شبه إجماع في أوساط المعلقين الاقتصاديين على أن نتنياهو لم يقدم أكثر من مشهد مسرحي، يقصد فيه المنافسة على زعامة حزبه الليكود، أمام شارون، ومن ثم المنافسة على رئاسة الحكومة.
انتظر وزير المالية بنيامين نتنياهو بزوغ فجر يوم الاثنين من الاسبوع الماضي بنوع من التوتر، فقد حلم ان تحمل كبرى الصحف الاسرائيلية صورته في المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل يوم، وهو واقف ويرفع رجله على كرسيه، في محاضرة فرضها عنوة على جمهرة من الصحفيين والمراسلين الاقتصاديين، الذين جاءوا ليسمعوا "بشائر" وزير المالية للسنوات العشر القادمة، حين أعلن بشكل درامي انه "قرر" جعل اسرائيل بعد عشر سنوات من أغنى عشر دول في العالم.
ولكن "خيبة أمل" نتنياهو كانت كبيرة، في صباح ذلك اليوم، فقد اندحرت "بشائره" جانبا، امام اللقاء المتوقع بين رئيس الحكومة اريئيل شارون والرئيس الأميركي جورج بوش، واحداث المسجد الاقصى في يوم الاحد من الاسبوع الماضي. وليس فهذا فحسب، بل ان التغطية في الصفحات الداخلية لم تخل من الانتقادات الحادة، من جانب المعلقين والمحللين الاقتصاديين، إن كانوا من ذوي التوجهات الاقتصادية الرأسمالية الصقرية، او من جانب دعاة العدالة الاجتماعية. وكان شبه إجماع في أوساط المعلقين الاقتصاديين على أن نتنياهو لم يقدم أكثر من مشهد مسرحي، يقصد فيه المنافسة على زعامة حزبه الليكود، أمام شارون، ومن ثم المنافسة على رئاسة الحكومة.
يدعي نتنياهو بداية ان النمو الاقتصادي سيكون خلال عامين الأعلى بين الدول المتطورة، وان وزارته المالية قررت ان تضع اسرائيل بعد عشر سنوات في المراتب العشر الأولى للدول الغنية في العالم، إن كان على مستوى المعيشة، او على مستوى معدل الدخل للفرد الواحد، "ولهذا فعلى ان إسرائيل أن تسجل نموا يتراوح ما بين 3% إلى 4,5% على الأقل".
واعلن نتنياهو من جهة واحدة أنه سيواصل سياسة خفض الضرائب، متجاهلا بذلك دعوة صندوق النقد الدولي بأن تستغل اسرائيل فائض الضرائب لديها لتخفض دينها. ويدعي نتنياهو ان تخفيض الضرائب يحقق نموا اقتصاديا، غير أن التخفيض الأساسي هو لأصحاب الأعمال وكبار المتمولين، فمثلا في ميزانية العام الحالي سيتم اعفاء اصحاب العمل من رسوم لمؤسسة الضمان الاجتماعي (التأمين الوطني) بقيمة 90 مليون دولار، وستصل قيمة هذه التسهيلات للضمان الاجتماعي حتى العام 2009 الى حوالي 2,1 مليار دولار، وهو ما سيشكل ضربة قاصمة لمؤسسة الضمان الاجتماعي في اسرائيل. كما سيحظى اصحاب العمل بتسهيلات ضريبية في هذا العام تتراوح ما بين 600 مليون الى 700 مليون دولار.
ويعرض نتنياهو ارقاما للجدل، فبداية يدعي ان النمو الاقتصادي سجل في العام الماضي ارتفاعا بنسبة 3,7%، وفي العامين الماضيين سوية ارتفع النمو بنسبة 4,3%، ولكن تقرير بنك اسرائيل المركزي يؤكد ان النمو الاقتصادي الحاصل لم يصل الى الشارع الاسرائيلي، وان الجمهور الواسع لا يزال يعاني الأزمة الاقتصادية. فتقرير الفقر حول العام 2003 دل على ان عدد الفقراء في اسرائيل زاد بمئة الف، ووصل الى حوالي 1,5 مليون، وأكد التقرير ان هذه الوتيرة استمرت في العام الماضي 2004، الذي من المفترض ان يصدر التقرير حوله خلال الشهرين القادمين.
ويدعي نتنياهو انه قلّص البطالة من 10,8% الى 10% في نهاية العام 2004، وان سوق العمل الاسرائيلي استوعب في العام الماضي 100 ألف عامل جديد، إلا ان تقريرا رسميا أكد ان 80% من هذه الوظائف هي وظائف جزئية، اضطر العاطلون عن العمل إلى اللجوء إليها بعد ان تم فرض تقييدات خانقة على مخصصات البطالة.
ويقول نتنياهو في المؤتمر الصحفي "الاحتفالي"، إن معدل دخل الفرد من الناتج الوطني في اسرائيل هو 17500 دولار وهذا معدل مستمر منذ اربع سنوات، وخلال هذه الفترة نجحت دول مثل قبرص وسنغافورة بتجاوز مرتبة إسرائيل إلى الأمام، وهو يريد رفع هذا المعدل. بداية تجدر الاشارة الى ان تحليل هذا المعدل للدخل يشير الى ان 3 آلاف دولار منه هو دخل مصطنع، فهو دخل حربي وليس مدني، والمعدل الطبيعي هو 14500 دولار، ولهذا فإن معدل الفرد من الناتج الوطني يعلو وينخفض، بالاساس، نتيجة النشاط العسكري.
وأعلن نتنياهو انه سيواصل ضرب مخصصات الضمان الاجتماعي، تحت شعار "التشجيع على التوجه الى العمل"، وسنعرف لاحقا، في هذه المعالجة، ان نتنياهو يكذب في كل ما يتعلق بهذا الملف، وان ضرب المخصصات الاجتماعية يوسع دائرة الفقر في اسرائيل.
انتقادات لاذعة
كان واضحا منذ ان تولى نتنياهو منصب وزير المالية انه شرع بسياسة أمركة الاقتصاد الإسرائيلي، من خلال خصخصة ما تبقى من القطاع العام، وضرب مفهوم "دولة الرفاه"، بمعنى ضرب المخصصات الاجتماعية التي تحصل عليها، بالأساس، الشرائح غير القادرة على الانخراط في سوق العمل، من مسنين واولاد ومعوقين، او عائلات فقيرة بسبب غياب احد الوالدين، وغيرها.
فقد قال وزير المالية السابق ابراهام شوحط إن الأرقام التي يتحدث عنها نتنياهو لا اساس لها، ومن اجل الوصول الى الانجازات التي يحلم بها فعلى الاقتصاد الاسرائيلي ان يسجل سنويا نموا اقتصاديا، فنتنياهو ينثر ارقاما في حين ان هناك عشرات الآلاف الذي اصبحوا من دون أي دخل مالي.
وفي مقال نقدي في صحيفة "هآرتس" كتب المحلل الاقتصادي ابراهام طال، ذو التوجهات الرأسمالية الصقرية يقول: "لم يكن أي سبب ظاهر للعيان يدفع ببنيامين نتنياهو لعقد مؤتمر صحفي عاجل، لكي يعرض على شعب اسرائيل حكايته بشأن نجاح السياسة الاقتصادية، منذ ان تولى حقيبة المالية في شهر شباط من العام 2003. ففي الماضي كان الكنيست الحلبة للخطاب الاقتصادي، خاصة عند عرض ميزانية الدولة السنوية، وكان وزراء المالية يلخصون السنة المالية ويعرضون تطلعاتهم واحلامهم، ولكن نتنياهو بارع اعلامي من الدرجة الاولى، يفضل ان يتوجه مباشرة إلى الجمهور في عرض صاخب وفي الوقت الذي يحدده هو".
ويتابع طال في مقاله: "لم يكن سبب ظاهر للعيان لهذا الحدث، ولكن السبب المتوقع هو ان نتنياهو يريد تثبيت مكانته في الذاكرة القومية، كمنقذ واصلاحي، فهو الذي انقذ الاقتصاد الإسرائيلي من أزمة قريبة جدا، فقد اجرى تحولا وطبق عليه معافاة اقتصادية، وقد استؤنف النمو الاقتصادي والبطالة انخفضت، وما يعتبره نتنياهو كانجازات اقتصادية، يعود الفضل فيها الى الشخص الذي قاد العملية".
إلا ان طال ينسب الانتعاش الاقتصادي المحدود في اسرائيل الى عدة عوامل خارجية، من بينها أن الولايات المتحدة قدمت لاسرائيل ضمانات مالية في العام 2003. كما انه في هذا العام هبط سعر صرف الدولار امام الشيكل الى المستوى الطبيعي، في حدود 4,4 شيكل، بدلا من خمس شيكلات كما كان الحال في العام 2002. ويضيف طال في مقاله: "العامل الاضافي الذي فسح المجال امام انتعاش اقتصادي، هو الانتعاش في الاقتصاد العالمي، والانفراج الحاصل في فرع التكنولوجيا المتطورة، والتصدير الاسرائيلي في العام 2004 فاق المعدلات العالمية، وكان لهذا مساهمة كبيرة في تحقيق النمو الاقتصادي، وفي المقابل فإن الاستهلاك الفردي لم يساهم اطلاقا في النمو، ولهذا فإن أبطال النمو هم أرباب الصناعة والمصدرون". وما يقوله طال هنا، يؤكده تقرير بنك اسرائيل المركزي، بأن النمو الحاصل في اسرائيل في العامين الأخيرين لم يصل اطلاقا الى الشارع الاسرائيلي.
وعلى الرغم من توجهاته الاقتصادية الصقرية، إلا ان ابراهام طال لم يستطع اخفاء الحقيقة، وهو أن ضرب المخصصات الاجتماعية وسع دائرة الفقر. ويكتب "إن التقليصات كانت قاسية جدا في العام 2004". ويضيف "إن التغيرات الاقتصادية في العامين الماضيين لم تنجح في حل مشكلة الفقر، فالنشاط الاقتصادي الحاصل لم ينعكس على ذوي الدخل المنخفض، لجهة ارتفاع مدخولهم من الرواتب وخروجهم من دائرة الفقر".
ويختتم طال مقاله قائلا: "من ناحية ربع مليون عاطل عن العمل، ومئات الآلاف من ذوي الراتب المنخفض، ومئات الآلاف من الاشخاص الذين جرى تقليص مخصصاتهم الاجتماعية، فإن المهرجان الاعلامي الذي نظمه نتنياهو لنفسه، كان احتفالا سابقا لأوانه، ويوجد مكان للخوف من ان النقمة المتفاقمة في النفوس قد تنفجر في يوم من الايام بشكل من الصعب السيطرة عليه، ولربما هؤلاء بالذات، وليس أولئك الذين ربحوا من النمو، سيحددون مكانة نتنياهو في التاريخ".
أما المعلقة الاقتصادية روت سيناي، صاحبة التوجهات الاقتصادية الاجتماعية، فقد كشفت في مقالها زيف ادعاء نتنياهو بأنه يقلص المخصصات الاجتماعية لكي يحفز الناس على الخروج الى العمل، ويتبين ان 85% من الحاصلين على المخصصات الاجتماعية لا يمكن ان ينخرطوا اطلاقا في سوق العمل.
وتقول سيناي في مقالها في صحيفة "هآرتس": إن ميزانية الحاصلين على المخصصات الاجتماعية وبامكانهم الانخراط في سوق العمل تشكل 15% فقط من مجمل ميزانية المخصصات الاجتماعية، وتتوزع على النحو التالي: حوالي 5% كانت المخصصات للعاطلين عن العمل، وحوالي 7% لمخصصات تأمين الدخل، وتقدم للاشخاص الذين تجاوزت فترة عدم حصولهم على عمل ستة الى سبعة شهور، وحوالي 2,5% الجنود الذين يخدمون في الاحتياط لفترات محدودة سنويا. وفي المقابل فإن 85% من ميزانية المخصصات توزع على النحو التالي: على المسنين والارامل بنسبة 35,6%، وعلى الاولاد الذين هم دون 18 عاما 14% والمعوقين 16,2%، والمسنين المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة 5,6%، والامهات الوالدات ودفعات النفقة للمطلقات 6%، ومخصصات حوادث الطرق والعمليات التفجيرية 7%.
ولم تكن هناك معالجة واحدة أو تعليق على "أحلام نتنياهو" إلا وتطرق الى اللعب بالارقام في البطالة الحاصلة في إسرائيل.
وكان "المشهد الإسرائيلي" قد نشر تقريرا حول هذه القضية في عدده الصادر يوم 8 شباط/ فبراير الماضي، وجاء فيه: "في العام 2004 ازداد عدد العاملين في سوق العمل الاسرائيلي بحوالي 80 الف عامل، ولكن 60 الفا منهم عملوا في وظائف جزئية، وفقط 20 الفا في وظائف كاملة. وان سبب هذا هو طلب اصحاب العمل لوظائف جزئية، وليس بناء على طلب العاملين، بأن يكون عملهم بوظائف جزئية. كما أن أماكن العمل التي عمل فيها العاملون بوظائف جزئية، ليس العمل الجزئي من طبيعتها. ويلخص بنك اسرائيل تقريره في مجال العمل الجزئي بالقول إن اتساع دائرة العمل الجزئي نابع من عدم المقدرة على ايجاد عمل بوظيفة كاملة.
وحسب التقرير فإن نسبة العاملين بوظائف جزئية في اسرائيل، اي اقل من 35 ساعة اسبوعيا، بلغت في في العام الماضي 29%، (لا يشمل وظائف التعليم والتمريض وغيرها من المجالات، حيث ساعات العمل الاسبوعية الكاملة اقل من 35 ساعة ونسبتهم من مجمل العاملين حوالي 18%)، بينما ان هذه النسبة كانت في السنوات الثلاث الاخيرة 27,5%".
نشير في هذا المجال إلى أن معطيات تقرير الفقر الاخير الذي اصدرته مؤسسة الضمان الاجتماعي دلت على أن هناك 122 الف عائلة في اسرائيل فيها شخص واحد يعمل، و17 ألف عائلة فقيرة يعمل فيها اثنان، تعيش تحت خط الفقر وكل هذه الأرقام هي أكبر من الارقام التي كانت في تقرير العام 2002. بمعنى أنه حتى الخروج الى سوق العمل لم ينقذ مئات الآلاف من الناس من دائرة الفقر في إسرائيل.
أحلام نتنياهو وسياسة الحرب
حين يتحدث نتنياهو عن احلامه لعشر سنوات فإنه عن قصد يتجاهل المعوق الاساسي لأي انتعاش اقتصادي حقيقي في اسرائيل، إلا وهو سياسة الحرب والاحتلال. فكل التقارير الرسمية كانت تؤكد ان عدم الاستقرار الامني ادى الى هروب رؤوس الاموال الاجنبية وتراجع السياحة، وبالتالي هرب رؤوس أموال محلية إلى الخارج، وكان هذا دائمًا السبب الرئيسي لكل ازمة اقتصادية خانقة في اسرائيل.
إن من ينظر الى ما تخطط له اسرائيل حقيقة في "السنوات العشر القادمة"، يجد انها تخطط الى احتلال واستيطان وتعميق استيطان وخنق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، على الرغم من الانسحاب المعلن من القطاع، وايضا استفحال سياسة التمييز ضد العرب في اسرائيل.
فإذا توقع ابراهام طال انفجارا اجتماعيا في اسرائيل، فإن الانفجار السياسي سيكون أسرع. لقد عرفت المؤسسة الحاكمة في اسرائيل كيف تخمد دائما الهبات الاجتماعية و"ثورات الخبز"، من خلال الحروب والتصعيد الامني، وليس من المعروف إذا كانت ستنجح في هذا الى أمد غير محدود.
نتنياهو كان يتغنى بـ "انجازاته الاقتصادية"، وعينه على كرسي رئاسة الحكومة. ولن تكون أي مخاطرة في القول ان نتنياهو على ما يظهر سيخسر الاثنتين معا.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, التأمين الوطني, ألف, هآرتس, الشيكل, بنك اسرائيل, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو