حمل أول خطاب ليائير لبيد كرئيس للحكومة الإسرائيلية الانتقالية والذي ألقاه الليلة قبل الماضية، الكثير من الإيحاءات الدالة على فكره السياسي، وعلى ما يمكن أن يُضمره من المواقف التي تميّزه كزعيم لحزب وسط لا ينفك يؤكد ابتعاده عن اليسار وقربه من اليمين.
ومن هذه الإيحاءات أرى وجوب أن أشير إلى ما يلي:
أولاً، شدّد لبيد على أن إسرائيل دولة يهودية. وليس هذا فحسب، إنما أيضاً "هي الدولة القومية للشعب اليهودي"، إلى جانب تشديده على أن "إقامتها لم تبدأ في العام 1948 بل تعود إلى يوم عبور نهر الأردن من جانب يهوشع بن نون وما قام به من ربط الشعب اليهودي ببلاده، وربط القومية اليهودية بالوطن الإسرائيلي إلى أبد الآبدين".
مع اقتراب موعد تعيين رئيس جديد لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، ظهرت في منابر إعلامية عدة مقالات وتحليلات تحاول تحليل ماهية الإرث الذي سيتركه وراءه الرئيس الحالي لهيئة الأركان، الجنرال أفيف كوخافي، وكان بينها مقالات جزمت بأنه إرث خطر ويُستحسن التخلّي عنه، لا سيما في كل ما يرتبط بالمواجهات العسكرية المقبلة، أو بالحروب التي قد تخوضها إسرائيل في المستقبل.
على الرغم من مرور أربعين عاماً على الحرب التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "حرب سلامة الجليل" وتحوّلت بعد العام 2006 لتصبح "حرب لبنان الأولى" (صادفت ذكراها في حزيران الحالي)، وعلى الرغم من صدور العديد من كتب حول تلك الحرب، فما زالت هناك معلومات جديدة تتعلق بها يُتاح لها إمكان النشر الآن، ولا سيما من أرشيفات الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية، علماً بأنه لم يكن في مقدور المؤرخين البحث والتقصّي بشكلٍ حرّ في هذه الأرشيفات سوى بعد مرور عشرين عاماً على تلك الحرب.
بأصوات ما زالت قليلة، كي لا نقول معدودة، لكن شديدة الصفاء وبالغة الدلالة، تتواتر في إسرائيل في الآونة الأخيرة دعوة إلى التحرّر من العقيدة الصهيونية، بوصف ذلك الطريق الأنسب لمعالجة أهم أسباب استمرار الصراع مع الفلسطينيين، كما سنوضّح في سياق لاحق.
وهي دعوة أتت، بادئ ذي بدء، في الأعوام القليلة الفائتة، على خلفية سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي في العام 2018، وتنامت أكثر فأكثر في ظل الأزمة الحكومية التي شهدتها إسرائيل تحت تأثير محاولات وضع حدّ لعهد حُكم بنيامين نتنياهو، وأسفرت في نهاية المطاف عن تأليف حكومة جديدة ضم ائتلافها لأول مرة حزباً عربيا- إسلامياً، ما أجّج مواقف عنصرية.
صادفت يوم 20 أيار الحالي الذكرى السنوية الـ15 لوفاة أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور باروخ كيمرلينغ، الذي عرف بأبحاثه الليبرالية والنقدية للمجتمع الإسرائيلي والحركة الصهيونية.
كان كيمرلينغ، الذي توفي في العام 2007 عن عمر يناهز 67 عاماً، من أوائل علماء الاجتماع الإسرائيليين الذين حلّلوا الحركة الصهيونية انطلاقاً من نظرية ما بعد الكولونيالية، وبحث كثيراً في مسألة تجانس المجتمع الإسرائيلي وانسجامه. وبالرغم من أنه لم يختص في علم التاريخ فإنه كان يعتبر من بين مجموعة "المؤرخين الجدد" وكان مثقفاً من الذين تناولوا القضايا السياسية والاجتماعية المتعلقة بإسرائيل من خلال مقال أسبوعي ظلّ ينشره في صحيفة "هآرتس" على مدار أعوام، كما نشر مقالات عدة في الشأن العام في موقع "واينت" الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت".
قليلة هي الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ"قضية الأقلية العربية في إسرائيل"، وذلك في مناسبة إحياء ذكراها الـ74 التي صادفت يوم 15 أيار الحالي. وظلّت الغلبة من نصيب أصوات خلُصت إلى نتيجة مسبقة الأدلجة، فحواها أن إحياء النكبة يشكل أبلغ تعبير عن التمسك بالماضي وعدم الاستعداد لمماشاة الحاضر من خلال نسيان ما كان والتطلع من ثمّ إلى ما سوف يكون.
ومن الملفت أن بعض هذه الأصوات، بمن في ذلك تلك المحسوبة على اليمين الإسرائيلي الجديد، ذهبت إلى الاستنتاج بأن مشاركة حزب عربي (إسلامي) في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي (الواقف وراء حكومة بينيت- لبيد)، لأول مرة في تاريخ الأحزاب العربية التي لا تدور في فلك الأحزاب الصهيونية، يعتبر دليلاً واعداً على اصطفاف مأمول وسط صفوف الفلسطينيين في إسرائيل، بين فريق يؤثر التمسك بالماضي انطلاقاً مما حدث في إبان النكبة في الأقل، وبين فريق آخر حسم أمره بأن يتعامل مع الحاضر، ويدير ظهره إلى الماضي المرتسم تحت وطأة النكبة. وبرز بين هذه الأصوات المحلل السياسي لقناة التلفزة الإسرائيلية 12، عميت سيغل، وهو أحد الضاربين بسيف بنيامين نتنياهو وتيار اليمين الجديد، في سياق مقاله الأسبوعي الذي ظهر في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم الجمعة الماضي.
الصفحة 19 من 48