغلب عليه طابع أشكنازي وينضوي تحت مظلته بالأساس أبناء الطبقات العليا والوسطى من سلالات "المؤسسين" الذين يرفعون راية "المؤسساتية" و"الدولانية" ويحلمون بإعادة إسرائيل "إلى مجدها" الذي يقصد به إجمالاً فترة هيمنة حزب "مباي" في عقودها الأولى، على الرغم مساعيهم الحثيثة لنزع صفة "ورثة" مباي عنهم والابتعاد قدر الإمكان عن ربطهم به.
الصفحة 17 من 48