تكاثرت في الأيام الأخيرة، التقارير الاقتصادية الإسرائيلية، خاصة المتخصصة منها، وأخرى رسمية، والتي تشير إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي يغوص منذ الآن، في أزمة اقتصادية كتلك التي شهدها في مطلع سنوات الألفين، في فترة العدوان على الضفة والقطاع الذي جوبه بالانتفاضة الثانية، وبحسب أبرز التقارير فإن 19% من القوة العاملة، توقف عملها لأسباب متعددة، منها تجنيد الاحتياط (حوالي 8%)، في حين أن قطاعات اقتصادية باتت مشلولة وأخرى على وشك الشلل. في المقابل، وهذا ما يقلق إسرائيل، فإن معاهد التقديرات الاقتصادية العالمية باتت تطرح مستقبلا سوداويا للاقتصاد الإسرائيلي، وفي خضم كل هذا، تكاثرت الدعوات لاستقالة عاجلة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، على خلفية فشله في الإدارة العامة للدولة، وبضمنها الاقتصاد.
معطيات الأيام الأخيرة
تصدر التقارير الاقتصادية دون توقف، لعرض حال أوضاع السوق، والقوة العاملة، والصرف على الحرب المستمرة ضد قطاع غزة، وفي ما يلي بعض أبرز هذه المعطيات:
* حتى نهاية الأسبوع الماضي، أي نهاية الأسبوع الرابع للحرب، أعلن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن نحو 800 ألف عامل معطّلون عن العمل، وهؤلاء يشكلون 19% من القوة العاملة، التي يقدر حجمها في محيط 4.5 مليون شخص. من هؤلاء ما بين 300 ألف إلى 360 ألف جندي احتياط، تم استدعاؤهم للخدمة، والغالبية الساحقة من هؤلاء منخرطة في سوق العمل، وهم يشكلون 8% من أصل القوة العاملة، والباقي على الأغلب من الطلبة الجامعيين. والباقي إما من طواقم أجهزة التعليم المتوقفة، خاصة جهاز التعليم العالي، ومدارس في مناطق متعطلة. وعشرات آلاف أخرى هم ممن تم إخراجهم إلى إجازات غير مدفوعة الأجر.
وبحسب التقديرات، فإن هذا العدد سيرتفع في الأيام اللاحقة، خاصة وأن 37% من المصالح الاقتصادية، على مختلف المستويات، أعلنت عن تقليص في ساعات العمل أو في القوة العاملة. وجاء أيضا في تقرير مكتب الإحصاء، أن 50% من العاملين في شهر تشرين الأول الماضي، شعروا بأن رواتبهم الصافية ستتراجع، ومنهم من يعتقد بخسارة نصف راتبه، بسبب قيود بعض المناطق، وتقليص ساعات العمل في مرافق عديدة.
* أعلن اتحاد وكلاء السفر السياحي، أن عمل مكاتب السياحة متوقف بشكل كامل، ومنشغل فقط في طلبات إلغاء حجوزات سابقة، عدا إبلاغ الشركات العالمية مسافريها في البلاد عن إلغاء رحلاتهم الجوية، وحسب التقارير الاقتصادية، فإن مطار بن غوريون الدولي بات أشبه بمدينة أشباح، يستقبل العائدين، أكثر من المغادرين.
وتقول التقارير إن الفنادق البعيدة عن مناطق التوتر، هي وحدها التي تشغل كافة غرفها بنسبة 100%، وهذه الفنادق هي التي استقبلت، بقرار وتمويل حكومي، جميع الذين تم إخلاؤهم من بلدات محيط قطاع غزة.
وباتت الشركات الكبرى ووكالات السفر، والفنادق الخالية، تطالب بتعويضات كي تستطيع البقاء في الخارطة الاقتصادية.وحسب تقرير سابق، فإن شلل قطاع السياحة الذي سيستمر لفترة أطول من فترة الحرب، سيقود إلى إخراج أكثر من 100 ألف عامل وعاملة إلى إجازات غير مدفوعة. لكن ليسوا هم وحدهم، بل أيضا الشركات المزودة للبضائع والخدمات للفنادق قد تضررت بدورها.
* أعلنت وزارة المالية، أنه مع انتهاء شهر تشرين الأول الماضي، بمعنى مع انتهاء 24 يوما على الحرب المستمرة، كلفت الحرب الخزينة العامة 30 مليار شيكل، وهذا ما يعادل 7.5 مليار دولار؛ وعلى الأغلب، فإن الحديث عن الصرف الذي بات قائما، وفي غالبيته الساحقة هو الصرف العسكري في مختلف جوانبه.
* قالت مصادر في وزارة المالية الإسرائيلية إنه في تقديراتها الأولية كلفة الصرف المدني ستكون في حدود 11 مليار شيكل، بينما يرى خبراء أنه كلما امتدت الحرب، فإن الصرف الكلي سيكون أكبر من هذا بكثير.
* معضلة العمال الأجانب: أعلنت مصادر حكومية إسرائيلية أن إسرائيل بحاجة إلى 170 ألف عامل أجنبي، في أعقاب إلغاء كافة تصاريح العمل من الضفة الغربية أساسا، وأيضا من قطاع غزة، إلى جانب مغادرة عشرات آلاف العمال الأجانب البلاد، خاصة من تايلاند، الذي يشكلون نسبة عالية جدا من عاملي قطاع الزراعة. وحسب قول المصادر ذاتها، لوسائل إعلام إسرائيلية، فإن هناك حاجة فورية جدا إلى ثمانية آلاف عامل في قطاع الزراعة، وإلا فإن قسما جديا من المنتوج الزراعي سيخرب في أرضه، عدا مناطق زراعية في الجنوب، متوقفة كليا، وأخرى تعمل جزئيا. وتتحدث سلسلة تقارير عن خضروات أساسية قد تنقص في السوق، والحديث بالذات عن البندورة، ولهذا هناك مطالبات بتكثيف استيراد البندورة من تركيا. وقالت مصادر غير رسمية في أروقة الحكومة إن هناك تفكيراً بمنح 5 آلاف تصريح عمل لفلسطينيين، للعمل في قطاع الزراعة، لكن يبدو أن هذا لن يخرج الى حيز التنفيذ.
* انهيار بنسبة 85% في حجم العمل في قطاع البناء، بسبب سحب تصاريح 80 ألف عامل فلسطيني، ومغادرة 4 آلاف عامل أجنبي من أصل 24 ألف عامل أجنبي، والباقون في الأساس من أوروبا الشرقية والصين، ويضاف إلى هذا أن 3500 عامل من أصل 14 ألف عامل من فلسطينيي الداخل، توقفوا عن العمل، وكما يبدو في مناطق ليست آمنة.
* ضربة شديدة لقطاع بيع السيارات الجديدة: بحسب تقرير شركات تسويق السيارات، فإن تسليم السيارات الجديدة تراجع في شهر تشرين الأول الماضي بنسبة 30%، منها تأخير التسليم بسبب الحرب، إذ أن السيارات الجديدة من أقصى آسيا، وهي حصة الأسد الأكبر في سوق السيارات، تصل إلى ميناء إيلات على خليج العقبة، ومنها إلى ميناء أسدود. لكن أصحاب الشركات يقدرون أن الإقبال على بيع سيارات جديدة في الشهر الماضي، تراجع بما بين 30% إلى 50%، إذ أن الجمهور يتخوّف من صرف زائد في فترة عدم استقرار، خاصة من يشعر أن مكان عمله مهدد، أو مستقبله الاقتصادي مهدد. ويشكل قطاع السيارات نسبة جدية في النمو الاقتصادي الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، على وجه الخصوص.
*كان الأسبوع الماضي شاذا في البورصات الاسرائيلية، وأيضا في قيمة الشيكل. فقد سجلت مؤشرات البورصة الاسرائيلية ارتفاعات عوّضت فيها نسبة من تراجعاتها التي بدأت في منتصف أيلول، وتكثفت في الشهر الماضي،فمؤشر تل أبيب 35، وهو الأبرز في بورصة إسرائيل، سجل في الأسبوع الماضي ارتفاعا بنسبة 5.1%، بعد أن تراجع بنسبة 7.5% في الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب.
وكذا بالنسبة لقيمة الشيكل، فبعد أن سجل ذروة 11 عاما، في سعره أمام الدولار، في نهاية الأسبوع قبل الماضي، أي حتى يوم 28 تشرين الأول، وبلغ 4.08 شيكل للدولار، ارتفعت قيمته حتى نهاية الأسبوع الماضي، بنسبة حوالي 4%، وبات سعر الدولار 3.94 شيكل في التداول المصرفي، بعد انتهاء التداول الرسمي ظهر يوم الجمعة 3 تشرين الثاني، ولم ترد تفسيرات خبراء لهذا التحول في أسواق المال، وليس واضحا إذ هذا هو حدث عابر، أم مؤشر.
تقديرات سوداويةودعوات لاستقالة نتنياهو
أصدرت وكالة التقديرات الاقتصادية العالمية "موديس"، في الأسبوع الماضي، تقديرات جديدة، لتنضم إلى وكالات أخرى، جعلت تصنيف اعتمادات إسرائيل سلبيا، إلا أن تقديرات "موديس" هي الأشد سوداوية بالنسبة لإسرائيل، ما سينعكس سلبا على القدرة على استقدام وجذب استثمارات عالمية.
وحسب "موديس"، فإن إسرائيل ستعلق بركود اقتصادي في العام المقبل 2024، إذ سيسجل الاقتصاد نموا بنسبة 1.4%، وهذا يعد سلبيا، لأن نسبة التكاثر السكاني 2%، كما أنه في العام الجاري 2023، هبطت تقديرات النمو من 3.5% سابقا إلى 2.8%.
وحسب ذات الوكالة، فإن العجز في الموازنة العامة سيصل في العام المقبل، إلى حوالي 7% من حجم الناتج العام، وهذا يعني 140 مليار شيكل (35 مليار دولار)، وسيرتفع حجم الدين العام إلى ما نسبته 67% من حجم الناتج العام، مقابل 60% حاليا. كذلك فإن الاقتصاد الإسرائيلي مرشح لنسبة تضخم مالي في العام المقبل تصل إلى 6.8% بحسب "موديس"، وهذا نقيض تقديرات بنك إسرائيل، الذي يتوقع حاليا أن يكون التضخم في العام المقبل 2024، بنسبة 2.5%.
في خضم هذا، تتكاثر الدعوات لاستقالة فورية لبنيامين نتنياهو، ليس فقط بسبب ضرورة تحمله مسؤولية فشل السابع من تشرين الأول الماضي، وإنما أيضا لاتهامه بالفشل في إدارة الاقتصاد، وعدم توجيه الصرف بشكل صحيح، بل باستمرار تمويل مصالح حزبية في حكومته.
وبرزت في هذا الشأن رسالة حوالي 300 خبير اقتصادي كبير، بينهم من كان يتولى مسؤوليات رفيعة جدا في المؤسسات الاقتصادية الرسمية، حتى وقت قريب، مثل محافظ بنك إسرائيل الأسبق يعقوب فرنكل وغيره، وجهوها إلى نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش، قالوا لهما فيها إنهما لا يعرفان حجم الأزمة، وعليهما تغيير الأولويات، وهناك من فسّر الرسالة بأنها دعوة ضمنية إلى استقالة نتنياهو.
وقالت المحللة الاقتصادية ميراف أرلوزوروف، في مقال لها في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، إن الحقيقة المرة هي أنه ليست لدي نتنياهو "أي فكرة عن وضع الاقتصاد وإلى أين يتجه". وتابعت: "ومن دون إجراء أي نقاش اقتصادي، ليس من الواضح على أي أساس يبني نتنياهو التقييمات المتفائلة. القلق البالغ هو من تشتيت الأموال من كل ما هو في متناول اليد كجزء من ’اقتصاد التسلح’، فهذا لن ينتهي لرئيس الحكومة مثل أزمة الكورونا، بل مثل أزمة ضربة قطاع الهايتك (الدوت كوم)، وأزمة الانتفاضة الثانية التي أعقبتها مباشرة في 2001-2003. ثم سقطت إسرائيل في ثاني أشد أزمة اقتصادية في تاريخها كله، وأفلتت منها بصعوبة كبيرة بعد أن اضطرت إلى تنفيذ خطة إنعاش صعبة لا تطاق. ومن قاد تلك الخطة الاقتصادية الشجاعة والمؤلمة هو وزير المالية في ذلك الحين، بنيامين نتنياهو. وبفضلها حصل أيضًا على لقب ’السيد اقتصاد’".
وتقول الكاتبة إن "نتنياهو 2023 هو النقيض التام للسيد اقتصاد 2003. ففي الأسابيع الثلاثة التي مرت منذ بداية الحرب، قامت إسرائيل بإيواء حوالي 200 ألف شخص تم إجلاؤهم في الفنادق بتكلفة شهرية تبلغ حوالي 2 مليار شيكل. وإجلاء حوالي ثلث هؤلاء الأشخاص تم بقرارات سياسية، وليس بتوصية من المؤسسة الأمنية. ولا أحد يعرف إلى متى سيبقى المهجرون في الفنادق، وما هي الأضرار التي ستلحق بهم وبأطفالهم نتيجة الانفصال الطويل عن البيت ونظام التعليم ومصادر العمل. في الوقت نفسه، وبسبب حالة الحرب المستمرة، تمارس ضغوط هائلة لتعويض الشركات في جميع أنحاء البلاد، كما حدث في أزمة كورونا. لقد أصبح مخطط التعويضات الآن أكثر سخاء مما كان عليه خلال فترة كورونا، وذلك على الرغم من عدم إغلاق الاقتصاد وعودة أجزاء من الاقتصاد إلى العمل. ولكن السياسيين، بمن في ذلك رئيس الحكومة، يريدون توسيع تعويضات الأعمال بشكل أكبر".
وتقول أرلوزوروف إنه إذا كانت هذه الحرب مثل الحربين على قطاع غزة في 2009 ولبنان في 2006، واستمرتا من 4 إلى 6 أسابيع، "فمن الممكن التسامح مع هذه السياسة الاقتصادية. ولكن نتنياهو نفسه يتحدث عن عملية عسكرية قد تستمر عدة أشهر. وفي أي لحظة هناك أيضاً خطر فتح جبهة ثانية من شأنها أن تؤدي بالتأكيد إلى تعطيل معظم الاقتصاد الإسرائيلي. إلى متى سيتمكن الاقتصاد من تعويض نفسه عن خسائر منتجاته؟ ومن المستحيل أن يعوض الجميع، فهذا أمر مستحيل".