المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • اسم في الأخبار
  • 1692

عندما سُئل إيسار هرئيل، قبل عدة شهور، عما إذا كان نادمًا على أمر ما فعله في حياته، أجاب بحزم "لا". جوابه لم يفاجئ أحدًا؛ فقد لاءمه ولاءم صورته المعهودة. هرئيل، الذي يعتبر مؤسس المخابرات في إسرائيل، توفي أمس (18 شباط) إثر مرض عضال وهو في الواحد والتسعين. وخلال 15 سنة أدار وقاد بيد صلبة جهاز الأمن الاسرائيلي العام ("الشاباك") وأدار "جهاز المخابرات والمهمات الخاصة" ("الموساد") طيلة 11 عامًا، وبلور الجهازين على شاكلته؛ ومنذ إقامة اسرائيل في 1948 أعطى للمخابرات الاسرائيلية، أكثر من اي إنسان آخر، صورتها كمعدومة الأثر والكوابح، <<مصممة وحاسمة، لا تخشى من أية مهمة، حتى الأصعب والأخطر والأكثر جرأةً على الاطلاق>>.كان هرئيل، الذي عُرف أيضًا بـ "إيسار الصغير" بسبب قامته القصيرة، إنسانًا مختلَفًا عليه. في نظر المعجبين به، كان الأب المؤسس للمخابرات الاسرائيلية، الرجل الذي بلور نهج عملها وتعاليم حربها وحارب <<أعداء الديمقراطية الفتية الاسرائيلية>>، الداخليين والخارجيين، من دون لأيٍ. وفي نظر معارضيه، كان ينتمي إلى فئة "محاكم التفتيش"، إلى فئة رؤساء الـ "كي غي بيه" السوفييتي، وعلى رأسهم الجنرال برييه، وكان مستعدًا لخدمة السلطة بأي ثمن، وتماثل مع حكم دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة، وعمل في خدمته.

 

ولد أيسار هلبرين في العام 1912 في بلدة ويتبسك في قطاع فولوجين في بيلاروس، التي خضعت عندها لحكم القيصرية الروسية. وكان يمكن لإيسار أن يندفع، سوية مع غالبية أبناء جيله من اليهود، نحو أحضان الأمل الشيوعي ونحو الثورة البلشفية، التي قضت على حكم قيصر روسيا. <<لكن تربيته اليهودية والقصص بالعبرية التي قرأها له والده، أتت بثمارها>>، كما يكتب يوسي ميلمان في "هارتس" (19 شباط). وقد وقع إيسار في "أسر" الصهيونية وليس في "أسر" الشيوعية. وانضم الى حركة "هشومير هتسعير" وفي العام 1930 حصل على إذن من الحكومة الانتدابية بالهجرة إلى البلاد وانضم إلى كيبوتس في "موشافاة هرتسليا" وهناك تعرف على زوجته رِفقه.

مع إندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 انضم إيسار هلبرين إلى تنظيم "الهغناه" وبعد خمس سنوات نُقل ليخدم في وحدة الاستخبارات التابعة للتنظيم – "خدمة المعلومات" ("شاي"). وعلى أسس الـ "شاي" أقيمت أسس جمهرة المخابرات في إسرائيل، بعد اعلان استقلالها في 1948 وإقامة الدولة اليهودية. وفي إجتماع في الثالث من حزيران 1948، في شارع بن يهودا 85 في تل أبيب، في ذروة حرب 1948، تقرر تقسيم الصلاحيات بين الوحدات الخاصة وتحديد جمهرة المخابرات.

عُين هرئيل رئيسًا لجهاز الأمن الداخلي - جهاز الأمن العام (الذي أقيم رسميًا في 9 آذار 1949). ووقف على رأس ما عرف بعد ذلك بـ "جهاز المخابرات والعمليات الخاصة" ("الموساد") ريئوبين شيلوّاح، مستشار رئيس الحكومة دافيد بن غوريون ووزير الخارجية موشيه شاريت.

في حرب 1948، عندما كان "الشاباك" لا يزال وحدة (رقمها 184) عسكرية لكل شيء، تجول هرئيل ببزة عسكرية مع رتبة نائب كولونيل في الجيش الاسرائيلي. في 1950 فُصل "الشاباك" رسميًا عن الجيش الاسرائيلي وخلع هرئيل بزته العسكرية، وانتقل إلى الملابس المدنية وانكب على تنمية مبنى "جهاز الأمن العام"، في حين كانت مكاتبه عندها في يافا، ما يُسمى اليوم "سوق الخردوات". جنّد قوى بشرية وبلور مبنى "الشاباك" – ما يسمى اليوم "أقسام" سمي عندها "مراكز" - الذي يذكّر بالمبنى الموجود اليوم.

يكتب ميلمان: <<وكرئيس لجهاز الأمن العام أعتبر هرئيل إنسانًا قائدًا ومركزيًا في إدارته. وتماثل من دون أية صعوبة مع حكم بن غوريون المركزي؛ وطابقَ من دون أي تحفظ بين مصالح الحكومة ومصالح الدولة. ولم يرَ أي خلل في المشاركة في اجتماعات مركز "مباي" وأمر "مطيه 2" (المركز 2 - ما يُعرف اليوم كقسم منع الدسّ السياسي والتجسس المضاد) بتجنيد عملاء والتحري وراء أحزاب سياسية، من خصوم "مباي". وهكذا وُضعت "حيروت" برئاسة مناحيم بيغن، و "الصهاينة العموميون" و "مبام" برئاسة مئير يعاري تحت عين "الشاباك" اليقظة. وفي العام 1952 كُشف عن ميكروفونات زرعها رجال "الشاباك" في مكاتب قياديي "مبام" يعاري ويعقوب حزان.>>

حارب هرئيل في السنوات الأولى من إقامة اسرائيل ما رآه كتهديدات على <<الديمقراطية المتقوية في إسرائيل>>، وكشف عن تنظيمات سرية من اليمين المتطرف، غالبيتها من خريجي "هليحي" ("تنظيم تسريفين"، و "ملكوت يسرائيل")، وعن تنظّمات لشباب حريديم، ومنهم من كان القائد الروحي لـ "المفدال"، الراب شلومو إلياهو، ومن زعامة "أغودات يسرائيل" عضو الكنيست شلومو لورنتس. وفيما بعد، يتضح أن هرئيل رأى ظلال الجبال، جبالاً، ولم تكن التنظيمات التي كُشفت جديةً وبالتأكيد لم يكن بوسعها تهديد الحكم المركزي.

في العام 1952، وبعد استقالة ريئوبين هشيلوّاح من رئاسة "الموساد"، عين بن غوريون هرئيلَ بديلا له. ونقل هرئيل مهمة رئاسة "الشاباك" إلى نائبه، إيزي دوروت، وبعد ذلك إلى عاموس منور- ولكنه بقي في نظر بن غوريون والحكومة المسؤول الفعلي عن الجهازين. في العام 1957، في خطاب في الكنيست، عرّفه رئيس الحكومة بأنه "المسؤول" عن الأجهزة الأمنية في الدولة. هرئيل جمع في يديه وقتها قوة هائلة، أكثر من أي رئيس مخابرات آخر في العالم الغربي.

وقد دفع الجهاز الهائل الذي كان بين يديه، أسبوعية "هعولام هزيه" بتحرير أوري أفنيري، إلى تسميته بإسم "جهاز الظلام". وكما بنى "الشاباك" من الصفر، هكذا بنى هرئيل "الموساد". وقد أقام وحدة تعنى بهجرة اليهود من الدول التي منعت ذلك – خاصة من المغرب - وساعد اليهود في شمال أفريقيا وجنوب أمريكا في الدفاع عن نفسها. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم تُسمى هذه الوحدة "بيتسور" (تحصين). وفي المقابل، إنكب هرئيل على تنمية العلاقات الخارجية والعلاقات الخاصة لـ "الموساد" مع تنظيمات مخابراتية أخرى في العالم، عن طريق وحدة بإسم "تفيل" (الكون).

وأجبر هرئيل "الشاباك" و "الموساد" بتسيير إدارة متقشفة، أقرب إلى التنسكيّة، وحرص بشكل خاص على شؤون الطاعة، <<وكانت يده حامية للخزينة العامة. ورفض بإصرار إغتيال الخونة والجواسيس وأصر على تقديمهم للمحاكمة>>.

ورأى هرئيل، الذي عُرف كـ "أنتي - صهيوني" بارز، في الاتحاد السوفييتي عدوًا وحارب بشراسة محاولات الـ "كي غي بيه" وأجهزة المخابرات التابعة له في أوروبا الشرقية، تجنيد عملاء داخل إسرائيل. وكشف، بفضل تشكيكه الغريزي، عن جواسيس مثل زئيف أفني، الذي كان موظفًا في وزارة الخارجية الاسرائيلية في 1956 وقام أيضًا بإرساليات في خدمة "الموساد"؛ وكشف عن أفري إلعاد ("الشخص الثالث") الذي شُكّ فيه بأنه الذي سلّم شبكة اليهود الذين نشطوا في مصر بتكليف من إسرائيل، في العام 1954؛ وكشف المستشرق أهرون كوهن من "مبام" في 1958؛ والدكتور يسرائيل بار، المستشار الخاص لرئيس الحكومة دافيد بن غوريون في العام 1961.

وقد تحول شكّه الغريزي إلى ما يشبه الاستحواذ وأدى إلى وضع نهاية لحياته المهنية. في 1961 أمر بحملة للتخويف والمس بعلماء ألمان وأبناء عائلاتهم، غالبية هؤلاء العلماء كانوا في خدمة النازية، وعملوا على تطوير برنامج الصواريخ والسلاح غير التقليدي لمصر. وهدد عملاء "الموساد" في أوروبا العلماء وأبناء عائلاتهم، وبعثوا لهم بمغلفات متفجرة وحتى أنهم حاولوا إغتيال عدد منهم. وقد أثارت هذه الحملة غضب حكومة ألمانيا، برئاسة المستشار كونراد أدناؤور، وغضب بن غوريون الذي عمل آنذاك على مصالحة تاريخية مع "ألمانيا الأخرى". ولكن هرئيل الذي لم يؤمن بهذا الاصطلاح، تنازع مع بن غوريون وفي نهاية الأمر، أدى هذا النزاع إلى تقديمه لاستقالته في 1963.

ولكن بعد سنتين أعيد هرئيل إلى مركز النشاط المخابراتي؛ وبشكل مفاجئ جدًا، على يد غريم بن غوريون، رئيس الحكومة الجديد، ليفي إشكول، الذي عيّنه مستشاره للشؤون المخابراتية. في العام 1969 أنتخب للكنيست من قبل القائمة الرسمية. ومن وقتها انكب على تأليف الكتب.

* عملية اصطياد آيخمان

وصل إيسار هرئيل إلى ذروته المهنية في العام 1961، عندما قاد شخصيًا وعن قرب –هرئيل سيّر المفهوم السائد بأن رئيس "الموساد" متواجد في الحلبة - حملة القبض على أدولف آيخمان في الأرجنتين، وتقديمه للمحاكمة في إسرائيل. وقد كانت هذه العملية مسؤولة عن السمعة العظيمة التي راجت لـ "الموساد"، كـ <<تنظيم جريء وحذق>>.

وقد وصلت المعلومات عن تواجد أدولف آيخمان في الأرجنتين من مكتب النائب العام في ألمانيا، وعمل هرئيل – الذي اعتقد أن المخابرات الاسرائيلية هي أيضًا مخابرات الشعب اليهودي - بكل قوة من أجل إستغلال هذه المعلومة والكشف عن آيخمان، والقبض عليه وجلبه إلى إسرائيل.

وكانت محاكمة آيخمان واحدة من الأحداث المركزية الهامة في تاريخ دولة إسرائيل الحديثة العهد، التي فضلت حتى تلك المحاكمة عدم التعامل مع ذكرى المحرقة.

وبعد ذلك بسنة، في العام 1962، أمر إيسار هرئيل، خلافًا لموقف رئيس "الشاباك"، عاموس منور، بالمشاركة في عملية الكشف عن طفل في الـ 12، إسمع يوسله شوحمخار.

شوحمخار أختطف على يد أقربائه الحريديم، لأن والديه لم يكونوا متدينين كفاية - على حد تعبيرهم.

واعتقد هرئيل، أنه في أعقاب فشل الشرطة في الكشف عن شوحمخار، فإن حكومة بن غوريون تعاني من مسّ كبير في صورتها، فقام بتجنيد وحدة المعليات التابعة لـ "الشاباك"، في مهمة خارجة عن نطاق صلاحياتها. وفي نهاية الأمر وُجد الطفل شوحمخار في بروكلين في نيويورك وأعيد إلى والديه، لكن الجانب "الصليبي" في شخصية هرئيل، صار معروفًا للجميع.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات