المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جلسة استماع في المحكمة العليا. (أرشيفية/ واي نت)
  • كلمة في البداية
  • 1186
  • أنطـوان شلحـت

ونحن نعايش اللحظة الراهنة ونقايسها بما قبلها، من الحق أن يُقال إن هذه هي المرة الأكثر وضوحاً وإقراراً التي تنشئ فيها صحيفة "هآرتس" افتتاحيتين تؤكد فيهما أنه في كل ما يتعلق بالبقرة المقدسة المسماة "أمن إسرائيل" فإن محكمة العدل العليا، رمز السلطة الثالثة، القضائية، ليست أكثر من ختم مطاطي في أيدي المؤسسة الأمنية التي لا يعلو عليها صوت، حتى لو كان صوت القانون أساس الدول الحديثة، أو صوت قيم العدالة الكونية.

فعلت "هآرتس" ذلك بفارق أقل من أسبوع بين الافتتاحية الأولى والافتتاحية الثانية، ما يعني أن الادعاء أعلاه، الذي تقول به على نحو شديد الجلاء ربما لأول مرة، أمسى ادعاء ذا يدين ورجلين.

لتوضيح جوهر ما قالته الصحيفة سنتوقف بقدر مناسب من التفصيل عند كل افتتاحية من الافتتاحيتين الاثنتين.

في الافتتاحية الأولى التي أنشأتها الصحيفة يوم 2 أيلول الحالي، أشارت إلى قضية الأسير الفلسطيني المضرب عن الطعام خليل عواودة وكيف رفضت المحكمة العليا الاستجابة إلى طلب استئناف لإطلاق سراحه في ضوء تدهور وضعه الصحي وتصاعد الخطر الداهم على حياته، نزولاً عند رغبة جهاز الأمن الإسرائيلي العام ("الشاباك")، وأقدمت على ذلك مرتين بفارق أيام معدودة، زاعمةً أن الإفراج عنه ينطوي على خطر وتهديد لسلامة الجمهور وأمن الدولة، في إشارة قوية إلى كونها رهينة هذا الجهاز، ثم وبقدرة قادر قرّر جهاز "الشاباك" الإفراج عنه، ما يثبت أن المحكمة لم تكن في هذه الحالة أكثر من وسيلة لتنفيذ إملاءات هذا الجهاز وتبني حججه وتوفير غطاء قانوني لممارساته الآثمة. 

ومما كتبته "هآرتس" في هذه الافتتاحية: لم تمض سوى 24 ساعة (على رفض المحكمة العليا الإفراج عن العواودة) وإذا بجهاز "الشاباك" يوافق، ويا للعجب، على الإفراج عن الأسير في الأول من تشرين الأول المقبل، على أن يمضي بقية الأيام حتى تاريخ الإفراج عنه كـ"إنسان حرّ" في المستشفى. في ضوء ذلك يتعيّن على قضاة المحكمة العليا أن يشعروا الآن بالخزي والعار. وإذا كانت ما زالت ثمة حاجة لإثبات أنه في كل ما يتعلق بالاحتلال في أراضي 1967 فإن المحكمة العليا هي ليست أكثر من ختم مطاطي أجوف أو هيئة تخضع بصورة أوتوماتيكية وعمياء إلى كل نزوات جهاز "الشاباك"، فإن هذه الحادثة هي بمثابة الدليل القاطع على هذا. ففي أحد أيام هذا الأسبوع كان العواودة خطراً ويشكل تهديداً، وفي الغداة لم يكن كذلك، وكل هذا بمصادقة المحكمة العليا التي تنقاد بشكل أعمى وراء جهاز "الشاباك" كما حدث في قضايا كثيرة في الماضي. 

وختمت الصحيفة: تكمن الوظيفة الأهم للمحكمة العليا في الإشراف على عمل جهاز "الشاباك" وكبحه وعدم التحول إلى خادمٍ أمينٍ له. غير أن هذه المحكمة أثبتت هذا الأسبوع أنها تخون وظيفتها المهمة هذه، وتجعل من نفسها أضحوكة للعالمين.

أما الافتتاحية الثانية والتي ظهرت يوم 8 أيلول الحالي، فتطرقت تحت عنوان "المحكمة العليا ضد الشفافية"، إلى قرار هذه المحكمة رفض طلب استئناف تقدمت به "هآرتس" مع شركاء آخرين لكشف النقاب عن برتوكولات اجتماعات الوزراء الإسرائيليين في ما يتعلق بإدارة أزمة فيروس كورونا. وتذرّعت هيئة المحكمة التي تألفت من ثلاثة قضاة وترأستها رئيسة المحكمة إستير حيوت، بأن موافقتها على الكشف عن هذه البروتوكولات يمكن أن تكون بمثابة سابقة خطرة تمهّد الأجواء للموافقة في وقت لاحق على كشف برتوكولات أخرى بما في ذلك ما يتعلق بمداولات أمنية. وعادت "هآرتس" وأكدت أنه من قرار إلى آخر في الآونة الأخيرة ترسّخ المحكمة العليا أكثر فأكثر مكانتها بوصفها ختماً مطاطياً لنظام الحكم في إسرائيل بدلاً من أن تكون كابحاً يقف في طليعة حراس تخوم الديمقراطية والشفافية.

كي نضع الأمور في نصابها الصحيح ينبغي أن نلفت النظر إلى حقيقة أنه إذا كان استنتاج "هآرتس" بشأن ارتهان المحكمة العليا لإرادة المؤسسة الأمنية وأحكامها هو الجديد غير المسبوق ربما، والذي تحيله الصحيفة إلى ما طرأ على دور وتركيبة هذه المحكمة من تحولات برسم هجوم حكم اليمين المستمر في إسرائيل عليها منذ أكثر من عقدٍ، فإن الارتهان نفسه ليس جديداً، وسبق لنا مرات كثيرة أن أشرنا إليه وأوردنا القرائن التي تثبته على نحو لا يقبل التأويل.

ينبغي عند هذا الحدّ أن نعيد إلى الأذهان أنه فيما يخص المحكمة الإسرائيلية العليا والسلطة القضائية عموماً، لا تنفك تتراكم حملات اتهام إلى هذه المحكمة، ولا سيما من طرف جهات يمينية ومحافظة، بأنها تقف حجر عثرة أمام ما توصف بأنها الحوكمة، عبر تدخلها في عمل الحكومة والكنيست. ولعلّ آخرها تلك التي يشنها أعضاء الكنيست من حزب الليكود وغيره الضاربون بسيف رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو تحت غطاء غاية إعادة السلطة القضائية إلى "وظيفتها المُهمة للغاية"، وهي تفسير المعايير التي أقرها المُشرّع لا تغييرها. وتشير هذه الحملات، كما أكدنا في الماضي، إلى أن معسكر اليمين في إسرائيل يعتقد أنه آن الأوان لتنفيذ مشروع أكبر يتطلع إليه منذ أعوام كثيرة، ومؤداه تكبيل يدي المحكمة العليا، ووقف ما سمي قبل نحو ثلاثة عقود بـ "الثورة الدستورية"، وبالأساس من خلال تعيين قضاة جدد محسوبين على التيار المحافظ. ويتهم اليمين هذه المحكمة بالتدخل في قضايا ليست لها، وبالتمادي في إلغاء قوانين سنّها الكنيست وتراها المحكمة غير دستورية. غير أن التهمة الأنكى من جميع التهم هي أن المحكمة العليا تناصر الفلسطيني الذي يتوجه إليها مشتكياً من ممارسات الاحتلال أو المستوطنين في أراضي 1967، بالرغم من كونها تهمة لا تستند إلى أي قرائن جادّة. ويعمل اليمين على حصر دور المحكمة في تفسير القانون، لا في النظر في قضايا تخص السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). ويجادل عدد من قادة اليمين بأن المحكمة العليا أخذت لنفسها دورًا غير منصوص عليه في أي قانون، واستغلت عدم وجود دستور في إسرائيل وباتت تحكم على هواها، معتمدةً على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" من العام 1992 والذي ترى فيه المحكمة بمثابة دستور بديل، فيما يراه اليمين "أساس الشرّ" الذي اعتمدت المحكمة عليه لتلغي قوانين عاديّة للكنيست.

لكن، مثلما بيّنا في السطور أعلاه، إذا كان اليمين في إسرائيل يعتقد أن هذه المحكمة تعتدي على حقوق السلطتين التنفيذية والتشريعية المُنتخبتين، فهذا لا يعني بأي حال أنها كذلك في كل ما يتعلق بالقضايا التي تندرج تحت مُسمّى "الأمن". ولتأكيد هذا يكفي أن نعيد التذكير بأنه في مطلع العام الحالي نشر محلل الشؤون الاستخباراتية والأمنية، يوسي ميلمان، شهادة في صحيفة "هآرتس" على خلفية ما بات يُعرف باسم "قضية بيغاسوس" (برنامج التجسس على الهواتف الخليوية التابع لشركة "إن. إس. أو" الإسرائيلية)، ذكر فيها أنه بعد نحو نصف قرن من العمل الصحافيّ أيقن بما لا يدع مجالاً لأيّ شكّ بأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعمل مثل دولة داخل دولة، وتفعل كل ما يحلو لها من دون رقابة برلمانية ناجعة، وبتعاون وثيق ودعم من الجهاز القضائي وعلى رأسه المحكمة العليا. وأكّد أنه يشعر بأن قوته قد نفدت، كما يطغى عليه إحساس بأنه يخوض حرباً لا طائل من ورائها على غرار الحرب العبثية التي خاضها دون كيشوت ضد طواحين الهواء.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات