المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تحليل أخباري
  • 828

الحكومة الجديدة لم تحظ بالتفهم حتي ليوم واحد: فلم تكد تمر 24 ساعة منذ انتهت جلستها الاولي حتي صار عليها ان تتصدي للعملية الخطيرة في حيفا، مع معطيات قاسية للتقصير الكبير في جباية الضرائب في شباط (فبراير)، ومع توترات أولية في تطبيق الاتفاق الائتلافي حول الخلاف علي مستقبل وزارة الاديان. واولئك ا لذين كان عليهم ان يبلوروا الرد الاسرائيلي علي تفجير الباص في شارع مورية في حيفا هم الذين انشغلوا بذلك في الحكومة السابقة ايضا: ارييل شارون وشاؤول موفاز ورئيس الاركان موشيه يعلون ورئيس المخابرات آفي ديختر والطواقم المهنية ضمن مسؤولياتهم. وفقط في تشكيلة الوزراء الذين يصادقون علي توصيات جهاز الامن ويطلقون التصريحات في اعقاب مثل هذا الحدث المأساوي طرأ تغيير: فقد انضم اليها اعضاء المجلس الجدد من شينوي والاتحاد الوطني.منذ التوقيع علي اتفاق اوسلو برز فارق في الشكل الذي ينظر فيه الجيش والمخابرات الاسرائيليان للمواجهة مع الفلسطينيين: الجيش الاسرائيلي يؤمن بالرد بالقوة، اما المخابرات فتتبني الحل الذي يقوم علي اساس التفاهم مع القيادة الفلسطينية. الجيش الاسرائيلي يوفر للقيادة السياسية التقديرات بأن علي المواجهة ان تنتهي بانتصار حاسم يلقن الفلسطينيين درسا بأن الارهاب ليس مجديا ويقتلع من قلوبهم الرغبة في العودة في اي وقت من الاوقات في المستقبل الي مسار العنف، اما المخابرات فتبذل كل ما في وسعها لتوفير معلومات كي يتحقق هذا الهدف، ولكن تقديراتها، وكذا موقف رئيسها، تعبر عن الفهم بانه لا تكفي القوة لتسوية النزاع.

 

العملية في حيفا جاءت في اعقاب سلسلة العمليات الواسعة التي قام بها الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة واوقعت الكثير من الضحايا بين السكان المدنيين. وحذرت حماس من انها سترد الصاع بالصاع. ومن زاوية نظر جهاز الامن كان لاقتحامات العمق في القطاع منطق ميداني ومبرر سياسي واخلاقي: فهي جزء من الدائرة الدموية غير المنقطعة التي لم تخلقها اسرائيل.

وتصعيد الاسابيع الاخيرة بدأ في منتصف شباط (فبراير) بالعبوة التي اصابت الدبابة وقتلت ثلاثة جنود والعبوة التي اصابت في الغداة دبابة اخري وقتلت اربعة جنود. ومن زاوية نظر فلسطينية، فان هذه العمليات هي رد علي اجراءات عسكرية اسرائيلية سابقة. وهذه مجرد حسابات سطحية تحتها تجري مصالح ومؤامرات ايران وحماس وياسر عرفات وشخصيات فلسطينية اخري بهدف التشويش علي محاولة تحقيق وقف اطلاق نار واجراء اصلاحات في القيادة الفلسطينية. كما انه في الجانب الاسرائيلي ايضا توجد قوي تنظر بقلق الي امكانية التوصل الي تسوية مع الفلسطينيين بما يتبعه من تنازلات، ولمواقفهم تأثير علي عملية اتخاذ القرارات.

وفي الخلفية تقترب الحرب الامريكية ضد العراق والتي صارت عاملا اساسيا في تحديد موقف حكومة اسرائيل من المواجهة مع الفلسطينيين، مثلما تبين ليلة اول امس في القرار الذي اتخذه المجلس الامني الجديد في اعقاب العملية في حيفا. فقد قرر المجلس الوزاري الامني اجتياح غزة وورد اقتراح (من سيلفان شالوم، للمفاجأة) بتأجيله 24 ساعة لاستنفاد المنفعة الاعلامية والسياسية من مشاهد الفظاعة للعملية. واحد في المجلس لم يوصِ بطرد عرفات او بتنفيذ عقاب استثنائي في حجمه. وشارون حث علي الاخراج الي حيز التنفيذ علي الفور اجتياحا محدودا الي غزة لانه لا يمكن معرفة ماذا سيكون غدا . وهكذا فقد يكون المح بان الحرب في العراق تقترب. وعلي اي حال فان الحرب المرتقبة ترسم الفوارق في منهجي الجيش والمخابرات الاسرائيليين.

* مفهوم الجيش الاسرائيلي

في آب (اغسطس) 1995 علمت اسرائيل ان عوض السلمي يخطط لعملية بسيارة مفخخة. فتوجهت للسلطة الفلسطينية وطلبت اعتقاله. واستجاب الامن الوقائي للوهلة الاولي واعتقل السلمي وثلاثة من مساعديه. أما عمليا فقد وضع رجال الامن الوقائي تحت تصرف السلمي شقة وزودوه بمسدس وشرحوا له بأنهم هكذا يحمونه من الذراع الطويلة للجيش الاسرائيلي. وقالوا لاسرائيل انهم حاكموه وسجنوه. وعلي خلفية اعمال التخريب التي صارت متواترة رافق رئيس شعبة الاستخبارات في حينه موشيه يعلون، وزير الخارجية شمعون بيريس للقاء مع ياسر عرفات عرض فيه الاسرائيليون المعلومات عن مخططات العمليات لحماس.

وذكرت اسماء 35 مخربا برئاسة يحيي عياش ومحمد ضيف، طلب الاسرائيليون من عرفات اعتقالهم ومنعهم من تنفيذ مبتغاهم. وعلمت اسرائيل بان عرفات توصل الي تفاهم مع يحيي عياش ومحمد ضيف علي تجميد عملياتهم حتي انتخاب مؤسسات السلطة الفلسطينية. واوصي الجيش الاسرائيلي رئيس الوزراء اسحق رابين توجيه انذار لعرفات بالعمل فورا لاحباط مؤامرات التخريب، او المخاطرة برد اسرائيلي بالقوة. ورابين الذي قرر وصف الارهاب الفلسطيني بالتهديد الاستراتيجي، قال انه يوافق علي التوصية، ولكنه سينفذها بعد ان ينتخب عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية.

في ايلول (سبتمبر) 1995، قتل رابين، وفي كانون الثاني (يناير) 1996 صفت اسرائيل يحيي عياش، وفي شباط (فبراير) 1996 واذار (مارس) 1996 وقعت اعمال التخريب القاتلة في الباصات والتي اوقعت اصابات عديدة. وعندها فقط وجه رئيس الوزراء شمعون بيريس تهديدا حادا لياسر عرفات الامر الذي حثه علي اعتقال 1200 شخص. وسارعت السلطة الفلسطينية الي ابلاغ اسرائيل بأن بين المعتقلين عوض السلمي ونسيت علي ما يبدو انه كان معتقلا لديها منذ نصف سنة. وعندما حاكمت السلطة مخربين علي دورهم في العمليات لم تتهمهم بالقتل بل ببنود اخري، وهكذا حكمت عليهم بعقوبات خفيفة نسبيا.

الخطاب (او المفهوم) الذي تجذر في قيادة الجيش الاسرائيلي في اعقاب هذه الاحداث حمل عرفات المسؤولية الشخصية عن الارهاب الفلسطيني، وجراء ذلك عن فشل اتفاق اوسلو. ورئيس الاركان يعلون، في مناصبه كرئيس لشعبة الاستخبارات، وقائد المنطقة الوسطي ونائب رئيس الاركان، حمل معه الفهم بأن عرفات لم يقصد منذ البداية تنفيذ الاتفاق بروحه، اي هجر الارهاب وتسوية الخلافات مع اسرائيل بالحوار، وكان شريكا في التقدير (بني بيغن كان الناطق الواضح بلسانه في الهيئة السياسية والساحة العامة)، بأن عرفات ضلل اسرائيل ولم يكن ممكنا منذ البداية التوصل معه الي تسوية حقيقية لانه لم يشطب تطلعه لالغاء وجودها كدولة يهودية، وهو غير قادر علي التنازل عن مطلب تحقيق حق العودة.

وتعتقد هذه المدرسة بأن القيادة السياسية التي كانت أسيرة مفهوم اوسلو، امتنعت عن الحساب العملي مع عرفات علي اعمال الارهاب رغم انها حذرته منها مسبقا. وبث هذا التقصير ضعفا ادي بالزعيم الفلسطيني الي الاستنتاج بأن من حقه مواصلة اعطاء الدور الاخضر للعنف. وحسب هذه الرواية فان القيادة السياسية كانت اسيرة مفهوم اوسلو لدرجة انه حتي بعد اندلاع انتفاضة الاقصي والاتفاقات التي توصل اليها بيريس مع عرفات قد انتهكت بنفس اليوم، واختلف الوزير بيريس مع فكرة شعبة الاستخبارات بأن هذا برهان خالد لخيانة رئيس السلطة الفلسطينية وصرخ علي قادة الجيش الاسرائيلي: انه فقد السيطرة، وانتم تصفونه بالاستراتيجي .

والمخابرات أيضا كانت شريكة في الاتصالات مع عرفات. المخابرات هي الجهة التي جلبت المعلومات عن مخططات حماس وهي التي قدمت المعطيات اللازمة لتصفية المهندسين ومساعديهم. ومع ذلك فان تقديراتها لما يجري ولاسباب ذلك انتجت خطابا مغايرا. وقادة المخابرات، يعقوب بيرس وكارمي غيلون وعامي ايالون تحدثوا بشكل أخذ بالحسبان تعقيد الوضع في السلطة الفلسطينية والاضطرارات التي يعمل في نطاقها عرفات. وكانوا أقل حزما من قادة الجيش في تشخيصهم الجارف لدوافع عرفات. ورفعوا الي القيادة السياسية بتقديرات حللت تردد عرفات من المواجهة مع حماس برفضه الدخول في حرب اهلية واشاروا الي المكانة الهامة لهذه الحركة بين الجمهور الفلسطيني. بل انه في فترة بيري جري الحديث عن ان عرفات يتنازل عن حق العودة وسيكون مستعدا للموافقة علي اتفاق لا يتضمن انسحابا اسرائيليا كاملا الي خطوط 1967.

وبعض هذه الفروق تبرز الان ايضا في مواقف المخابرات تجاه السلطة الفلسطينية وفي توقعاته من التأثير المرتقب للحرب في العراق علي المواجهة.

* تشخيصات المخابرات

رسميا، امتنعت المخابرات عن التنبؤ بآثار الحرب في العراق. رسميا تركز المخابرات علي جمع المعلومات عن امكانية ان يولد الهجوم الامريكي نشاطا تخريبيا جديدا في الضفة والقطاع. واستنتاجه الحالي هو ان ليس فيها خلايا غافية ستستيقظ للعمل في اعقاب الحرب. ومع ذلك فانه تصدر عن المخابرات تقديرات اكثر عموما وهي تختلف عن تقديرات الجيش.

في بداية الاسبوع نشرت انباء عبرت عن الرأي الذي قالته المخابرات في المباحثات الداخلية: عرفات لن يختفي من الساحة الفلسطينية، وهو سيبذل كل ما في وسعه للحفاظ علي نفوذه. ليس لعرفات سيطرة علي عمليات الارهاب، وان كان لا تزال لديه قدرة بالتأثير علي حجومه. ولا يوجد اي تأكيد بان الحرب في العراق بالفعل ستحدث سلسلة من ردود الفعل تؤدي الي تغييرات في تشكيلة القيادة الفلسطينية والي الاستعداد من جانبها للتوصل الي وقف للنار والحوار السياسي. والارهاب الفلسطيني لا يكمن في عرفات وحده، وبالتالي فان طرده من السلطة، او شل فعاليته، لن يؤدي بالضرورة الي وقف الاعمال المعادية لاسرائيل. وابعاده من مناطق السلطة الفلسطينية لن يلغي دوره فيما يجري داخلها.

هذه التقديرات تختلف مع المفهوم السائد في الجيش الاسرائيلي والمقبول علي القيادة السياسية. فارييل شارون وشاؤول موفاز يرتقبان الحرب الامريكية في العراق انطلاقا من الافتراض بأنها ستؤدي الي تغييرات كبيرة في موقف العالم العربي من الارهاب بما في ذلك الارهاب الفلسطيني. وفي قيادة الجيش الاسرائيلي باتوا يتحدثون مؤخرا ليس فقط عن تغييرات قريبة في القيادة الفلسطينية وفي موقفها من اسرائيل، بل وايضا عن الفرصة التي تبدو ستتوفر لاستئناف العلاقات مع دول شمالي افريقيا والخليج.

ويقدر الجيش الاسرائيلي، بأن حملة السور الواقي خلقت كتلة حرجة حركت الجماعة التي تحيط بعرفات للتنكر والبحث عن بديل له. والضغط العسكري الاسرائيلي الذي يتواصل منذئذ يحث هذه المسيرة، واول ثماره ستقطف الاسبوع المقبل، مع انتخاب رئيس وزراء (علي ما يبدو ابو مازن) ومع المصادقة علي الاصلاحات في مبني السلطة وتوزيع الصلاحات في القيادة. خطاب بوش في حزيران (يوينو) 2002 اعطــــي هذا الاتجاه زخما كبيرا، وهو يضع السلطة الفلسطينية (واسرائيـــل ايضا) امام الحاجة لاتخاذ القرارات الحاسمة. ولهذا السبب فان النبرة التي تنطلق في قيادة الجيش الاسرائيلي هي نبرة متفائلة: في غضون عدة اسابيع ستتم انعطافة كبري تؤدي الي شل فعالية عرفات ووقف النار ومسيرة سياسية وانتعاش اقتصــــادي. اما توقعات المخابرات فأقل وردية. في غضون عدة اسابيع سيتبين اي من هذين التصورين اقرب الي الواقع.

(عوزي بنزيمان - هارتس 7 اذار)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات