تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
احتجاجات عائلات الأسرى والمحتجزين (وكالات)
  • تقدير موقف
  • 33
  • عبد القادر بدوي
  • تصفح الملف

في تطوّر لافت وغير مألوف في السياق الإسرائيلي، خلال الأسابيع الماضية، نشر مئات الطيارين العسكريين، وما يزيد عن 1500 جندي وضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي -تجنّدوا في الخدمة العسكرية منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزة- عرائض علنية عبّروا فيها عن احتجاجهم العميق على استمرار العمليات العسكرية دون تحقيق التقدّم الكافي في قضية إعادة الأسرى والمحتجزين من خلال صفقة تبادل مع حركة حماس.

تكشف هذه الخطوة، النادرة في تقاليد الانضباط العسكري الإسرائيلي، من بين أمور أخرى، حجم التوتر الداخلي في المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتعكس الشعور المتزايد بخيبة الأمل وانعدام الثقة بقرارات القيادة السياسية، وذلك في سياق تصاعد الخلافات الداخلية حول طريقة إدارة الحرب، لا سيّما بعد استئنافها في مطلع آذار الماضي وعدم الانتقال للمرحلة الثانية من صفقة التبادل في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصّل إليه بوساطة أميركية- قطرية- مصرية.

تأتي هذه الحادثة في ظل اتساع دائرة الأصوات المطالبة بالتوصّل الفوري لصفقة تبادل شاملة مع حركة حماس وإعادة كل الأسرى والمحتجزين، وفي مقدّمتهم النخب والقيادات العسكرية- الأمنية السابقون الذين انتقلوا من مرحلة المواقف إلى خطوات أكثر علنية ومباشرة في مواجهة حكومة بنيامين نتنياهو.

يحظى هذا الموضوع باهتمام وتركيز كبيرين من وسائل الإعلام في إسرائيل، وكذلك في الإعلام العربي الذي يُسلّط الضوء عليه باعتباره عاملًا إسرائيليًّا داخليًّا ضاغِطًا قد يساعد باتجاه الدفع لإنهاء حرب الإبادة على غزة. هذه الورقة، تحاول تقديم قراءة موجزة وسريعة في الحراكات والاحتجاجات الاجتماعية خلال الحروب الإسرائيلية المتلاحقة على العرب والفلسطينيين، وتسلّط الضوء على أهم مكامن قوة الاحتجاج الحالي وضعفه، واستشراف التأثير الفعلي له وللعرائض الصادرة من داخل المؤسسة العسكرية، وذلك في ضوء العوامل الداخلية والخارجية ومسار الحرب المستمرّة في القطاع.

خلفية عامة: الاحتجاجات الإسرائيلية في أوقات الحروب

منذ إقامتها عام 1948، خاضت إسرائيل العديد من الحروب العدوانية والعمليات العسكرية ضد الفلسطينيين والعرب. خلال الفترة الأولى، وتحديدًا حتى سبعينيات القرن المنصرم، خلت هذه الحروب والمواجهات من الاحتجاجات الداخلية لأسباب متعددة تتراوح بين الايمان بـ "شرعية الأمن" وأولويته، وتجنّد المجتمع لخدمة الأهداف العسكرية التي حدّدتها القيادتان السياسية- العسكرية والأمنية، وغياب المجتمع المدني الاحتجاجي الذي يتبنّى توجهات وأجندات خارج حدود الهيمنة التي أسستّ لها قيادة حزب "مباي" خلال العقود الثلاثة الأولى، إذ عاشت الدولة ما يُشبه "وضع طوارئ دائمًا" تقريبًا، وانشغل المجتمع في بناء الدولة، وكانت الأولوية للأمن، ولم تُسجل احتجاجات علنية كبيرة ضد الحروب.

تبلورت أولى ملامح الاحتجاج على الحروب (أو على الأقل، على طريقة إدارتها) في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر، 1973، إذ شهدت إسرائيل أزمة سياسية حادة نجمت عن التقييم الخاطئ لقادة الحكومة الإسرائيلية للتهديدات المصرية والسورية المتزايدة (أو ما بات يُعرف لاحقًا بـ "القصور" الناجم عن "التصوّر/ المفهوم"). كان جوهر الاحتجاج ينظر إلى ذلك باعتباره سببًا في الخسائر العسكرية الكبيرة والصدمة النفسية في أوساط الجمهور الإسرائيلي (قُتل نحو 2,656 جنديًا إسرائيليًا، وأُصيب نحو 7,250)، وقد طالبت الاحتجاجات الواسعة حينها ضد حكومة غولدا مائير على "التقصير" وكذلك احتجاج عائلات الثكلى (منها بقيادة ميريام روزنر) بتشكيل "لجنة تحقيق رسمية"، وبالفعل، ساهمت الاحتجاجات في تشكيل "لجنة تحقيق رسمية- أغرانات" (تشرين الثاني 1973) واستقالة رئيس الأركان دافيد بن إليعازر ومن ثم غولدا مائير وحكومتها بعد أقل من عام (1974). خلال هذه السنوات، وبالتزامن مع التحولات التي طرأت على بنية مؤسسات المجتمع المدني، تشكّلت حركة "السلام الآن" (1978) والتي جاءت تعبيرًا عن حالة الإحباط من غياب الاتفاقات السياسية وحصرية الخيار العسكري والحروب مع الفلسطينيين والدول العربية.  يُمكن القول إن هذه الفترة قد أسّست بالفعل لولادة ثقافة التحقيق والمحاسبة حتى في ما يتعلّق بالحروب العسكرية ومشروعيتها داخليًا.

بعد عدّة سنوات، أفرزت الحرب الإسرائيلية الأولى على لبنان (1982) والتي أدت لمقتل 654 جنديًا إسرائيليًا (حتى العام 1985) احتجاجًا جماهيريًا واسعًا، قادت جزءًا من هذه الاحتجاجات حركة "السلام الآن" في أيلول 1982 على خلفية مجزرة صبرا وشاتيلا، وقد اندلعت في ذلك الحين واحدة من أكبر المظاهرات في تاريخ دولة إسرائيل (شارك في المظاهرة في ما تسمىى ساحة رابين اليوم، قرابة 400 ألف إسرائيلي)، وقد تمحورت مطالب هذه الاحتجاجات حول تحميل أريئيل شارون (وزير الدفاع حينها) المسؤولية، والمطالبة بالانسحاب من لبنان. تمثل أحد أهم نجاحات الاحتجاج لاحقًا في إقامة "لجنة كاهان" في العام 1983 التي قرّرت أن شارون "يتحمل مسؤولية شخصية" ما اضطره للاستقالة من منصبه. في العام نفسه، ظهر تكتّل احتجاجي داخلي حمل اسم "آباء ضدّ الصمت" دعا إلى الانسحاب من جنوب لبنان، وقد ساعد هذا التكتّل لاحقًا في ظهور حركات أكثر تنظيمًا وقدرة على التأثير في قرار الانسحاب.

خلال سنوات التسعينيات، ومع استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب وتحديدًا في منطقة "الحزام الأمني"، برزت حركة احتجاجية أسّست على حركة "آباء ضد الصمت"، عُرفت باسم حركة "الأمهات الأربع" (1997)، كردّ فعل مباشر على حادثة "كارثة المروحيات" التي أدّت لمقتل 73 جنديًا في تحطم مروحية كانت في طريقها لنقلهم إلى منطقة "الحزام الأمني" في جنوب لبنان، وقد شكّلت هذه الحادثة، والاحتجاجات التي تلتها، نقطة تحول في الرأي العام الإسرائيلي بشأن استمرار الاحتلال العسكري في جنوب لبنان، وأحدثت صدمة واسعة، خاصة أن كثيرين رأوا فيه نتيجة غير مبررة لاستمرار الاحتلال.

بدأت حركة "الأمهات الأربع" بشكل محلي وشخصي، عندما طالبت أربع أمهات بانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، وسرعان ما تحولت إلى ظاهرة جماهيرية أثرت بعمق في الرأي العام، حيث اعتمدت على خطاب "عاطفي-أخلاقي" يربط بين معاناة الجنود وعائلاتهم وبين غياب مبرر واضح لاستمرار الاحتلال، مما أكسبها تعاطفًا جماهيريًا واسعًا، ساعدها على تجاوز الاصطفافات الحزبية التقليدية، وساهمت في تسليط الضوء على تكلفة الحرب البشرية والمعنوية. مع تنامي الضغط الشعبي الذي أحدثته، أصبحت الحركة من أبرز العوامل المدنية التي مهّدت لقرار رئيس الحكومة إيهود باراك الانسحاب أحادي الجانب من جنوب لبنان في أيار 2000 (إلى جانب الخسارة العسكرية)، وقد أسهمت أيضًا في تكريس فكرة أن الاحتلال لا يمكن تبريره دائمًا بالأمن القومي ("شرعية الأمن")، وفي إعادة طرح النقاش الإسرائيلي حول حدود التدخل العسكري الإسرائيلي خارج الحدود، كونها طرحت، ولأول مرة وبشكل جدّي، الانسحاب أحادي الجانب كخيار سياسي مشروع.

وعلى غرار ذلك، اندلعت احتجاجات جماهيرية على "غياب الاستعداد والجهوزية" في الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان عام 2006، والتي تسبّبت بمقتل 121 جنديًا وعشرات المدنيين، وقد طالبت بتشكيل "لجنة تحقيق رسمية". افتقدت هذه الاحتجاجات لقوة الاحتجاجات السابقة، ولم تخلق مناخًا ضاغطًا على المستوى السياسي، على الرغم من صدور تقرير "لجنة فينو غراد" الذي وجّه انتقادًا حادًّا لسلوك رئيس الحكومة إيهود أولمرت حينها، لكنه لم يستقِل على الفور (استقال لاحقًا لأسباب جنائية).

في ما يتعلّق بالحروب الإسرائيلية المتلاحقة على قطاع غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2018، 2021-2022) لم تتشكّل حراكات اجتماعية داخلية رافضة للحرب بقدر ما كانت المطالبات بضرورة إيجاد حل لـ "خطر القطاع" وتحديدًا من قِبَل سكان غلاف غزة. هذا الأمر، سرعان ما بدأ بالتغير تدريجيًا خلال حرب الإبادة التي اندلعت في قطاع غزة، يُردّ ذلك جزئيًا إلى قيام فصائل المقاومة الفلسطينية باقتياد المئات إلى قطاع غزة خلال هجوم 7 أكتوبر واحتجازهم هناك، وإلى طبيعة حراك الاحتجاج الذي انتظم، إلى حدٍّ كبير، ضمن حالة المنازعة الداخلية على هوية الدولة ومستقبلها بين تيارين داخل المجتمع الإسرائيلي والحلبة السياسية.

حركة الاحتجاج منذ 7 أكتوبر: ضعف التنظيم ومحدودية التأثير

شهدت الفترة الأولى لهجوم 7 أكتوبر ارتفاع منسوب الكراهية والعسكرة والتحشيد ضد الفلسطينيين والعرب، حيث تم إخراج الهجوم بوصفه جزءًا من المجازر ضد اليهود في التاريخ (بوغروم)، كما تم استحضار مفاهيم "المحرقة الثانية"، و"حرب الاستقلال الثانية" و"حرب الخير ضد الشر" و"الحرب الوجودية".... إلخ أعادت المجتمع الإسرائيلي إلى حالة "الهستيريا الحربية" الأولى. خلال هذه الفترة، وفي ضوء الحالة الذهنية المتشكّلة، غابت، إلى حدٍّ كبير، الأصوات الاحتجاجية على الحرب أو أهدافها. من ناحية، فرضت الصدمة حالة من الوحدة والتلاحم الإجباري تحت شعار "معًا ننتصر" وأن حالة الانقسام التي وصلت ذروتها عشية الحرب (الاحتجاج على خطة الإصلاحات القضائية) كانت أحد أسباب نجاح الهجوم. من ناحية ثانية، شكّلت قضية الأسرى والمحتجزين، بوصفها مستجدًّا غير مسبوق، حالة تراجيدية وعنوانًا جامعًا دفع باتجاه خطاب ضرورة إعادتهم قبيل تنفيذ أي عملية عسكرية بريّة، لكن سرعان ما أعادت هذه القضية نظِم حالة المنازعة الداخلية والانقسام السابقة للحرب في ضوء الفشل المتراكم لإعادتهم من خلال العمليات العسكرية دون التفاوض مع حركة حماس التي وضع المستويان السياسي- العسكري والأمني القضاء عليها كهدف عيني للحرب.

حتى منتصف كانون الثاني الماضي، غلَب على حركة الاحتجاج طابع "إنساني" و"أخلاقي قبلي" مرتبط بحياة المواطن "اليهودي- الإسرائيلي"، تمثّل في مطلب ضرورة إعادة الأسرى والمحتجزين باعتباره التزامًا أخلاقيًا يتوجّب على الدولة الإيفاء به للحفاظ على "العقد" بينها وبين العائلات في ظلّ "فشل الدولة والجيش في منع الهجوم وحماية مواطني الدولة". خلال هذه الفترة، اتّسمت حركة الاحتجاج بغياب طابعي التنظيم والمأسسة، حيث غلب على سلوكها طابع انفعالي رغم تمكّنها في أكثر من مرة من جذب عشرات آلاف المشاركين للتظاهر. من جهة ثانية، لم تنجح في تعبئة الأحزاب السياسية المعارضة وقواعدها الانتخابية رغم تبنّيها خطابًا مشابهًا لمطالبها. من جهة ثالثة، لم تنجح في حشد  المؤسسات العامة في الدولة (كالنقابات والاتحادات والجامعات). هذه العوامل حدّت، إلى حدٍّ كبير، من قدرتها على تجنيد قطاعات واسعة من المجتمع وصياغة الرأي العام، وهو ما عكس ضعفها في التأثير في قرارات المستوى السياسي، وقد جاء قبول الحكومة الإسرائيلية تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بفعل الضغط الخارجي (إدارة ترامب) في منتصف كانون الثاني كدليل على عدمية الاحتجاج الذي تقوده العائلات، ما دفعها لإعادة إنتاج مطالبها حول "ضرورة الالتزام بتطبيق كافة مراحلها"، ومطالبة الإدارة الأميركية بالضغط على الحكومة لإتمام مراحل الصفقة الثلاث. على أية حال، امتازت هذه الفترة من الاحتجاج بالتركيز على "شرعية" و"أولوية" المواطن، مع توجيه اتهامات للحكومة ورئيسها بإفشال المقترحات وإطالة أمد الحرب خدمة لأهداف سياسية بحتة، وقد تحوّلت المظاهرات لما يُشبه الفعالية الاعتيادية.

في بداية آذار، ومع استئناف الحكومة الإسرائيلية حرب الإبادة على قطاع غزة وعدم تنفيذ المرحلة الثانية من الصفقة، أصبح خطاب الاحتجاج الذي تقوده وتُعبّر عنه حادًّا ومباشرًا في اتهام نتنياهو وحكومته وتحميلهم مسؤولية عدم إعادة الأسرى لأسباب سياسية وشخصية، وبات يُنظر إلى استئناف الحرب وعمليات القصف باعتبارها "حكم إعدام" على الأسرى والمحتجزين. في هذا السياق يُمكن الإشارة إلى مجموعة متغيّرات: من ناحية، خلق مسار "الانقلاب المؤسسي" خاصة في الجيش و"الشاباك" و"الجهاز القضائي" الذي يقوده نتنياهو ومن خلفه كتلة اليمين الانتخابية مناخًا داخليًا يسمح بتوسيع دائرة الاحتجاج، سياسيًا واجتماعيًا، ضد الحكومة ورئيسها ومشروعها. من ناحية ثالثة، أسهم ذلك في اتساع رقعة معارضة قرار المستوى السياسي من داخل المؤسستين الأمنية- العسكرية لأولويات الحرب وضرورة إعادة الأسرى والمحتجزين، وقد تُرجم ذلك في ظهور تكتّل تقوده نخب وقيادات عسكرية- أمنية سابقة ("الدرع الواقي لإسرائيل")، وكذلك في عرائض احتجاج من داخل الجيش وقّع عليها آلاف من جنود وضباط (نظاميين واحتياط) انضموا لعريضة الطيارين، قيادات أمنية سابقة وأكاديميون طالبوا بضرورة الإسراع لإبرام صفقة تبادل حتى وإن كان ثمن ذلك وقف الحرب، وسط اتهامات مباشرة للمستوى السياسي بتجاهل مخاطر استئناف الحرب على الأسرى والمحتجزين، ونقد سلوك تقويض الديمقراطية والتماسك الاجتماعي الداخلي. هذه المتغيّرات، ساهمت في إعادة إنتاج قضية إعادة الأسرى والمحتجزين بوصفها أولوية على العمليات العسكرية، وأبرزت مرّة أخرى مبدأ "أولوية المواطن" في مواجهة "أولوية الأمن" التي يختبئ خلفها نتنياهو وحكومته لإطالة أمد الحرب على غزة، وفقًا لطرحهم.

الاحتجاج والعرائض المطالبة بوقف الحرب واستعادة الأسرى: حدود تأثيرها الفعلي؟

تستحوذ قضية استعادة الأسرى والمحتجزين على مساحة كبيرة من التغطية الصحافية والإعلامية، وكذلك في كتابات المحللين والمختصين وقيادات أمنية سابقة، هذا الاستحواذ، يتأتّى من مبدأ "المسؤولية المجتمعية" و"شرعية المواطن" تارة، ومن أجندة هذه الجهات المناهضة لسياسة اليمين وشخص نتنياهو في كثير من الحالات تارةً أخرى. لكن من الناحية الفعلية، لا تبدو هذه الأصوات ذوات تأثير حاسم- على الأقل حتى وقت إعداد هذه الورقة- في قرارات الحكومة الإسرائيلية في كل ما يتعلّق بالحرب على غزة وفي مقدّمتها قضية استعادة ما تبقّى من الأسرى والمحتجزين. في هذا الصدد، يُمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات على النحو التالي:

أولاً: يُشير تحليل خطاب وشعارات حركة الاحتجاج، سواءً ذلك الذي تقوده العائلات، أم عرائض الاحتجاج، إلى أن رفض استمرار الحرب لا يتأتّى من موقف أخلاقي- إنساني رافض لاستمرار حرب الإبادة على الفلسطينيين؛ وإنما نابع من موقف "أخلاقي" للقبيلة، ومرتبط بـ "أولوية المواطن" في مقابل "أولوية الأمن" الذي تتبنّاه الحكومة. بكلمات أخرى، تواجه هذه الاحتجاجات منطق الحكومة القائل بضرورة استمرار الحرب من أجل حماية "كافة مواطني دولة إسرائيل" في المستقبل، بإبراز العلاقة بين "واجب حماية كافة المواطنين وواجب إطلاق سراح المختطفين، وبحسبها، فإن الالتزام بحماية جميع المواطنين يستلزم الالتزام بإنقاذ الأسرى والمحتجزين، باعتبارهم مواطنين في الدولة".

ثانيًا: على الرغم من التحولات التي يشهدها الرأي العام حيال قضية الأسرى والمحتجزين وأولويتها على استمرار الحرب منذ شهور الحرب الأولى، ولا سيّما بعد استئنافها في أعقاب الصفقة الأولى، لا تجد هذه التحولات ترجمة لها في الشارع الإسرائيلي: في حين كانت نسبة الذين أقرّوا بأولوية استعادة الأسرى على القضاء على حماس لا تتجاوز النصف في كانون الثاني 2024، فإن هذه النسبة تجاوزت الثلثين بحلول آذار 2025، ومع ذلك، عبّر نحو 49% عن اعتقادهم بأنه لا يُمكن الجمع بين الهدفين في الوقت نفسه، بينما يرى 46% أنه من الممكن تحقيقهما معًا.

ثالثًا: على الرغم من المعطيات السابقة، والتي يُمكن رصدها في استطلاعات الرأي الدورية، تبدو فرص اندلاع احتجاج جماهيري واسع النطاق يضرب المؤسسات العامة في الدولة والمراكز الاقتصادية (كما حدث يوم الاحتجاج الكبير في يوم 26 آذار 2023- بات يُعرف بـ "ليل غالانت"، أو يوم 5 تشرين الثاني بعد قرار نتنياهو إقالة غالانت من منصبه كوزير للدفاع) ضعيفة ومحدودة في ظل تراكم العديد من القضايا الخلافية مجتمعيًا وسياسيًا: إقالة رئيس "الشاباك"، مساعي إقالة المستشارة القضائية للحكومة، مواجهة المحكمة العليا ومحاولة السيطرة على المؤسسة الأمنية...الخ.

رابعًا: يحدّ تموضع قضية إعادة الأسرى والمحتجزين في قلب حالة المنازعة الداخلية المستمرّة منذ ما قبل 7 أكتوبر بين تيارين من سقف تأثير الحراك الاجتماعي المرتبط بها في القرارات السياسية، إذ يقف اليمين ككتلة متماسكة في تنفيذ مشروعه- السياسي على الأقل- مقابل تيار يضم طبقات وفئات متعددة وغير متجانسة تجمعها نزعة مناهضة نتنياهو، وبذلك، تتحول حركة الاحتجاج الداخلي، والعرائض والتكتلات داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية لجزء من سلسلة طويلة من القضايا الخلافية والمركّبة، والتي تسعى حكومة اليمين، والشخصيات التي تم تعيينها مؤخرًا، بشكلٍ محموم لحسمها وفقًا لتصورها (استبعاد كل الموقعين على عريضة الطيارين مثلاً).

خامسًا: مع إقرار الموازنة السنوية لعام 2024، وعودة حزب "عوتصما يهوديت" بقيادة إيتمار بن غفير إلى الحكومة، تمكّن نتنياهو من رصّ صفوف ائتلافه بشكل بدّد فيه أية إمكانية لإسقاط حكومته قبل الموازنة المقبلة على الأقل، على الرغم من أزمة "قانون التجنيد" التي يقف فيها الحريديون أمام خيار لا مفرّ سوى الحفاظ على الحكومة. هذا الحال، يُكسب حكومة اليمين زخمًا وقوة كبيرين للاستمرار في تنفيذ أجنداتها، سواءً تلك المتعلّقة باستمرار الحرب، أو الأخرى المرتبطة بـ "الانقلاب المؤسسي"، ومن ضمنها مساعي تصفير تأثير الاحتجاج، أو إبقائه ضمن حدّه الأدنى.

سادسًا: "الإنجازات العسكرية المتحقّقة" على الجبهات المختلفة منذ منتصف العام الماضي تفتح شهية حكومة اليمين على الاستمرار في الحرب (خاصة في أعقاب التغييرات التي طالت قيادة الجيش) والعمل على ترجمة كل ذلك لإنجاز سياسي واضح المعالم في ما يتعلّق بالمسألة الفلسطينية، تعزيز العربدة الإقليمية، والصراع مع إيران، وعلى الصعيد الداخلي في إحداث تغيير جوهري في مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والإعلامية. هذا التوجّه، تستتبعه محاولات حثيثة لتغليب "أولوية الأمن" التي تُعليها الحكومة على "أولوية المختطفين" التي تُعليها التيارات المناهضة لها، والاستمرار قدمًا لتحقيق أهداف الحرب وفقًا لتصور أولوية القضاء على حركة حماس على إعادة ما تبقّى من الأسرى والمحتجزين، وتحويل أي خطاب مناهض لهذا التوجّه لخطاب "خائن" أو "يساري" ويسعى لضرب "الإنجازات المتحقّقة".