اهتم عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية، خلال الفترة القليلة الماضية، بكتاب صادر حديثاً هو عبارة عن مذكرات شخصية من تأليف يولي نوفيك، المديرة العامة السابقة لمنظمة "فلنكسر الصمت"، بعنوان "من أنتِ أصلاً". وسردت فيه بعض أحلامها وهواجسها، ولكن الأهم أنها كشفت النقاب عما يمكن وصفه بأنه "صندوقها الأسود" الذي تحمله في داخلها، ويحتوي على مفاعيل القمع المتعمّد الذي قامت به إسرائيل ضد منظمات حقوق الإنسان عبر أساليب خسيسة يصعب حصرها ليس أبسطها محاولة التدمير الذاتي لمن ينشطون في هذه المنظمات، بموازاة زرع إحساس بالعجز الدائم أمام القوى المتسلّطة.
يعيد هذا الكتاب إلى الجدل وربما إلى صدارة الاهتمام مسألتين مُهمتيّن من شأنهما توضيح الصيرورة التي آلت إليها إسرائيل في الوقت الراهن، ولا سيما تحت تأثير الأعوام التي كانت فيها تحت حكم بنيامين نتنياهو والتي استمرت من 2009 وحتى 2021.
المسألة الأولى ترتبط بمنظمة "فلنكسر الصمت" تحديداً. فقد بدأت هذه المنظمة نشاطها في كشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في أراضي 1967 في العام 2004 وذلك من خلال معرض صور لعدد من الجنود الإسرائيليين الذين أدوا خدمتهم العسكرية في مدينة الخليل إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكان المبادر إلى تنظيم المعرض يهودا شاؤول الذي أدى خدمته العسكرية في الفرقة 51 التابعة للواء "ناحل" في الخليل، بداية كجندي ومن ثم كقائد للفرقة.
من الأمور التي أبرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا بالنسبة إلى إسرائيل، تمسّك هذه الأخيرة بما يُعرف باسم "قانون العودة" والدفاع عن طابعه العنصري والتشبّث بأمراسه.
هذا الأمر تجسّد أكثر شيء في الإجراءات المتعلقة باستقبال الفارّين من جحيم الحرب في أوكرانيا الذين طلبوا حق اللجوء في إسرائيل، بقدر ما تجسّد في تصريحات المسؤولين الذين كرّروا أهمية القانون والخطورة المترتبة على عدم تطبيقه لمستقبل إسرائيل كدولة يهودية في المشرق العربي، ولا سيما في المنطقة الواقعة بين النهر والبحر، كما فعل مثلاً المسؤول عن سلطة السكان والهجرة التابعة لوزارة الداخلية، تومر موسكوفيتش، في سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" في نهاية الأسبوع الفائت اعتبر فيها نفسه أحد حراس حدود "الدولة اليهودية" التي لا وجود أي مستقبل لها من دون الالتزام الصارم بتطبيق "قانون العودة"، مشدّداً على أن إسرائيل أقيمت بالأساس من أجل هذه الغاية، ولا ينبغي أن تفقد بوصلتها.
من المرجّح أن ترافقنا فترة طويلة التحليلات المتعلقة بالتحوّلات السياسية التي ستسفر عنها الحرب الروسية ضد أوكرانيا أو ما بات يُعرف بـ"الأزمة الأوكرانية"، ولا سيما بعد أن تخفت حدّة ألسنة اللهب.
ومن المؤكد أن هذه التحولات ستنطوي على انعكاسات تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وسيكون لها تأثير في إسرائيل.
ويبدو أن التأثير بالنسبة إلى إسرائيل سيكون إلى درجة كبيرة رهن سلوكها حيال الحرب وتداعياتها، ولا سيما موقفها من روسيا والذي لا ينطوي حتى الآن على جانب مُعلن من الصدامية، كي لا نقول إنه منطوٍ على قدرٍ من الممالأة.
فهمُ هذا الموقف الإسرائيلي يتطلّب قراءة مُجدّدة لتاريخ العلاقات بين الدولتين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي العام 1991، كون قراءة كهذه قادرة على وضع الأمور في نصابها وسياقاتها. ومن أجل ذلك سنستعين بمواد نُشرت سابقاً في "المشهد الإسرائيلي".
بداية لا بُدّ من التذكير بأن العلاقات الثنائية بين البلدين شهدت تقلبات حادّة، بدأت مع دعم غير محدود قدمه الاتحاد السوفييتي السابق إلى دولة إسرائيل، عشية قيامها ولدى تأسيسها في العام 1948. ولكن رئيس الحكومة الأول في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، اختار في بداية الخمسينيات اعتبار إسرائيل جزءا من "معسكر الدول الديمقراطية الغربية" فأخذت السياسة الإسرائيلية بالتقرب إلى الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، والابتعاد عن الاتحاد السوفييتي تدريجياً، حتى الانحياز الإسرائيلي التام إلى المعسكر الغربي. وفي شباط 1953، وقعت عملية تفجيرية في الممثلية السوفييتية في تل أبيب، فكان الرد السوفييتي قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
تمثّل أول استنتاج إسرائيلي من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في أن وقائعها أعادت إثبات مفعول العقيدة الأمنية الإسرائيلية والتي فحواها أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل لا يمكنها وإلى الأبد سوى أن تعتمد على نفسها وعلى قوة ذراعها العسكرية. وسبق أن نوهنا في أكثر من مناسبة بأن هذه الخلاصة كانت بمثابة فنارٍ اهتدى به جميع زعماء إسرائيل، بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى الزعماء الحاليين.
وقد تكرر هذا الاستنتاج منذ قيام إسرائيل مرات من الصعب حصرها، غير أن الأمر الأكثر جدة في الفترة الأخيرة هو إعادة تكراره حتى فيما يتعلق بالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة. وقد بدأ التشديد عليه منذ ظهور أول ملامح سياسة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط التي شرع في انتهاجها الرئيس السابق باراك أوباما واستمر فيها خلفه دونالد ترامب. وكانت آخر هذه المرات بالتزامن مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان في صيف 2021، وقبلها بالتزامن مع تنفيذ قرار سحب القوات الأميركية من شمال سورية في خريف 2019 إبان ولاية ترامب. وفي ذلك الوقت وصف هذا القرار الأخير، من طرف محللين إسرائيليين، بأنه جزء من نهج تقويض السياسة الأميركية التقليدية في الشرق الأوسط والذي أطلقه أوباما، وكانت الإشارة الأولى له هي خطابه أمام الكلية العسكرية "ويست بوينت" الذي أعلن فيه أن أميركا ستنقل "محور سياستها" من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وكانت الخطوة التالية هي الاتفاق النووي الإيراني "الذي من أجله كان أوباما مستعداً لأن يتجاهل بصورة شبه تامة مصالح حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة"، برأي عدد من هؤلاء المحللين. وتمثل الإثبات القاطع على تغيير السياسة الأميركية في قرار أوباما نقض تعهده بالرد بقوة في حال إقدام الرئيس السوري بشار الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المتمردين في سورية، ولذا جرى تحميله، من طرف جهات إسرائيلية، ولو بصورة جزئية، المسؤولية عن استمرار حمام الدم وعن تعاظم الوجود الروسي والإيراني في أرض سورية.
على نحو شبه دائم كانت الأنظار متجهة نحو المحكمة الإسرائيلية العليا، بصفتها السلطة الأعلى لتجسيد العدل (حين تعترضه عقبات سلطوية)، وكذلك حين يوضع مبدأ المساواة على المحكّ.. وحين.. وحين.. إلخ.
وفي هذه الأيام تتجه الأنظار نحوها مجدّداً وتجعلها "في عين العاصفة" مرة أخرى، أولاً في ضوء قرب تعيين 4 قضاة في هيئة هذه المحكمة، ما قد يقلب موازين القوة فيها. وثانياً، لكون هذا التعيين يأتي على ركام حملات اتهام لهذه المحكمة ولا سيما من طرف جهات يمينية ومحافظة، بأنها تقف حجر عثرة أمام ما توصف بأنها الحوكمة، عبر تدخلها في عمل الحكومة والكنيست. وكان آخرها، عند كتابة هذه السطور، حملة شنّها أحد أعضاء الكنيست من حزب الليكود المحسوبين على الضاربين بسيف رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو (دافيد أمسالم). وقبله تواترت حملات تحت غطاء غاية إعادة السلطة القضائية إلى "وظيفتها المُهمة للغاية"، وهي تفسير المعايير التي أقرها المُشرّع لا تغييرها. وتشير هذه الحملات، كما أكدنا في الماضي مرات عديدة، إلى أن معسكر اليمين في إسرائيل يعتقد أنه آن الأوان لتنفيذ مشروع أكبر يتطلع إليه منذ أعوام كثيرة، ومؤداه تكبيل يدي المحكمة العليا، ووقف ما سمي قبل نحو ثلاثة عقود بـ"الثورة الدستورية"، وبالأساس من خلال تعيين قضاة جدد محسوبين على التيار المحافظ. ويتهم اليمين هذه المحكمة بالتدخل في قضايا ليست لها، وبالتمادي في إلغاء قوانين سنّها الكنيست وتراها المحكمة غير دستورية. غير أن التهمة الأنكى هي أن المحكمة العليا تناصر الفلسطيني الذي يتوجه إليها مشتكياً من ممارسات الاحتلال أو المستوطنين في أراضي 1967، بالرغم من كونها تهمة لا تستند إلى أي قرائن جادّة. ويعمل اليمين على حصر دور المحكمة في تفسير القانون، لا في النظر في قضايا تخص السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). ويجادل عدد من قادة اليمين بأن المحكمة العليا أخذت لنفسها دوراً غير منصوص عليه في أي قانون، واستغلت عدم وجود دستور في إسرائيل وباتت تحكم على هواها، معتمدةً على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" من العام 1992 والذي ترى فيه المحكمة بمثابة دستور بديل، فيما يراه اليمين "أساس الشرّ" الذي اعتمدت المحكمة عليه لتلغي قوانين عاديّة للكنيست.
لعلّ من الأسئلة الهادرة التي أثارتها قضية قيام الشرطة الإسرائيلية بالتجسّس على هواتف مواطنين ومسؤولين وصحافيين بواسطة استخدام برنامج "بيغاسوس"، والتي ما زالت تشغل إسرائيل بكبار مسؤوليها وبرأيها العام ووسائل إعلامها منذ الكشف عنها من طرف ملحق "كالكاليست" (الملحق الاقتصادي التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت") قبل عدة أسابيع، السؤال المتعلق بما يمكن اعتباره موضعة الديمقراطية الإسرائيلية لا بالنسبة إلى المواطنين العرب فيها، إنما أساساً فيما يتعلق بجوهرها وتعاملها مع المواطنين اليهود.
وفي هذا الشأن يمكن اعتبار وزيرة الداخلية الإسرائيلية أييلت شاكيد ("يمينا") من آخر المسؤولين الإسرائيليين الذين تعاطوا مع هذا السؤال، حيث قالت في سياق مقابلة أجرتها معها "يديعوت أحرونوت" (9/2/2022) إن "دولة تتنصت فيها الشرطة على محتوى هواتف مديرين عامين حكوميين، وأفراد عائلة رئيس الحكومة، وقادة احتجاجات، وصحافيين، هي دولة لا تستحق أن توصف بأنها ديمقراطية... وآمل بأن يتضح أن التقارير بشأن تجسس الشرطة غير صحيحة وإلا فإن هذه نهاية الديمقراطية"!
الصفحة 18 من 45