المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2275
  • سليم سلامة

"الطريق إلى إخفاق السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، أو "كيف وصلنا إلى يوم فقدان السيادة الإسرائيلية لنحو يومين كاملين"، حسبما وصفه أحد المحللين الأمنيين ـ الاستراتيجيين الإسرائيليين، هما اثنان فقط من بين عناوين كثيرة تُطرَح عبر صياغات مختلفة تبعاً لاختلاف خلفياتها وتوجهاتها ومقاصدها، لكنها تلتقي، كلها، في الإجماع على أن ما حصل يوم 7 تشرين الأول لم يكن مجرد خطأ استخباراتي أو عطل عملانيّ موضعيّ، وإنما كان نتيجة تراكمية حتمية تمثلت في انهيار شامل مدوٍّ للرؤية الأمنية والسياسية التي تربعت على صدارة ما يمكن تسميته بـالفكر السياسي ـ الأمني وتحكّمت بمُخرجاته خلال العقود الأخيرة، وثمة من يحصرها في الفترة منذ عودة بنامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 2009.

وضمن هذا الإجماع، ثمة إجماع آخر لا يقل أهمية يحيط بإحدى الفرضيات الأساس التي أضحت من المسلمّات المكرّسة في إسرائيل خلال العقود الأخيرة تحديداً وهي فرضية أن "اليمين قوي في الأمن". وإذا كان الانهيار الشامل قد أتى على الرؤية الأمنية ـ السياسية الأساسية، فمن المؤكد إذاً أن الانهيار قد طاول هذه المسلّمة أيضاً. وهذا هو بالذات مرتكز الأصوات التي بدأت تنطلق وتتعالى يوماً بعد يوم وباستمرار مُطالبةً دولة إسرائيل الرسمية، بمؤسساتها السياسية والأمنية خاصة، بالاستعداد لبلورة ووضع رؤية سياسية ـ أمنية جديدة يبدأ اعتمادها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، تكون غايتها المركزية: حماية أمن مواطنيها، بالدرجة الأولى. 

ولتحقيق هذا الغرض، تشدد هذه الأصوات على أنه لن يكون ثمة مناص من النظر، الفحص والتدقيق، منذ الآن في جميع الأخطاء التي ارتُكبت سابقاً ثم الاستفاقة والتعقّل من الأوهام الخطيرة التي قادت الدولة الإسرائيلية وشعبها ومواطنيها إلى المذبح بصورة مباغتة. ويؤكد أصحاب هذه الأصوات أن هذه المهمة لن تكون سهلة على الإطلاق، ذلك أن "المعركة على الرواية" هي على أشدّها هذه الأيام، في ظل الحرب التي لا تزال مجهولة الأبعاد ومسارات التطور المستقبلي، إذ يسعى جميع المسؤولين المباشرين عن هذا الإخفاق التاريخي وشركاؤهم إلى ذر رماد "الانتصارات" و"المسؤولية" في عيون الجمهور الواسع بكل ما أوتوا من قوة ووسائل.

وفي رأي هؤلاء، أصحاب الأصوات المذكورة، أن تحديد المفاهيم المركزية التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية التي مُنيت بالانهيار يشكل الخطوة الأولى الجدية والمطلوبة في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.

"إدارة الصراع" أول المفاهيم المنهارة

في مقدمة هذه الأصوات التي نتحدث عنها الآن مشروع مشترك أطلقته مؤخراً مؤسستان بحثيتان إسرائيليتان هما "مؤسسة بيرل كتسنلسون"، التي تضع لها شعاراً يقول "نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل"، و"مركز مولاد لتجديد الديمقراطية". والمشروع، الذي يأتي تحت عنوان "انهيار المفاهيم ـ الطريق إلى إخفاق أكتوبر 2023"، يسعى إلى رسم خارطة تفصيلية لهذه المفاهيم التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق.

في هذه الخارطة عشرة مفاهيم أساسية هي التالية: 1. إدارة الصراع؛ 2. تقوية حماس؛ 3. من بحاجة إلى الولايات المتحدة والغرب؟؛ 4. سلام بدون الفلسطينيين؛ 5. ثمة جيش كافٍ للجميع؛ 6. اليمين قوي في الأمن؛ 7. الحوكمة هي الأساس؛ 8. لا حاجة إلى قطاع ثالث قوي؛ 9. التحريض لا يُضعف الأمن؛ 10. بالإمكان القيادة تحت عبء لوائح اتهام (في إشارة إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو).

المفهومان اللذان يترددان كثيراً في وسائل الإعلام وعلى ألسن السياسيين في إسرائيل منذ 7 تشرين الأول هما (إدارة الصراع) و(تقوية حماس) باعتبارهما المفهومين المركزيين اللذين انهارا وأدى انهيارهما إلى هذا الإخفاق المريع. 

يذكّر واضعو خارطة المفاهيم هذه بأن نتنياهو ظل يدّعي ويكرر طوال سنوات عديدة أنه بالإمكان حفظ الوضع القائم (الستاتوس كوو) الحالي في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني إلى أبد الآبدين والعيش، بكل بساطة، من جولة قتالية إلى أخرى. في آذار 2009 عاد نتنياهو ليحتل سدة الحكم في إسرائيل وشرع، على الفور، في تطبيق مفهوم/ منهج "إدارة الصراع". في تشرين الثاني 2012، شنت إسرائيل عدوان "عامود السحاب". وفي أعقابه، أعلن نتنياهو: "لقد أوصلنا رسالة واضحة إلى حماس". ثم في تموز 2014 شنت إسرائيل عدوان "الجرف الصامد" وعلى أثره أعلن نتنياهو، مرة أخرى، أن "حماس تلقت ضربة قاسية". وفي أعقاب عدوان "حديقة مغلقة" الإسرائيلي في أيار 2019، عاد نتنياهو وقال: "ضربنا حماس بقوة هائلة". وفي تشرين الثاني من العام نفسه، وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي "حزام أسود"، أعلن نتنياهو: "أعداؤنا تلقوا الرسالة". وفي أيار 2021 شنت إسرائيل عدوان "حارس الأسوار" وفي أعقابه قال نتنياهو: "لقد غيّرنا المعادلة". وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي "سهم ودرع" في أيار 2023، بشّر نتنياهو الإسرائيليين بأن "حماس مرتدعة"، إلى أن وقع الهجوم على البلدات ومعسكرات الجيش في منطقة "بلدات غزة" في صباح يوم السبت السابع من تشرين الأول الأخير. 

منذ عودته إلى مكتب رئيس الحكومة في العام 2009، كان مفهوم "إدارة الصراع" هو المفهوم الأمني المركزي والرائد الذي شكّل بوصلة نتنياهو والغالبية الساحقة من معسكر اليمين الإسرائيلي في كل ما يتصل برؤيتهم تجاه القضية الفلسطينية. وفقاً لهذا المفهوم، فإن الصراع هو أشبه بمرض مزمن والطريق الأصوب والأفضل للتعامل معه هو العلاج المرحلي كل فترة من الزمن، بحيث تمتنع إسرائيل عن اتخاذ أي إجراء جوهري وحاد على الساحة الفلسطينية، بينما يضطر الإسرائيليون إلى خوض "جولة قتالية" محدودة مرة كل بضع سنوات، الأمر الذي من شأنه أن يبقي الواقع الأمني في قطاع غزة وفي الضفة الغربية على حاله، في وضعه القائم.

يرتكز مفهوم "إدارة الصراع" على إيمان حكومة اليمين بأن الصراع مع الفلسطينيين لم يعد يشكل تهديداً أمنياً جدياً على دولة إسرائيل. وبينما تعامل نتنياهو ورهطه مع التهديد الإيراني باعتباره تهديداً وجودياً ومع تهديد حزب الله اللبناني بأنه تهديد دراماتيكي، فقد تعاملوا مع الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني بوصفه "مسألة ثانوية"، أو كما وصفه رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت بأنه "(ليس أكثر من) شظية في المؤخرة" ـ مسألة يُفضّل "إدارتها"، مع التسليم والرضى بوجودها، على المخاطرة بحلها: من الجهة الأولى ـ عدم السعي وعدم التقدم نحو تسوية مع أي طرف في الجانب الفلسطيني؛ ومن الجهة الثانية ـ عدم ضم المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية، أساساً) إلى السيادة الإسرائيلية، وهو ما يحتّم استيعاب ملايين الفلسطينيين مواطنين في داخل إسرائيل وما سيثير معارضة دولية. أو، باختصار: تجنب اتخاذ أي قرار جوهري وتحويل تجاهل القضية الفلسطينية إلى عقيدة أمنية. 

في السابع من تشرين الأول في "العقد الأكثر هدوءاً في تاريخ الدولة"، كما وصف مؤيدو نتنياهو سنوات توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، انهارت تباعاً، واحدة تلو الأخرى، جميع الفرضيات الأساس التي شكلت برج "إدارة الصراع" الذي تبين أنه ليس سوى برج من ورق، بل ثبت أيضاً أن فرضية القدرة على الإبقاء على الصراع على "نار هادئة" هي العقيدة الأمنية الأكثر تدميراً في تاريخ دولة إسرائيل.

"تقوية حماس" انطوت على "استراتيجية تدمير ذاتي"

خلال الأعوام الـ 14 الماضية على وجه التحديد، اعتمدت حكومات اليمين في إسرائيل استراتيجية سياسية ـ أمنية ترتكز على "ضرورة تقوية حركة حماس" على حساب السلطة الفلسطينية بالأساس. ويعيد واضعو خارطة المفاهيم التذكير ببعض المحطات التاريخية ابتداء من حزيران 2007 حين استولت حركة حماس على مقاليد السلطة في قطاع غزة، ثم بعد ذلك بعامين اثنين، في آذار 2009، عاد نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل بعد قطعه تعهدات صريحة وحازمة للجمهور الإسرائيلي بأنه "سوف يقضي على سلطة حماس الإرهابية في قطاع غزة"، كما أعلن في أحد مهرجاناته الانتخابية في ذلك العام.

لكن نتنياهو وحكومات اليمين فيما بعد تصرفت، كما يؤكد واضعو خارطة المفاهيم أنفسهم، بصورة مناقضة تماماً لتلك التعهدات، إذ شرع، على الفور، في تطبيق استراتيجيته بشأن تقوية حركة حماس في قطاع غزة، باليد الأولى، وإضعاف السلطة الفلسطينية، باليد الثانية، وذلك من أجل تحقيق هدف مركزي واحد: تقليل فرص إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل والاضطرار إلى إخلاء مستوطنات إسرائيلية من المناطق الفلسطينية.

وفي نيسان 2014 أوقفت الحكومة الإسرائيلية المفاوضات التي كانت تجريها مع السلطة الفلسطينية ولم يتم استئنافها حتى هذا اليوم. وقد تعمد نتنياهو تجنب اتخاذ أي قرار أو إجراء من شأنه تحسين مكانة السلطة الفلسطينية، بل عمد إلى فعل العكس تماماً، وهو اتخاذ إجراءات تهدف إلى إضعافها. "وبالرغم من استمرار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن الإسرائيلية، والذي أدى إلى منع عدد كبير من العمليات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية، إلا أن حكومة نتنياهو واصلت تصوير السلطة الفلسطينية والتعامل معها باعتبارها جسماً متطرفاً يقوم بإجراءات دبلوماسية ضد إسرائيل تشكل إرهاباً سياسياً".

وعلى امتداد أعوام رئاسته للحكومة الإسرائيلية، والتي بلغت 14 عاماً حتى الآن، تميزت نظرة نتنياهو إلى حركة حماس بكونها "جهة مسؤولة بالإمكان التفاوض معها، بل والتوصل حتى إلى اتفاقات معها". فبعد كل "جولة قتالية" ـ عدوان إسرائيلي جديد على قطاع غزة ـ كان نتنياهو يتوصل إلى تفاهمات مع حماس، الأمر الذي رفع من شعبية هذه الحركة ومكانتها في نظر المجتمع الفلسطيني، في مقابل الحطّ من هيبة ومكانة السلطة الفلسطينية. وعلاوة على ذلك، واصل نتنياهو تقديم ما يسميه الإسرائيليون "جوائز" إلى حركة حماس، سواء أكانت تسهيلات مختلفة، تصاريح عمل، تحويل أموال ونقل بضائع وآليات وغيرها. "بل إن تقارير صحافية ذهبت إلى أبعد من ذلك حين تحدثت عن "حصانة شخصية" منحها نتنياهو إلى قادة حركة حماس، من خلال عدم مصادقته على خطط قدمتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية غير مرة لاغتيال هؤلاء القادة، أو بعضهم، وخصوصاً بين الأعوام 2018 ـ 2020". 

ويقتبس معدو تقرير خارطة المفاهيم عن واحد من أبرز القادة العسكريين الأكثر يمينية في إسرائيل، وهو اللواء احتياط غرشون هكوهين، قوله إن "استراتيجية نتنياهو هي منع تحقيق خيار الدولتين، ولذا فهو يجعل حماس الشريك الأقرب إليه. على المستوى العلني ـ حماس هي عدو؛ أما على المستوى الخفي ـ فهي حليف". ولكن نتنياهو نفسه عاد واعترف علانية في العام 2019 بأن استراتيجيته هي تقوية حركة حماس، وليس تصفيتها، وذلك حين قال: "إن من يريد إفشال إقامة دولة فلسطينية، يجب عليه أن يدعم تقوية حماس وتحويل أموال إلى حماس". وأضاف: "إن هذا هو جزء من استراتيجيتنا، الفصل بين الفلسطينيين في غزة والفلسطينيين في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)".

وأضافوا يقولون: "غير أن تقوية حركة حماس لم تكن استراتيجية نتنياهو الشخصية حصرياً، بل كانت أيضاً استراتيجية شركائه في اليمين الاستيطاني الذين ارتأوا تفضيل تقوية حماس في مقابل إضعاف السلطة الفلسطينية، انطلاقاً من الإيمان التوراتي بأن ’أرض إسرائيل الكاملة هي أرض موعودة للشعب اليهودي، ولذا فمن المحظور إجراء أية مفاوضات بشأنها’. وكل هذا، بكلمات أخرى، هو من أجل المستوطنات في الضفة الغربية. وقد عبر عن هذا الموقف الاستراتيجي خير تعبير زعيم حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، الذي قال في العام 2015 إن ’السلطة الفلسطينية هي عبء بينما حماس هي كنز’".

وفي تشرين الأول 2011 تم تنفيذ صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس والتي جرى في إطارها الإفراج عن 1027 أسيراً فلسطينياً ـ كان بينهم 280 محكوماً بمؤبدات من ضمنهم يحيى السنوار ـ في مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت، الذي أمضى في الأسر لدى حماس في قطاع غزة خمس سنوات وأربعة أشهر بعد اختطافه من ثكنة عسكرية إسرائيلية في حزيران 2006. وقد شكلت تلك الصفقة حدثاً مؤسساً في تقوية حماس، كما يصفها معدو التقرير، بالنظر إلى الأهمية القصوى التي يوليها الشعب الفلسطيني عموماً إلى مسألة الأسرى الفلسطينيين.

وتابعوا: "منذ تلك الصفقة، اعتمدت حكومات اليمين الإسرائيلية آلية لمكافأة حماس في أعقاب كل جولة قتالية، وذلك بأموال قطرية. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أنه منذ العام 2019 حتى مؤخراً، سمحت إسرائيل لقطر بتحويل ما مجموعه أكثر من مليار دولار إلى حركة حماس في قطاع غزة، مما أتاح لها تعزيز قاعدتها الشعبية من جهة وتعزيز قدراتها العسكرية من جهة أخرى. وبتطبيقه لهذه الاستراتيجية، تقوية حماس في مقابل إضعاف السلطة الفلسطينية والمسار السياسي، أوجد نتنياهو معادلة تقول إن إسرائيل لا تفهم، ولا تكافئ، سوى لغة القوة! وفي صباح السابع من تشرين الأول الماضي، استخدمت حماس كل تلك القوة التي راكمتها في ظل حكومات اليمين، وبرعايتها ومساعدتها، لتنقلب استراتيجية تقوية حماس إلى استراتيجية تدمير ذاتي إسرائيلية". 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات