المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 151
  • وليد حباس

اعتمدت العقيدة العسكرية الإسرائيلية على ثلاث ركائز: الردع، الإنذار المبكر، والانتصار الحاسم، ولاحقاً أضيفت إليها ركيزة رابعة هي "الدفاع الشامل". فشلت العقيدة الأمنية الإسرائيلية مرتين: في أكتوبر 1973 وأكتوبر 2023، حيث لم تتمكن إسرائيل من ردع أعدائها أو التنبؤ بالهجمات.

هذه المقالة تركز على الأبعاد الفلسفية والسوسيولوجية لمفهوم الردع في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وأسباب فشله، على ضوء التقييمات الإسرائيلية التي ظهرت في الأشهر الأخيرة.

مبدأ الردع: هل يصلح مع الجهاديين؟

مبدأ الردع في العقيدة الأمنية الإسرائيلية يُعتبر حجر الزاوية في تصور إسرائيل لوجودها واستمراريتها في بيئة تعتبرها معادية بطبيعتها. يرتكز الردع على خلق صورة ذهنية راسخة في وعي "العدو" بأن أي هجوم على إسرائيل سيُقابل برد غير متناسب، مدمر وسريع.[i] في السنوات الأخيرة، تطور هذا المبدأ ليشمل أدوات سيبرانية، تقنيات الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، مما يعزز السيطرة الكاملة على المجالين الأمني والنفسي.

من منظور فلسفي، يقوم الردع على مبدأ استباقي يُجسّد ما وصفه ميشيل فوكو بـ "السلطة الانضباطية"،[ii] حيث تتمّ ممارسة القوة عبر تشكيل سلوك العدو ودفعه إلى رسم توقّعات مفترضة حول مصيره في حال قرر مهاجمة إسرائيل. الدولة التي تستند إلى مبدأ الردع، مثل إسرائيل، تُنتج مجالاً نفسياً يتعلق بـ "العقاب المحتمل"، ويعيد تشكيل وعي العدو عبر تأسيس "منطق الطاعة" بدون حاجة دائمة إلى استخدام القوة المادية. من هذا المنظور، يمكن استحضار فريدريك نيتشه الذي رأى في العقاب أداة لتشكيل الذاكرة الجماعية وربط الأفعال بعواقبها؛[iii] وهو ربط يفترض العقلانية في الحسابات إذ إنه يربط جدوى الأفعال في مآلاتها المحتملة. وعليه، تصبو إسرائيل من مبدأ الردع إلى تحويل الطاعة إلى عادة متجذّرة في نفس العدو، بحيث تنتقل السلطة من مجرد السيطرة المادية إلى السيطرة على النوايا والقرارات.

لكن هذا الفهم الفلسفي للردع، الذي يُشكّل أحد الأسس العميقة لعقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، يقوم على افتراض خفيّ لم تمحصه إسرائيل بشكل كاف ولم تطرحه للنقاش الجاد: الافتراض هو أن "العدو" يفكّر وفقاً لــ "المنطق العقلاني" نفسه الذي تعتمده إسرائيل وهو منطق العقلانية الحداثية التي تقوم على موازنة دقيقة بين الفعل ونتيجته، أو بين الربح والخسارة. غير أن هذا الافتراض قد لا ينطبق على المنظمات "التضحوية"، مثل حركة حماس، والتي لا تنطلق فقط من منطق عقلاني مادي، بل تضيف اليه أيضاً تصورًا دينيًا- آخرويًاا يثمّن الشهادة في سبيل الله والتضحية في سبيل الوطن باعتبارها طريقاً إلى الخلاص. وعليه، فإن منظمات المقاومة الجهادية تجعل الردع التقليدي، المبني على التهديد بالعقوبة والخسارة، غير فعّال وغير قادر على ردع أفعالها أو نواياها، وهذا ما لم تقرأه إسرائيل بشكل كاف.

جدلية الإنذار المبكر: لا أحد يصدق "محامي الشيطان"!

لكن مبدأ الردع ليس منفصلاً تماماً عن مبدأ الإنذار المبكر في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إنما تجادل معه بشكل حثيث. على المستوى الأولي التبسيطي، يمكن النظر إلى مفهوم الإنذار المبكر كمجرد أداة استخباراتية تهدف إلى رصد مؤشرات هجومية وشيكة— هل سيقع الهجوم أم لا، ومتى؟ لكن هذا الفهم يظل سطحياً إذا لم نأخذ بعين الاعتبار بُعداً أعمق وأكثر تعقيداً وهو القدرة على تقدير نوايا العدو وعزمه على شنّ هجوم، ليس فقط بوصف الهجوم خطة عسكرية ملموسة، بل كخيار سياسي– أيديولوجي، يتشكّل في الخيال الجمعي ويتغلغل في البنية الثقافية والتنظيمية للعدو.

من هذا المنظور، يتقاطع الإنذار المبكر مع البعد الفلسفي لمفهوم الردع. فحين تعوّل الدولة بشكل مفرط على فعالية الردع، وتفترض أن التهديد بالعقاب كافٍ لردع العدو، فإنها تُغفل تدريجياً أهمية فهم دوافع العدو العميقة وعزمه على المواجهة. في هذا السياق، الردع لا يعود فقط ممارسة أمنية، بل يتحول إلى أيديولوجيا خلقت لدى إسرائيل إحساساً زائفاً بالسيطرة وقوضت أدواتها في الإنذار والاستشعار المبكر. فالتعلّق بثقة مفرطة في الردع قد يؤدي إلى تآكل الحسّ الاستراتيجي المرتبط بفهم "العدو" كفاعل اجتماعي– سياسي له منطقه الخاص ونظامه القيمي المختلف.

في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل فشلت في التعلم من إخفاق 1973. فبعد حرب 1973، وعلى ضوء نتائج لجنة أغرانات التي أوصت بتعزيز "التفكير النقدي" داخل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، أسست إسرائيل وحدة تعرف باسم "وحدة محامي الشيطان"، وهي وحدة صغيرة لكنها تتمتع بأهمية استراتيجية داخل هيئة الاستخبارات العسكرية. تتمثّل مهمتها الأساسية في فحص الفرضيات والتقديرات الاستخبارية بشكل نقدي ومهني، من خلال أداء دور "محامي الشيطان" أو ما يُعرف في التقاليد الآرامية بـ Ifcha Mistabra (أي: يبدو أن العكس هو الصحيح). مثلا، عندما تشير التقييمات السياسية والأمنية بأن حماس مردوعة، وغير مستعدة للمواجهة، تقوم وحدة "محامي الشيطان" برسم سيناريوهات تستند إلى مبدأ (ماذا لو العكس هو الصحيح!). وباختصار، تعمل هذه الوحدة داخل جهاز الاستخبارات "أمان" ككيان مستقل ضمن قسم الأبحاث، وتُكلف بمهمة اختبار السيناريوهات غير المتوقعة، وطرح أسئلة مقلقة حول الفرضيات السائدة، واقتراح قراءات معاكسة أو مضادة للتوجه العام.

وفي العام 2024، كُشف أن الوحدة أصدرت تحذيرات مباشرة في 21 و26 أيلول 2023 لجميع القيادات السياسية والعسكرية بشأن هجوم محتمل من حماس، ما أعاد النقاش حول دورها الحيوي وقدرتها على رصد المخاطر خارج الإطار التقليدي للتحليل الاستخباري.[iv] ولكن، مع ذلك، يشير تقرير صادر عن معهد القدس للدراسات الإستراتيجية والأمنية بأن عمل "وحدة محامي الشيطان" الاستخباراتية تحول إلى عمل شكلي، بيروقراطي، ولم تعد المستويات الأمنية تأخذها على محمل الجد.[v]

ولا بد من التذكير مرة أخرى أن إسرائيل كانت قد شكّلت استراتيجيتها الأمنية حول فكرة أن التهديد بردّ انتقامي مدمّر كفيل بكبح جماح أي هجوم محتمل. فبعد حرب 2006 مع حزب الله، وحرب 2014 مع حماس، بنت إسرائيل ما يُعرف بـ"معادلة الردع"، معتبرة أن العدو أصبح قابلاً للاحتواء، ويمكن التعايش معه ضمن منطق إدارة الصراع. غير أن هجوم 7 أكتوبر شكّل لحظة انكشاف: لأن إسرائيل رفعت مبدأ الردع إلى مرتبة القيمة العليا، القابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، وقعت في فخّ تصوّر نمطي ومبسّط لطبيعة العلاقة مع خصومها، خاصة مع حركة حماس. هذا التصوّر، كما تعكسه التقييمات الإسرائيلية نفسها، افترض إمكانية "إدارة الصراع" عبر آليات ردعية عقلانية، تقوم على مبدأ الثواب والعقاب، وكأن حماس تتبنى المنطق السياسي نفسه الذي تُؤمن به الدولة الحديثة الليبرالية: منطق حسابي يُوازن بين الربح والخسارة، الردع والعقوبة، التكاليف والمكاسب.

من هنا، بدأ يتآكل الأساس المعرفي الذي بُني عليه الردع، ما دفع بإسرائيل إلى إعادة النظر في استراتيجيتها الأمنية. التقديرات الحالية تذهب إلى أن الردع الكلاسيكي لم يعد مجدياً مع أطراف غير دولانية ذات عقيدة جهادية. وبدلاً من ذلك، بدأت تظهر دعوات نحو تبني مفهوم "الحسم"، أي القضاء التام على العدو، ما يعني الانتقال من منطق الردع النسبي إلى معادلة صفرية: إما نحن أو هم. هذا التحول لا يعكس فقط أزمة في فعالية الردع، بل يكشف أيضاً حدود فهم الدولة لمجتمع العدو، وللطبقات العميقة التي تحرّك فعله وسلوكه خارج معايير العقلانية الغربية.

 

[i] جمال زحالقة، "من الردع إلى المنع الاستباقي: كيف يتحول الأمن القومي الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر؟"، قضايا إسرائيلية، العدد 93 (ربيع 2024).

[ii] Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, trans. Alan Sheridan (New York: Vintage Books, 1995), 170–194.

[iii] Friedrich Nietzsche, On the Genealogy of Morality, trans. Carol Diethe, ed. Keith Ansell-Pearson (Cambridge: Cambridge University Press, 2007), 35–55.

[iv] The Times of Israel. "Head of IDF Devil’s Advocate Unit Tried Repeatedly in September to Warn of Possible Hamas Attack." January 6, 2024. See: https://www.timesofisrael.com/head-of-idf-devils-advocate-unit-tried-repeatedly-in-september-to-warn-of-possible-hamas-attack/.

[v] Inbar, Efraim. " Time to Revise Israel’s Military Doctrine.", The Jerusalem Institute for Strategy and Security, March 17, 2025. See: https://www.jns.org/column/time-to-revise-israels-military-doctrine/.

المصطلحات المستخدمة:

جمال زحالقة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات