عكست سلسلة التقارير، التي ظهرت في الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية خلال الأسبوع المنتهي، حالة التخبّط في وزارة المالية وفي أوساط الحكومة الإسرائيلية بشكل عام في كل ما يتعلّق بتقدير الكلفة الإجمالية للحرب على غزة، من النواحي العسكرية وما يرافقها، وأيضا الصرف على الجانب المدني، فأحد هذه التقارير تحدث عن أكثر من 50 مليار دولار، ليلحق به تقرير يتحدث عن كلفة 16 مليار حتى نهاية العام الجاري، إلا أن محللين وخبراء يقدرون بأن الكلفة ستمتد لسنوات، خاصة في الجانبين الاقتصادي والمدني، وفي هذه الأجواء، تدخل بنك إسرائيل المركزي بقوة لوقف تدهور قيمة الشيكل، وأعاده إلى قيمته قبل الحرب، لكن محللين قالوا إن مسببات التدهور ما تزال قائمة. وبالرغم من هذا، تحدثت تقارير عن انتعاش محدود في الاستهلاك الفردي، رغم أنه ما زال متدنيا، مقارنة مع فترة ما قبل الحرب.
أطلقت إسرائيل على العملية العسكريّة البرية في قطاع غزة اسم "المناورة البريّة" بدلاً من تسميات كانت تستخدمها في السابق (الدخول، الاقتحام، الغزو البري)، وهو الأمر الذي أُثير حوله الكثير من الجدل في بداياته؛ إذ بدا وكأن هناك تياراً رافضاً لـ"المناورة البرية" لأسباب مختلفة، كان من أبرزها وجوب تأجيل "المناورة" إلى حين تحقيق اختراق حقيقي في مسألة المختطفين/ المأسورين وإعادتهم بواسطة صفقة تبادل، أو لسبب أن القوات البرية (وتحديداً قوات الاحتياط) غير جاهزة للقتال البري وبحاجة إلى فترة من التدريب قبل الالتحاق بالمعركة (موقف الجنرال السابق إسحق بريك مثلاً).[1]
صحيح أن هذا المفهوم قد يبدو مفهوماً بشكل ضمني (من حيث أن نتيجته الدخول البري للقطاع)، لكن الإبحار في المعاني والأبعاد العسكرية للمفهوم يحتمل أموراً أخرى، وهو ما سنحاول أن نتناوله في هذه المساهمة التي ستركّز على مفهوم "المناورة البريّة"، إلى جانب الفرص والمعيقات في تنفيذها كما ورد في الآراء والتحليلات الإسرائيلية.
بعد مرور شهر على بداية الحرب ضد قطاع غزة، تستمر إسرائيل في ملاحقة فلسطينيي الداخل في مختلف جوانب حياتهم اليومية. وفي هذه الأثناء انتقلت المضايقات من مرحلة التحقيقات ومتابعة الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى مرحلة إصدار لوائح اتهام بناءً على قانون "مكافحة الإرهاب" بطريقة لم يسبق لها مثيل. وحتى تاريخ 7 تشرين الثاني 2023، وصل عدد حالات التحقيق والاعتقال التي تم التبليغ عنها إلى مركز عدالة القانوني إلى 215 حالة (منها 58 حالة في القدس المحتلة)، بما في ذلك 58 حالة للنساء تم إجراء تحقيقات أو اعتقالات بحقهن، بالإضافة إلى تقديم 27 لائحة اتهام في الداخل.
"الطريق إلى إخفاق السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، أو "كيف وصلنا إلى يوم فقدان السيادة الإسرائيلية لنحو يومين كاملين"، حسبما وصفه أحد المحللين الأمنيين ـ الاستراتيجيين الإسرائيليين، هما اثنان فقط من بين عناوين كثيرة تُطرَح عبر صياغات مختلفة تبعاً لاختلاف خلفياتها وتوجهاتها ومقاصدها، لكنها تلتقي، كلها، في الإجماع على أن ما حصل يوم 7 تشرين الأول لم يكن مجرد خطأ استخباراتي أو عطل عملانيّ موضعيّ، وإنما كان نتيجة تراكمية حتمية تمثلت في انهيار شامل مدوٍّ للرؤية الأمنية والسياسية التي تربعت على صدارة ما يمكن تسميته بـالفكر السياسي ـ الأمني وتحكّمت بمُخرجاته خلال العقود الأخيرة، وثمة من يحصرها في الفترة منذ عودة بنامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 2009.
شكلت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر لحظة فارقة في خطاب "اليسار" أو ما يطلق عليه اسم "معسكر السلام" في إسرائيل، حيث ظهرت بوادر مراجعات ذاتية لدى اليسار الإسرائيلي فيها نوع من جلد الذات، ليس فقط نابعة من الأحداث، وهي ذات أثر كبير عليه بسبب تأطيرها بأنها "هجمات ضد اليهود لأنهم يهود"، بل أيضاً ناجمة عن تعرّض أجزاء من هذه الشريحة نفسها إلى تلك الهجمات في "غلاف غزة". في هذا الصدد اختلطت الصدمة السياسية والأيديولوجية مع الصدمة والألم الشخصي لدى شرائح اجتماعية في هذا المعسكر.
تهدف هذه الورقة إلى إجراء مراجعة وقراءة أولية لخطاب اليسار أو "معسكر السلام" في إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ولن تفي هذه الورقة الموضوع حقه، ولكنها بداية لدراسة بهذا الشأن.
في تعقيبه على بدء العملية البرية في قطاع غزة، قال رئيس الولايات المتحدة جو بايدن: "يجب أن يكون هناك تصور لما سيأتي بعد الحرب... من وجهة نظرنا يجب أن يكون هناك حل على أساس دولتين". منذ بدء الانقسام الفلسطيني ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تم وضع مسار "حل الدولتين" على الرف إلى حين توحد الفلسطينيين تحت قيادة واحدة. اليوم، وبعد أن وضعت إسرائيل لنفسها هدفا حربيا يكمن في "إسقاط حركة حماس عن السلطة في غزة"، تبرز ثلاثة أسئلة لا إجابات عليها حتى الآن: 1) هل هذا الهدف قابل للتطبيق؟ 2) في حال تم تطبيقه، ما هو المستقبل السياسي للقطاع؟ 3) هل هذا المستقبل السياسي، الذي ما يزال غير واضح المعالم، سوف ينقل ملف "حل الدولتين" من الرف ليضعه كاستحقاق أمام الحكومة الإسرائيلية من جديد؟
من الصعوبة بمكان إيجاد أجوبة إسرائيلية واضحة على هذه الأسئلة. ولكن هذه الورقة تجول فيما بين هذه الأسئلة وتهدف إلى شرح وتفكيك العقيدة التي نظمت علاقة إسرائيل مع قطاع غزة قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي عقيدة تتأسس على عرقلة مسار حل الدولتين. وتحاول الورقة أن تنظر في الثابت والمتحول في هذه العقيدة.
الصفحة 52 من 336