المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الاستيطان على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية: اندفاعة شرسة ومتسارعة. (دفار)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 36
  • ياسر مناع

تبذل الحكومة الإسرائيلية، بالتنسيق مع مجالس المستوطنات والمنظمات الاستيطانية، جهوداً حثيثة لتكثيف الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية، وذلك من خلال توسيع المستوطنات القائمة، وإنشاء بؤر جديدة، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية داعمة. وتندرج هذه التحركات ضمن إطار هدف استراتيجي معلن يتمثل في رفع عدد المستوطنين في الضفة إلى مليون مستوطن، بما يعزز من السيطرة الديمغرافية، والسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.

تناقش هذه المساهمة تقريراً صادراً عن مركز "تمرور – بوليتوغرافيا"، نُشر في صحيفة "يسرائيل هيوم" بتاريخ 20 آذار 2025، ويتناول الاتجاه المتراجع – بحسب تحليل المركز- في الإقبال على السكن في مستوطنات الضفة الغربية. ويُرجع التقرير هذا التراجع إلى جملة من العوامل، في مقدمتها الأوضاع الأمنية وتداعياتها المباشرة على قرارات الانتقال والاستيطان، إلى جانب تأثيرات جائحة كورونا.[1] لكن ثمة مؤشرات وتقارير ترى عكس ذلك؛ إذ تشير إلى تسجيل نمو في أعداد المستوطنين في الضفة الغربية.

تمرور– بوليتوغرافيا"

يُعد مركز "تمرور– بوليتوغرافيا" (תמרור–פוליטוגרפיה) إحدى المبادرات البحثية الإسرائيلية، تأسس في تموز 2022 كإطار أكاديمي– تحليلي يعمل على بناء أدوات لتوصيف الواقع الجيوسياسي للصراع الإسرائيلي– الفلسطيني، من خلال الاعتماد على البيانات والتحليل متعدد المجالات.[2]

يتبنّى المركز منهجية مركبة تجمع بين سبعة مجالات: الأمن، السياسة، القانون، الاقتصاد، المجتمع، الجغرافيا، والدبلوماسية؛ يهدف – كما يطرح القائمون على المركز - إلى تمكين متّخذي القرار في إسرائيل من فهم طبيعة الواقع القائم وتوجهاته المستقبلية، وتقييم أثر السياسات المتبعة على الأوضاع الميدانية ضمن أربع وحدات جغرافية رئيسة: المنطقة (ج)، المناطق (أ + ب)، قطاع غزة، والقدس الشرقية.

يُوفر المركز منصّتين: الأولى، للباحثين والمستشارين المهنيين، والثانية، لصنّاع القرار، تتيحان تحليل السيناريوهات السياسية المحتملة، مثل: الدولة الواحدة، الدولتان، الكونفدرالية، الوضع القائم، وغيرها، وربطها بتوجهات السيطرة الفعلية على الأرض.

يُدير المركز الدكتور شاؤول أريئيلي، إلى جانب مجموعة الباحثين الإسرائيليين في مختلف التخصصات، من بينهم: جلعاد هيرشبرغر، رونيت مرزان، روعي فرايبيرغ، أمنون سوفرين، وغيرهم من المتخصصين في الشأن الفلسطيني، والعربي، والدولي.

تراجع لافت أم نمو متزايد؟

يبدأ التقرير بالإشارة إلى التحوّل اللافت في توجهات الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، حيث كانت تُعتبر خلال العقد الذي تلا الانتفاضة الثانية وجهة سكنية مفضّلة للإسرائيليين، مدفوعة بزخم سياسي ودعم حكومي واسع. إلا أن المعطيات الحديثة تكشف عن انعكاس تدريجي في هذا الاتجاه، مع تزايد مظاهر الهجرة السلبية من المستوطنات نحو داخل الخط الأخضر، بل وفي بعض الحالات إلى خارج إسرائيل.[3] ويُعزى هذا التراجع من جهة نظر "تمرور" إلى عدد من العوامل، أبرزها التصعيد الأمني في الضفة الغربية، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة داخل المستوطنات، فضلاً عن أزمة البناء والتداعيات العميقة للحرب التي اندلعت بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

التحول في ميزان الهجرة – المعطيات والمؤشرات

تشير بيانات "تمرور"، المستندة إلى معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، إلى أن أربعاً من السنوات الخمس الأخيرة شهدت ميزان هجرة سلبياً من الضفة الغربية، ولم تُسجّل هجرة إيجابية سوى في عام واحد وبمعدلات ضئيلة. فعلى الرغم من أن عدد المستوطنين في الضفة بلغ حتى نهاية 2024 نحو 511  ألف نسمة، فإن معدل النمو السكاني عبر الهجرة تراجع بشدة.

في العام 2020، بدأت موجة التراجع بـ 842 مستوطناً من الضفة، تزامناً مع جائحة كورونا. ثم تواصل التباطؤ في العام 2021، حيث لم يُسجّل سوى هجرة 74 مستوطناً جديداً. أما العام 2022 فقد سجل هجرة 1,022 إسرائيلياً، على الرغم من استمرار عمليات البناء آنذاك.

وفي العام 2023، شهدت الضفة استقراراً نسبياً مع انتقال 550 مستوطناً جديداً. إلا أن اندلاع الحرب في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023 أعاد المشهد إلى الوراء؛ حيث سُجّلت في العام 2024 أكبر موجة هجرة سلبية، تمثلت في هجرة 1,596  مستوطناً من الضفة، بالإضافة إلى 284  مستوطناً غادروا إسرائيل كلياً. وتشير بيانات شهري كانون الثاني وشباط 2025 إلى استمرار هذا المنحى، حيث بلغ عدد المهاجرين من مستوطنات الضفة 182  مستوطناً خلال الشهرين فقط.

مع تراجع انتقال المستوطنيين للسكن في الضفة، بات النمو الديمغرافي فيها يعتمد بشكل شبه كلي على النمو الطبيعي. وبحسب معطيات "تمرور"، فقد وُلد منذ مطلع العام 2025 حوالي 549  طفلاً، 58% منهم في المستوطنات الحريدية الكبرى مثل "موديعين عيليت" و"بيتار عيليت"، ما يعكس تركّز التكاثر السكاني في بيئات اجتماعية مغلقة لا تعكس تنوعاً ديمغرافياً واسعاً.

على الجهة المقابلة، يُظهر مجلس المستوطنات "يشع" أن ثمة زيادة في عدد المستوطنين في الضفة الغربية. وفق التقرير الذي نشره المجلس فإن العام 2024 شهد زيادة سكانية قدرها12,297  نسمة. ووفقاً لتقديرات مكتب الإحصاء المركزي، فإن سكان مستوطنات الضفة يشكّلون نحو 5.28% من مجموع السكان في إسرائيل. كما تشير المعطيات إلى أن معدل النمو السكاني في مستوطنات الضفة بلغ 2.38% خلال العام. خلال العقد الأخير، سجلت هذه المستوطنات زيادة سكانية قدرها 139,677  نسمة، أي ارتفاع بنسبة 36%.

كما يشير تقرير "كتسلا 2025"[4] إلى أن عدد اليهود في الضفة الغربية ارتفع بنسبة 2.33%  خلال العام 2024، ليصل إلى 529,455  نسمة، وهو ما ساهم في تجاوز عدد سكان إسرائيل حاجز العشرة ملايين نسمة لأول مرة. كما توضح معطيات التقرير أن مستوطنات الضفة شهدت خلال العقد الأخير زيادة سكانية كلية بلغت 139,677 نسمة، أي ما يعادل نمواً بنسبة 36%، مما يعكس اتساعاً مستمراً في المشروع الاستيطاني من حيث الانتشار الديمغرافي.

أزمة البناء – بين السياسة والمعارضة

رغم مصادقة الحكومة الإسرائيلية، بدفع مباشر من الوزير بتسلئيل سموتريتش، على خطط لبناء عشرات آلاف الوحدات السكنية في الضفة الغربية، فإن هذه القرارات لا تعكس واقعاً ديمغرافياً متماشياً مع الطلب الحقيقي. يشير شاؤول أريئيلي، رئيس مركز "تمرور"، إلى أن عدد الوحدات السكنية الجاري التخطيط لها أو إنشاؤها في الربع الأول من 2025 بلغ 10,000  وحدة، وهو رقم كبير نسبياً، غير أن الإقبال الفعلي على السكن في الضفة لا يتناسب معه.

من أبرز التحديات التي تُعمّق أزمة البناء، رفض شرائح واسعة من المستوطنين تشغيل الفلسطينيين في قطاع البناء. إذ يواصل العديد من المستوطنات رفض هذا التوجه، لا سيما بعد السابع من أكتوبر، مما أدى إلى تجميد مشاريع عمرانية قائمة، أو إبطاء تنفيذها بصورة ملموسة.

رغم تصاعد إجراءات الحكومة الإسرائيلية ضد ما تصفه بـ"البناء الفلسطيني غير المرخص" في المنطقة المصنفة C، فإن المعطيات الديمغرافية الإسرائيلية – وفقاً لتمرور- تشير إلى تراجع تدريجي في نسبة المستوطنين المقيمين هناك. فبينما شكّل المستوطنون 82% من سكان المنطقة المصنفة C  في العام 2010، انخفضت نسبتهم إلى 60% في العام 2020، ووصلت إلى 55%  فقط في 2024.

بالمجمل، تُظهر البيانات أن المستوطنين يشكّلون اليوم نحو 15%  من مجموع سكان الضفة الغربية، مقارنة بـ 11% فقط في العام 2010، ما يعكس توسعاً سكانياً فلسطينياً في مقابل جمود نسبي في التوسع الاستيطاني، وخاصة في مناطق تعتبر ذات حساسية أمنية وديمغرافية.

كذلك تلعب البنية التحتية، ولا سيما شبكة الطرق، دوراً مهماً في تباين الطلب على السكن في مستوطنات الضفة. ففي المستوطنات القريبة نسبياً من الخط الأخضر، مثل مستوطنة إفرات، والتي ترتبط بمراكز إسرائيل المدنية عبر طرق متطورة، ارتفعت أسعار العقارات بفعل ارتفاع الطلب. في المقابل، تبقى المستوطنات الواقعة في مناطق نائية أقل جذباً، بالرغم من انخفاض أسعار الشقق فيها.

في هذا السياق، يوضح غابي بارشيشت، المدير العام لـ"صندوق فداء الأرض"، وهي جمعية تُعنى بتطوير الأراضي لأغراض السكن في الضفة الغربية – قائلاً: "نشهد منذ عدة سنوات حالة من اليقظة، إذ إن القرب الجغرافي من وسط إسرائيل، إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار العقارات هناك، جعلا من السكن في الضفة الغربية خياراً عملياً، لا يقتصر فقط على الدوافع الأيديولوجية". ويضيف أن التحول في السياسة الحكومية في ما يتعلق بالاستيطان انعكس بوضوح على سلوك شركات التطوير العقاري في مستوطنات الضفة الغربية، حيث بدأت شركات جديدة بالدخول إلى هذا المجال والانخراط فيه. [5]

الازدياد العلماني في الخريطة الاستيطانية

نُشر موقع "ماكو" بتاريخ 1 تشرين الأول 2024، مقابلة مع  زئيف إبشتاين، مالك شركة "هَرِي زَهَاف" المتخصصة في توسيع الأحياء في المستوطنات الريفية بالضفة الغربية، عن ازدهار قطاع العقارات السكنية خلال الأشهر الأخيرة بعد فترة من الركود؛ في ظل حرب الإبادة على غزة، 2023. وأشار إلى أن عدداً متزايداً من الإسرائيليين العلمانيين ينتقلون للسكن شرق "الخط الأخضر"[6]، موضحاً أن هذا التوجه يعود إلى عدة عوامل، أبرزها:

  1. الأسعار المنخفضة للعقارات: توفر الوحدات السكنية بأسعار أقل مقارنة بالمناطق المركزية مثل تل أبيب، ما يجعلها خياراً جذاباً للطبقات الوسطى والعائلات الشابة.
  2. جودة الحياة في المناطق الريفية: بيئة هادئة، مساحات خضراء، وتجمعات سكانية صغيرة، ما يتيح نمط حياة مريحة وآمنة.
  3. تحفيز حكومي مباشر وغير مباشر: تسهيلات مالية، توسيع مخططات البناء، وربط المستوطنات بشبكات مواصلات حديثة تدعم عملية الاستيطان.
  4. تطور البنية التحتية: تحسين الطرق، وشبكات الكهرباء، والمدارس، والخدمات الصحية والتعليمية، ما يجعل الاستيطان أكثر استقراراً وجذباً.
  5. تحول ديمغرافي واجتماعي: انتقال فئات علمانية إلى المستوطنات، ما يكسر الصورة النمطية بأن المستوطنات مخصصة فقط للمتدينين أو الأيديولوجيين.
  6. عوامل سياسية وأيديولوجية: رغبة بعض السكان في دعم المشروع الصهيوني أو تعزيز السيادة الإسرائيلية على المنطقة، حتى من قبل غير المتدينين.
  7. أزمة السكن داخل الخط الأخضر: ارتفاع أسعار الإيجار والشراء في المدن الكبرى داخل إسرائيل يدفع المواطنين إلى البحث عن بدائل مناسبة.
  8. إعادة تشكيل الخطاب العام: تراجع الحساسيات السياسية حول السكن في "أراضٍ متنازع عليها"، وتحول المستوطنات إلى خيار سكني اعتيادي في الوعي الإسرائيلي.

بغضّ النظر عن تباين التقديرات حول اتجاهات النمو أو التراجع في أعداد المستوطنين في الضفة الغربية، فإن ما ينبغي التركيز عليه في هذا السياق ليس الأرقام المجردة فحسب، بل أيضاً السياسات والخطوات الفعلية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية على الأرض. إذ تشهد الضفة الغربية اليوم تصعيداً ملحوظاً في وتيرة التوسع الاستيطاني، تمثل في شقّ مزيد من الطرق الالتفافية، وإقرار مخططات بنية تحتية استيطانية واسعة النطاق، وتوسيع رقعة المستوطنات القائمة بصورة منهجية غير مسبوقة. وقد بلغ هذا التوجه ذروته مع إعلان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وصفه للعام 2025 بأنه "عام الثورة الاستيطانية"، في إشارة واضحة إلى حجم التحولات البنيوية التي يشهدها المشروع الاستيطاني، كجزء من استراتيجية ممنهجة ترمي إلى فرض وقائع ديمغرافية وجيوسياسية جديدة في الضفة الغربية.

 

[1] للمزيد أنظر/ي: صحيفة يسرائيل اليوم، العدد الصادر يوم 25 آذار 2025، https://digital-edition.israelhayom.co.il/israel-hayom/20250325

[2] للمزيد أنظر/ي:الموقع الرسمي لمركز "تمرور – بوليتوغرافيا"، https://2u.pw/9pufx

[3] يُلاحظ أن ميزان الهجرة الدولية في إسرائيل سجّل خلال العام 2024 عجزاً حاداً بلغ 18,200 شخص، نتيجة تزايد هجرة الإسرائيليين إلى الخارج. فقد غادر إسرائيل 82,700 فرد، بينما عاد فقط 23,800، ما يجعل صافي الهجرة السلبية 58,900 شخص، وهو الرقم الأعلى منذ سنوات. اللافت أن شهر تشرين الأول/أكتوبر وحده شهد مغادرة تفوق 10,000 شخص، في حين يُقارن هذا التوجه ببيانات العام 2023 التي سجلت مغادرة 55,300 إسرائيلي، أي بزيادة واضحة في وتيرة الهجرة السلبية.

للمزيد أنظر/ي: يارون دروكمان، "82,700 إسرائيلي غادروا البلاد في 2024"، يديعوت أحرونوت، 31 كانون الأول 2024. آخر زيارة 24 نيسان 2025. https://www.ynet.co.il/news/article/bj4fl4ziye

[4] تقرير من إعداد عضو الكنيست السابق يعقوب "كتسلا" كاتس، أحد أبرز قادة حركة الاستيطان "غوش إيمونيم"، وأحد المؤسسين للقناة السابعة. للمزيد أنظر/ي: https://2u.pw/Ft0tL

[5] القناة السابعة. "بدعم من الحكومة، شركات العقارات تكتشف يهودا والسامرة: 'صحوة تُعدّ ثورة'"، 30 تموز 2023. آخر زيارة 24 نيسان 2025. https://www.inn.co.il/news/609356

[6]  زئيف إبشتاين. "ازدياد أعداد العلمانيين الذين ينتقلون للسكن في الضفة الغربية". بودكاست Duns 100، موقع ماكو. نُشر في 1 تشرين الأول 2024. آخر استماع 24 نيسان 2025. https://www.mako.co.il/news-business/duns_100-podcasts/Article-3d9c6b1de384291027.htm

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات