حتى وإن اختلف المحللون في إسرائيل على تسمية ما يحدث في أراضي الضفة الغربية في الفترة الأخيرة على خلفية تصاعد الاشتباكات والعمليات المسلحة، ولا سيما في مناطق الشمال، وهل هي انتفاضة جديدة، الثالثة من حيث تسلسلها الزمني بعد انتفاضتي 1987 و2000، أو فترة تصعيد مرحلية، أو موجة عمليات فردية تغذّي بعضها البعض ثم ما يلبث بريقها أن يخبو، أو.. أو... إلخ، فإنهم لا يختلفون فيما بينهم على أنه من غير الممكن استمرار الوضع القائم في الأراضي المحتلة منذ 1967، وبالأساس من طرف الفلسطينيين وقواهم السياسية على شتى أطيافها.
وإن عدم الاختلاف هذا يكاد أن يكون أقرب إلى الإجماع، ومنه تُستخلص استنتاجات كثيرة أكثرها دلالة أن أي مصطلح يجري استخدامه لا يمكن أن تُكتب له الديمومة في تحقيق غاية تنحية جوهر القضية الفلسطينية من جهة، وفي أن يكون من الجهة الأخرى بديلاً راسخاً عن مصطلح حل أو في الحدّ الأدنى عن مصطلح تسوية هذه القضية. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى ما كتبه أخيراً أحد المحللين الإسرائيليين من أنه لا يمكن إزالة الموضوع الفلسطيني من جدول الأعمال. وأضاف: "عندما كان حجم ’الإرهاب’ مُنخفضاً، تحدثوا في إسرائيل عن مفاهيم إدارة الصراع، وفي العام الماضي يبدو أن الصراع هو الذي يديرنا".
بطبيعة الحال فإن ما يدفع إلى هذه الأوضاع في الضفة الغربية، بموجب الرؤى الإسرائيلية، ليس فقط سياسة الحكومة الإسرائيلية الرامية إلى الحفاظ على الوضع القائم، إنما أيضاً ما يدور خارج حدود ما يمكن توصيفه بـ"العلاقات الثنائية" بين إسرائيل والفلسطينيين. وهذا هو ما أشارت إليه "ورقة سياسات" جديدة صادرة عن لجنة أبحاث السياسات في "معهد أبحاث السياسات والاستراتيجيا" في جامعة رايخمان (معهد هرتسليا متعدّد التخصصات سابقاً) التي يترأسها اللواء في الاحتياط عاموس جلعاد، وجرى فيها تأكيد أنه من جملة ما يقف في خلفية الأوضاع الأخيرة في الضفة الغربية، غضب السلطة الفلسطينية الموجه ليس فقط نحو إسرائيل بل أيضاً نحو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لعدم قدرتها على إقناع إسرائيل بتغيير سياساتها (وهي عموماً لا تولي القضية الفلسطينية أهمية)، وبالأساس بشأن كل ما يتعلق بوتيرة نشاط الجيش الإسرائيلي العسكري وخصم الأموال التي يتم تحويلها إلى السلطة، هذا بالإضافة إلى الضغوط التي تمارسها الإدارة على السلطة، بهدف التراجع عن خطواتها في الأمم المتحدة للحصول على عضوية كاملة، إلى جانب الشعور بخيبة الأمل لأن زيارة بايدن إلى المنطقة لم تؤد إلى نتائج تُذكر لمصلحة الفلسطينيين. وتم التعبير عن هذا في اللقاءات المتوترة التي أجرتها مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط بربارا ليف في رام الله، وحقيقة أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض لقاءها.
يُشار هنا إلى أن "ورقة سياسات" صادرة مؤخراً عن "المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية" ("متفيم") بشأن موضوع الخطاب الدولي المتعلق بالدفع قدماً بـ"السلام الإسرائيلي- الفلسطيني"، لفتت، وإن بشكل ضمنيّ، إلى أن أحد أسباب عدم إقدام الحكومة الإسرائيلية الجديدة على ما أسمته "إطلاق خطوات سياسية كبيرة وذات أهمية في الموضوع الفلسطيني" يعود إلى أن اللاعبين الدوليين المركزيين، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، وضعوا الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني في درجة أولوية متدنية جداً، وباتوا لا يبدون أي اهتمام أو نيّة للتدخل الجادّ في حلبة هذا الصراع. كما أنه تنعدم في الفترة الراهنة أي نيات مُعلنة من طرف هؤلاء اللاعبين لممارسة أي ضغوط على الحكومة الإسرائيلية، وهم يكتفون بمطالبة إسرائيل بـ"عدم اتخاذ خطوات تصعيدية أو خطوات من شأنها مسّ فرص الحل السياسي المستقبلي"، وبموازاة ذلك يثمنون إعادة فتح قنوات الاتصال والحوار بين مسؤولين رفيعين من الجانبين وما نجم عن ذلك من خطوات محدودة تنطوي على "إجراءات حسن نية اقتصادية ومدنية تجاه السلطة الفلسطينية"، مع أنها تلمّح إلى أن هذه الإجراءات لا تشكل بديلاً لعملية تسوية بعيدة المدى للصراع. واستعانت الورقة بتقييم سائد حول الخطاب العالمي الراهن حيال الصراع، مؤداه أن المجتمع الدولي يجد الآن صعوبةً جمّة في فهم الموقف الدقيق الذي تتبناه الحكومة الإسرائيلية الجديدة في الشأن الفلسطيني، وذلك من جرّاء وجود تناقضات عميقة بين التصريحات والأفعال التي تصدر عن أوساط متعددة في الحكومة تشدّ إلى اتجاهات مختلفة، بما يعفي مُعدّي الورقة من تحديد هذا الموقف.
وينبغي أن نقول هنا إنه يجوز أن ثمة شدّاً إلى اتجاهات مختلفة داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية، مثلما تؤكد الورقة، لكن في الموضوع الفلسطيني على وجه التحديد لا يبدو أن سقف عملها مغاير بشكل كلّي لسقف عمل الحكومات السابقة التي توصف بأنها يمينية صرفة.
وثمة نقاط عدة أخرى تحضر لدى تناول موضوع الضفة الغربية والأراضي المحتلة منذ 1967، منها السؤال: إلى أي مدى استحال الاحتلال في هذه الأراضي إلى احتلال "مريح" أو "غير مُكلف"؟
في هذا الصدد تؤكد غالبية التحليلات الإسرائيلية أن الهبّة الفلسطينية في أيار 2021 سبق لها أن ثقبت هذا الوضع، لكنها لم تحرّك المياه في دواليب اللاعبين الدوليين ولا الإقليميين. لذا فإن الفلسطينيين يعيدون الكرّة الآن، بغية أن يثبتوا لإسرائيل أن الاحتلال مكلف لها، وأنه كان ولا يزال غير مريح بالنسبة إليهم.