المستوطنون باتوا يتحدثون عن المال والمسكن الجديد أكثر من الحديث عن "المقاومة" ودلّ استطلاع جديد للرأي، نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، مؤخرًا، على أن الغالبية الساحقة من المستوطنين في قطاع غزة باتت معنية بالحصول على تعويضات مالية كبيرة كشرط لانسحابها بهدوء من قطاع غزة
دلّ استطلاع جديد للرأي، نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، مؤخرًا، على أن الغالبية الساحقة من المستوطنين في قطاع غزة باتت معنية بالحصول على تعويضات مالية كبيرة كشرط لانسحابها بهدوء من قطاع غزة، وإن كان الاستطلاع لا يشمل سؤالا واضحا بهذا المعنى، إلا ان المفهوم الظاهر لمجمل الاسئلة يؤكد ذلك.
وحسب الاستطلاع الذي شارك فيه 402 شخص من مستوطني القطاع، ويشكلون شريحة نموذجية للمستوطنين، فإن 80% من المستوطنين على استعداد لتلقي تعويضات ومغادرة المستوطنات، فيما عارض 20% اخلاء المستوطنات، وفضل 64% ان ينتقلوا للعيش بشكل جماعي في مكان آخر، واختار 10% ان ينتقلوا كل بمفرده للسكن حيث يشاؤون.
ولكن الاستطلاع نفسه يشير الى محاولة المستوطنين الظهور بمظهر المعارض للاخلاء، فمثلا يشير الاستطلاع الى ان 79% من المستوطنين لم يقبلوا بعد بفكرة اخلاء المستوطنات، واعلن 74% انهم سيقاومون الاخلاء بشكل مكثف ونشط، فيما أعلن 11% أنهم يريدون مقاومة الاخلاء بالعنف.
ويعزز هذا الاستطلاع الفكرة الاساسية الظاهرة من وراء سلسلة من الانباء التي وردت، ولا تزال، في اسرائيل حول ان قادة المستوطنين يكثفون اتصالاتهم "السرية" مع رئاسة الحكومة الاسرائيلية، في محاولة لرفع قيمة التعويضات من جهة، والانتقال الى منطقة طبيعية خلابة على شاطئ البحر الابيض المتوسط شمالي قطاع غزة، من جهة أخرى.
فقد كشفت بعض الصحف الاسرائيلية عن هذه الاتصالات السرية الجارية منذ نحو اسبوعين، بين قادة المستوطنين والموظفين في مكتب رئيس الحكومة، اريئيل شارون، وان الطرفين اتفقا في الآونة الأخيرة على ان يمثل كل طرف منهما طاقم حقوقي ومخمنون معتمدون، ويعمل الطاقمان بشكل مشترك وسري، لإعادة تخمين البيوت والمرافق الاقتصادية والزراعية، وتكلفة الانتقال والتأقلم من جديد في مناطق اخرى.
وقد المح المقربون من رئيس الحكومة اريئيل شارون، الى ان في نية الأخير رفع قيمة التعويضات، ولكن هذه الخطوة تحتاج الى قرار في واحدة من هيئات الكنيست، فإما في لجنة المالية البرلمانية، او حتى في الهيئة العامة، وفي كلتا الهيئتين يواجه شارون صعوبة في اقرار هذا الأمر.
أية تعويضات يريد المستوطنون
حين يتحدث المستوطنون عن تعويضات فإنهم لا يعنون فقط التعويضات مقابل سعر البيت، او المشروع الاقتصادي، بل ايضا تعويض عن الامتيازات التي يحصلون عليها في المستوطنات. هذا يؤكد ان دوافع الاستيطان لم تكن كلها ايديولوجية لدى الغالبية الساحقة من المستوطنين، لا بل ان الجانب الايديولوجي كان الجزء الصغير من مجمل هذه الدوافع، التي ابرزها الجانب المالي.
لقد شجعت كل حكومات اسرائيل على مر السنين، على كافة توجهاتها وتنوعاتها، المواطنين على الاستيطان في مستوطنات قطاع غزة والضفة الغربية وهضبة الجولان السورية المحتلة، واغدقت عليهم ميزانيات رهيبة وامتيازات مالية ومنح اسكانية وتسهيلات ضريبية لم يحظ بها غيرهم من مواطني اسرائيل، وجعلت من مستوى معيشتهم الاعلى في إسرائيل. ونذكر في هذا السياق، مثلا، ان ما تصرفه حكومة اسرائيل على الطالب الواحد في المستوطنات هو ثلاثة اضعاف ما تصرفه على الطالب اليهودي في داخل اسرائيل، واكبر بسبعة اضعاف مما تصرفه على الطالب العربي في داخل اسرائيل.
واليوم تأتي حكومة اسرائيل لتسحب كل هذه الامتيازات من هؤلاء، وهم الآن يريدون تعويضا حقيقيا، ليس تعويضا عن بيت او مزرعة، وانما ابعد من هذا، انهم يريدون نفس الامتيازات والتسهيلات المالية التي كانوا يحصلون عليها باستمرار في المستوطنات.
وطوال الفترة السابقة تركز قادة المستوطنين، بصفتهم ايضا البوق الإعلامي، على مسألة معارضة فكرة الاخلاء، ولكن ميدانيا، وفي غالبية بيوت المستوطنين كان التركيز على أمر آخر، على المال والتعويضات. وحاول قادة المستوطنين اخفاء الأمر أكثر ما يمكن، إلى أن انتهت حكومة شارون ومعها الكنيست من اقرار كافة القوانين والاجراءات للتعويض، وايضا بعد ان رأى ما يسمى بـ "مجلس مستوطنات قطاع غزة" ان المستوطنين بدأوا يتوجهون بمفردهم الى المؤسسة الرسمية للتفاوض حول التعويضات.
وامام هذا المشهد فقد بدأ الحديث عن التعويضات وحجمها يصبح الحديث الغالب في النقاش حول اخلاء المستوطنات، أما "حكاية" مقاومة الاخلاء، فاصبحت العصا التي يهدد بها المستوطنون الحكومة، وتتردد الآن صيغة: "رفع التعويضات مقابل إخلاء هادئ"، أو "الانتقال الى منطقة نيتسانيت واقامة تجمع بلدي خاص مقابل اخلاء هادئ"، وهكذا.
وقدّرت جهات حكومية ان يصل حجم "التعويض المدني" للمستوطنين الى حوالي 3 مليارات شيكل، أي ما يعادل 680 مليون دولار. وكان الحديث بداية يجري عن نصف هذا المبلغ، ولكن جرى تعديله مرتين ليصل الى مبلغ ثلاثة مليارات. واليوم يجري الحديث عن رفع آخر لهذه التعويضات، ولكن بالاساس تعويض عن المشاريع الاقتصادية، وزيادة الصرف على بند "التأقلم".
ومن جهة أخرى، فقد قرر مجلس مستوطنات قطاع غزة، الذي يمثل بشكل رسمي المستوطنين في القطاع، بأن يقبل عرض رئيس الحكومة، اريئيل شارون، للانتقال ككتلة واحدة الى شاطئ قرب مدينة عسقلان (اشكلون حسب التسمية الاسرائيلية)، وهو مكان معروف كمحمية طبيعية، وتعترض على المشروع جمعيات حماية الطبيعة والحفاظ على البيئة.
ويشترط قادة مستوطني قطاع غزة الانسحاب "بهدوء" من المستوطنات بأن يعرض شارون خطوات عملية وواقعية لبناء بلدة جديدة في المنطقة المذكورة التي يطلق عليها اسم "نيتسانيت". ويريد المستوطنون ان يقيموا في هذه البلدة الجديدة، في حال اقامتها، مجلسا بلديا لهم يدير شؤونهم.
وكان قادة المستوطنين هؤلاء قد التقوا شارون قبل اكثر من اسبوعين، وسمعوا منه عن العرض لاقامة تجمع سكاني جديد لهم، في منطقة تبعد عن حدود شمال قطاع غزة عدة كيلومترات، ولكنهم طلبوا ايضا في الاجتماع رفع قيمة التعويضات، بشكل خاص للمصالح الاقتصادية والزراعية في المستوطنات، وقيل انهم تلقوا وعدا من شارون بفحص إمكانية رفع قيمة التعويضات.
وحسب ما نشرته صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية، فإن الحكومة الاسرائيلية تعتزم بناء 550 وحدة سكنية في بلدة "نيتسان" جنوب عسقلان التي فيها حاليا الآن 100 بيت فقط، واقامة ثلاثة تجمعات سكانية صغيرة شمالي عسقلان على مساحة 22 كيلومترا مربعا، يخصص فيها 3600 دونم لبناء مبان سكنية، وان مجموع البيوت التي ستقيمها اسرائيل في تلك المنطقة هو حوالي 1870 بيتا، وهو اكثر من عدد عائلات المستوطنين في قطاع غزة.
وفي الوقت الذي يدفع فيه شارون بهذا المشروع إلى الأمام فإن وزارات المالية والداخلية والبيئة تعارض المشروع، الذي تحول الى موضوع جدل جديد في النقاش الدائر حول اخلاء مستوطنات قطاع غزة، واربع مستوطنات صغيرة شمالي الضفة الغربية.
مصادر التمويل
حاولت اسرائيل منذ ان بدأت خطة فك الارتباط واخلاء المستوطنات ان تجد جهة دولية تمول لها مشروعها الاستيطاني الضخم في قطاع غزة، هذا المشروع الذي استنزف الارض والمصادر الفلسطينية، وحرم اهل البلد من التحرك بحرية واستثمار اراضيهم، وجعل من قطاع غزة المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم.
وحين توجه شارون، ولاحقا نائبه شمعون بيريس إلى الجهات الدولية اصطدمت اسرائيل بموقف اوروبي حازم، هو رفض تمويل انهاء مشروع يتناقض مع القوانين والشرعية الدولية، بمعنى الاستيطان. وكان هذا الموقف ايضا في البنك الدولي، الذي على ما يبدو مقبل على تغيرات لن نأتي عليها هنا. كما ان وسائل الاعلام الاسرائيلية تحدثت عن رفض أميركي لتمويل الانسحاب.
وامام هذه الوضعية راحت اسرائيل تجزىء وتقسم مشروعها، وجعلته من شقين، "مدني" وعسكري، واصبحت تطالب الولايات المتحدة بأن تمول لها الجزء العسكري، أي تمويل عمل الجيش وانسحابه واعادة بناء معسكراته واعادة انتشاره على الحدود مع قطاع غزة. وحسب التقديرات فإن اسرائيل تريد اكثر من 340 مليون دولار للصرف على جيشها في هذا الاطار، ولكن لم يظهر جواب واضح حول الموقف الأميركي، ولكن من جهة أخرى بدأنا نشعر تغيرا وشيكا في موقف البنك الدولي.
فخلال زيارة رئيس الحكومة اريئيل شارون الى واشنطن، في الاسبوع الماضي، التقى شارون بالرئيس المقبل للبنك الدولي، وهو نائب وزير الدفاع الامريكي السابق بول وولفويتز، المعروف بتأييده المطلق لحكومة اسرائيل، ويعتبر من الجناح اليميني في الإدارة الأميركية الحالية.
واعلن ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية أن شارون تلقى وعدا من الرئيس المقبل للبنك الدولي بأن يبذل جهده من اجل ان يشتري البنك الدولي بيوت مستوطنات قطاع غزة، واربع مستوطنات في شمالي الضفة الغربية ونقلها للفلسطينيين.
وحسب المصادر الاسرائيلية، فإن شارون بحث مع وولفويتز الجوانب الاقتصادية لخطة الفصل واخلاء المستوطنات، واشترط شارون نقل أو بيع البيوت للسلطة الفلسطينية بمساعدة البنك الدولي بأن يتم الاخلاء بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، وقد وعد المسؤول الدولي بأن يتدخل شخصيا في هذه القضية للتوسط بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. واعلن شارون انه في كل الأحوال لن يتم نقل مبان عامة او معابد يهودية للفلسطينيين، بل سيتم هدمها.
وقيل لاحقا ان الحكومة الاسرائيلية في صدد اعداد تقرير مخمنين حول "ثمن" بيوت المستوطنات والبنى التحتية فيها، الذي ستطلبه اسرائيل من البنك الدولي، وان التقدير الاولي لهذا "الثمن" هو نصف مليار دولار.
وماذا عن "المقاومة"؟
إن الموقف الجديد لقادة المستوطنين، الداعي لانسحاب هادئ مقابل رفع التعويضات إلى جانب شروط سكنية، كما ذكر سابقا، لا يعني انتهاء المعارضة، فبداية قرر قادة المستوطنين انفسهم مواصلة الاعتراض على الاخلاء بالأساليب الديمقراطية التي ينص عليها القانون، كما جاء في قرارهم، ولكن الجهات المتطرفة لا تزال تستعد "لمقاومة" عنيفة للاخلاء، واكثر من هذا فإن شارون نفسه معني بهذه "المقاومة".
لقد اكدت جهات مختلفة في اسرائيل، إن كانت سياسية او إعلامية، أن كل الضجة الدائرة في اسرائيل حول "المقاومة العنيفة" تتركز بالاساس ببضع مئات من المتطرفين والارهابيين الذين يشكلون النواة الصلبة في هذه "المقاومة"، وهذه النواة تجمع من حولها بضعة آلاف، ولكن ليس من المضمون ان نرى الآلاف، خاصة بعد ان رأينا ما حصل على ابواب الحرم القدسي الشريف في مطلع الاسبوع الماضي.
فقد وعدت حركة "ريفافا" المتطرفة بأنها جندت عشرة آلاف شخص لاقتحام المسجد الاقصى المبارك، ورأينا ما رأيناه من حالة استنفار وصخب امني، وفي نهاية الأمر فإن "الآلاف العشرة" تقلصوا الى 40 شخصا او يزيد بقليل، وهذا الأمر شكل نموذجا لدى المؤسسة الامنية وايضا في الاعلام الاسرائيلي، لما سيحدث لاحقا في قطاع غزة.
ولا شك انه إذا بدأت إسرائيل إخلاء مستوطناتها فإننا سنرى "مقاومة" كتلك التي نشهدها كل عدة أشهر حول بؤرة استيطانية هنا وهناك في الضفة الغربية، ولكن كما ذكر هنا، فحتى لو قرر المستوطنون، جميعهم، الخروج بهدوء تام ومطلق من المستوطنات، فإن اريئيل شارون نفسه سيخلق "المقاومة العنيفة" التي يبني عليها للمستقبل.
شارون يريد أن "يحذر" العالم، بعد اخلاء المستوطنات، وبعد ان يروا "المشاهد المبكية"، من مغبة أن يطلبوا منه انسحابات أخرى، فهو بنفسه ذهب الى الاعلام الأميركي، ليعلن بشكل درامي ان اسرائيل باتت على وشك حرب اهلية بسبب اخلاء بضع مستوطنات تشكل بالكاد 4% من المشروع الاستيطاني في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان مجتمعة.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, اشكلون, يديعوت أحرونوت, هآرتس, بول, الكنيست, نائب وزير, رئيس الحكومة