بعد مرور شهر على بداية الحرب ضد قطاع غزة، تستمر إسرائيل في ملاحقة فلسطينيي الداخل في مختلف جوانب حياتهم اليومية. وفي هذه الأثناء انتقلت المضايقات من مرحلة التحقيقات ومتابعة الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى مرحلة إصدار لوائح اتهام بناءً على قانون "مكافحة الإرهاب" بطريقة لم يسبق لها مثيل. وحتى تاريخ 7 تشرين الثاني 2023، وصل عدد حالات التحقيق والاعتقال التي تم التبليغ عنها إلى مركز عدالة القانوني إلى 215 حالة (منها 58 حالة في القدس المحتلة)، بما في ذلك 58 حالة للنساء تم إجراء تحقيقات أو اعتقالات بحقهن، بالإضافة إلى تقديم 27 لائحة اتهام في الداخل.
"الطريق إلى إخفاق السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، أو "كيف وصلنا إلى يوم فقدان السيادة الإسرائيلية لنحو يومين كاملين"، حسبما وصفه أحد المحللين الأمنيين ـ الاستراتيجيين الإسرائيليين، هما اثنان فقط من بين عناوين كثيرة تُطرَح عبر صياغات مختلفة تبعاً لاختلاف خلفياتها وتوجهاتها ومقاصدها، لكنها تلتقي، كلها، في الإجماع على أن ما حصل يوم 7 تشرين الأول لم يكن مجرد خطأ استخباراتي أو عطل عملانيّ موضعيّ، وإنما كان نتيجة تراكمية حتمية تمثلت في انهيار شامل مدوٍّ للرؤية الأمنية والسياسية التي تربعت على صدارة ما يمكن تسميته بـالفكر السياسي ـ الأمني وتحكّمت بمُخرجاته خلال العقود الأخيرة، وثمة من يحصرها في الفترة منذ عودة بنامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 2009.
شكلت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر لحظة فارقة في خطاب "اليسار" أو ما يطلق عليه اسم "معسكر السلام" في إسرائيل، حيث ظهرت بوادر مراجعات ذاتية لدى اليسار الإسرائيلي فيها نوع من جلد الذات، ليس فقط نابعة من الأحداث، وهي ذات أثر كبير عليه بسبب تأطيرها بأنها "هجمات ضد اليهود لأنهم يهود"، بل أيضاً ناجمة عن تعرّض أجزاء من هذه الشريحة نفسها إلى تلك الهجمات في "غلاف غزة". في هذا الصدد اختلطت الصدمة السياسية والأيديولوجية مع الصدمة والألم الشخصي لدى شرائح اجتماعية في هذا المعسكر.
تهدف هذه الورقة إلى إجراء مراجعة وقراءة أولية لخطاب اليسار أو "معسكر السلام" في إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ولن تفي هذه الورقة الموضوع حقه، ولكنها بداية لدراسة بهذا الشأن.
في تعقيبه على بدء العملية البرية في قطاع غزة، قال رئيس الولايات المتحدة جو بايدن: "يجب أن يكون هناك تصور لما سيأتي بعد الحرب... من وجهة نظرنا يجب أن يكون هناك حل على أساس دولتين". منذ بدء الانقسام الفلسطيني ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تم وضع مسار "حل الدولتين" على الرف إلى حين توحد الفلسطينيين تحت قيادة واحدة. اليوم، وبعد أن وضعت إسرائيل لنفسها هدفا حربيا يكمن في "إسقاط حركة حماس عن السلطة في غزة"، تبرز ثلاثة أسئلة لا إجابات عليها حتى الآن: 1) هل هذا الهدف قابل للتطبيق؟ 2) في حال تم تطبيقه، ما هو المستقبل السياسي للقطاع؟ 3) هل هذا المستقبل السياسي، الذي ما يزال غير واضح المعالم، سوف ينقل ملف "حل الدولتين" من الرف ليضعه كاستحقاق أمام الحكومة الإسرائيلية من جديد؟
من الصعوبة بمكان إيجاد أجوبة إسرائيلية واضحة على هذه الأسئلة. ولكن هذه الورقة تجول فيما بين هذه الأسئلة وتهدف إلى شرح وتفكيك العقيدة التي نظمت علاقة إسرائيل مع قطاع غزة قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي عقيدة تتأسس على عرقلة مسار حل الدولتين. وتحاول الورقة أن تنظر في الثابت والمتحول في هذه العقيدة.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سلّطت العديد من التقارير والتحليلات الضوء على علاقة إسرائيل بالدول حول العالم. وعلى الرغم من أن العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية الكبرى قد نالت الاهتمام الأكبر في هذه التقارير باعتبارها دولاً منحازة لإسرائيل بشكلٍ شبه مُطلق، إلّا أن هناك من التفت إلى ضرورة أن تركّز إسرائيل أيضاً على علاقتها مع الدول المقابلة للمعسكر الغربي الذي تقوده الصين وروسيا في محاولة لفهم موقفها من الحرب الدائرة للبناء على ذلك في المستقبل بما يضمن مصالح إسرائيل. في هذه المساهمة، نستعرض أبرز ما جاء في تقرير نشره "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" في جامعة تل أبيب بعنوان "الحرب الدائرة على قطاع غزة أضرّت بمكانة الصين في الشرق الأوسط"، أعدّته غاليا لافي، المختصة في العلاقات الإسرائيلية- الصينية.
تكاثرت في الأيام الأخيرة، التقارير الاقتصادية الإسرائيلية، خاصة المتخصصة منها، وأخرى رسمية، والتي تشير إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي يغوص منذ الآن، في أزمة اقتصادية كتلك التي شهدها في مطلع سنوات الألفين، في فترة العدوان على الضفة والقطاع الذي جوبه بالانتفاضة الثانية، وبحسب أبرز التقارير فإن 19% من القوة العاملة، توقف عملها لأسباب متعددة، منها تجنيد الاحتياط (حوالي 8%)، في حين أن قطاعات اقتصادية باتت مشلولة وأخرى على وشك الشلل. في المقابل، وهذا ما يقلق إسرائيل، فإن معاهد التقديرات الاقتصادية العالمية باتت تطرح مستقبلا سوداويا للاقتصاد الإسرائيلي، وفي خضم كل هذا، تكاثرت الدعوات لاستقالة عاجلة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، على خلفية فشله في الإدارة العامة للدولة، وبضمنها الاقتصاد.
الصفحة 54 من 338