دفعت إسرائيل عمليات البحث عن الجندي الأسير في قطاع غزة الى حافة أزمة إقليمية كبرى، عندما أرسلت طائراتها الحربية للتحليق وخرق جدار الصوت فوق القصر الرئاسي السوري في اللاذقية، ورفعت حالة تأهب قواتها المنتشرة مقابل الحدود اللبنانية الجنوبية، بحجة التحسب لعمليات قد ينفذها حزب الله أو مقاومون فلسطينيون تضامنا مع قطاع غزة الذي يتعرض لواحدة من اخطر الحملات العسكرية الاسرائيلية التي تترافق مع عقوبات جماعية للمواطنين الفلسطينيين المحرومين من أبسط مقومات الحياة.
واعتبرت إسرائيل أنها وجهت رسالة بالغة الشدة الى الرئيس السوري بشار الأسد بإرسال سرب من أربع طائرات للتحليق فوق القصر الرئاسي في اللاذقية. وقالت مصادر إسرائيلية إن هذا السرب نفذ عملية اختراق للصوت فوق القصر بقصد إيصال الرسالة للرئيس الأسد مباشرة. وقال الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي إن الطلعة الجوية تمت في نطاق نشاطات الجيش حيث ترى إسرائيل في القيادة السورية الجهة التي تقدم الملجأ لقادة الإرهاب وفي مقدمتهم قادة حماس. وقد صادق المستوى السياسي على القرار بتنفيذ هذه الطلعة قبل أيام. وأشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن الطلعة الجوية تمت فجر أمس وأن المضادات الأرضية السورية تم تفعيلها ولكن بعد أن كانت الطائرات الحربية قد غادرت الأجواء السورية. وكانت إسرائيل قد سارعت، منذ اللحظة التي أدركت فيها نتائج عملية "تبديد الوهم"، إلى توجيه اصبع الاتهام نحو قيادة حماس المقيمة في دمشق ونحو القيادة السورية. وجرى التركيز على وجه الخصوص على رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل بأنه من يقف وراء العملية.
وشنت إسرائيل حملة دبلوماسية دولية، وخصوصا مع الولايات المتحدة وفرنسا، بهدف الضغط على سوريا لطرد خالد مشعل من أراضيها. وقال وزير العدل، حاييم رامون، إن الولايات المتحدة والأسرة الدولية لا يمكنها أن تقبل توفير سوريا، وهي العضو في الأمم المتحدة، ملاذا للقائد الإرهابي الذي قاد عملية اختطاف الجندي جلعاد شليط ويمنع الإفراج عنه. وأضاف
رامون أثناء استقبال نظيره الأميركي ألبرتو غونزاليس أنه "لا ريب عندي في أنه لو كان بن لادن يعمل بصورة مشابهة من دمشق، لتحركت الأسرة الدولية بحزم من أجل وضع حد لذلك". وأبدى وزير العدل الأميركي تفهمه لهذا الموقف وأعلن أنه سيوصل الرسالة للرئيس الأميركي جورج بوش. وكان رامون قد شدد على أن رأس مشعل مطلوب وهو "يشكل هدفا لنا بالتأكيد".
وترى إسرائيل أنه رغم رمزية الطلعة الجوية إلا أنها تظهر لسوريا ضعفها على صعيد الدفاع الجوي. تجدر الإشارة إلى أنه سبق لإسرائيل في آب 2003 أن لجأت إلى خطوة مماثلة لإيصال رسائل للقيادة السورية وخصوصا بعد عملية فلسطينية في حيفا.
وفي دمشق، أفاد مصدر إعلامي "ان طائرتين عسكريتين اسرائيليتين قامتا فجر اليوم (امس) بالتحليق على ارتفاع منخفض بالقرب من شواطئنا باتجاه منطقة وادي قنديل حيث قامت قوى الدفاع الجوى بإطلاق النار باتجاههما وقد تفرقتا وغادرتا المنطقة" مضيفا "ان هذه الاعمال العدوانية تشكل استفزازا مرفوضا وغير مبرر". وتابع أنه "اذا كان الهدف منها هو تحميل القيادة السياسية لحركة حماس مسؤولية اختطاف الجندى الاسرائيلي فإن اسرائيل ترتكب خطأ فادحا يتجاوز حدود المنطق" موضحا "أن هذه العملية نفذتها المقاومة الشعبية الفلسطينية في غزة واعلنت عنها من هناك وهي عملية لا يمكن ان تحصل بوسائل التحكم عن بعد".
ووصف المصدر هذه العملية بأنها "تعبير عن فشل وأزمة اسرائيل في الداخل التي تحاول تصديرها الى الخارج ولهذا فهي توجه الاتهامات الى الآخرين".
وقالت متحدثة عسكرية اسرائيلية ان وضع الجيش في حالة تأهب على الحدود مع لبنان تقرر "خشية ان تسعى ميليشيا حزب الله الشيعي او منظمات اخرى الى التصعيد عبر تنفيذ هجمات في المنطقة الحدودية"، مضيفة ان التدابير المتخذة غير هجومية و"تستهدف فقط تمكين الوحدات المتمركزة في المنطقة من مواجهة اي سيناريو محتمل".
الحملة على غزة
منح وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس أمس الضوء الأخضر للجيش للانتقال إلى المرحلة الثانية من عملية الاحتلال الزاحف التي تحمل اسم "أمطار الصيف". ووفق المعطيات المتوافرة فإن الجيش الإسرائيلي، وبعد أن أتم احتلال مطار رفح الدولي يحاول جعل احتلال معبر رفح الخطوة التالية. كما أنه عاد إلى استخدام القصف المدفعي للمناطق المفتوحة وتقوم الطائرات الحربية والمروحيات بتدمير جسور وبنى تحتية. وتحاول المروحيات تصيد نشطاء الانتفاضة المطلوب تصفيتهم كما أنها تحاول اصطياد عدد من قادة حماس السياسيين.
غير أن الجهد الأساسي في المرحلة العسكرية الثانية يركز على منطقة شمالي قطاع غزة وتحديدا بلدة بيت حانون التي طلب من سكانها مغادرتها. وترمي هذه الخطوة إلى تشكيل "ضغط" يعيد للأذهان التكتيك الذي استخدمته إسرائيل في عملية "تصفية الحساب" في جنوب لبنان. ومن المعروف أن تلك العملية هدفت إلى إحداث حالة تهجير واسعة تشكل ضغطا على الحكومة المركزية والمقاومة من أجل وقف عملياتها. وتركز إسرائيل على أن هذه المرحلة ترمي إلى وقف سقوط صواريخ القسام على سديروت والمستوطنات المجاورة.
ويبدو أن هذه الخطوة هي مجرد حلقة من حلقات "القضم التدريجي" للإرادة الفلسطينية وهي تتم ظاهريا بمعزل عن الجهد المبذول للإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شليط. وبحسب المعلقين الإسرائيليين فإن إسرائيل تتصرف بشكل مزدوج: فهي من جهة تعلن للعالم أنها لا تستهدف المدنيين الفلسطينيين في حين أن جهدها الأساسي موجه نحوهم سواء عبر الحصار أو عبر استهداف البنى التحتية. ومع ذلك يشددون على أن غاية الحملة العسكرية مزدوجة أيضا: محاولة استرداد الجندي الأسير وكذلك استعادة الردع المفقود إزاء الفلسطينيين.
وقال أولمرت، الذي تلقى اتصالا امس من الرئيس المصري حسني مبارك، "لن نتردد في اتخاذ خطوات متطرفة من أجل استعادة جلعاد. إن دولة إسرائيل لن تجري البتة مفاوضات حول الإفراج عنه".
ولهذا يكرر أولمرت قوله بأن الحملة الجارية ليست من أجل إعادة احتلال القطاع كما أنها ليست من أجل البقاء هناك. وتسعى إسرائيل لاستبعاد كل صلة مع الرئيس محمود عباس رغم ما يبذله من جهد. وتقول وزيرة الخارجية تسيبي ليفني عنه إنه "رغم نواياه الطيبة، ليس بقدرته إعادة جلعاد إلى بيته". ويعبر هذا الموقف عن تزايد الإحساس في إسرائيل بخيبة الأمل من أبو مازن.
غير أنه ليس من المستبعد أن تكون دوافع سياسية أعمق تقف وراء هذا الموقف. فإسرائيل انزعجت جدا من توصل حماس وفتح لاتفاق حول وثيقة الأسرى. ورأت أن هذا الاتفاق قد يقود إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل إحراجا لموقف إسرائيل ويمكن أن يفكك الجبهة الدولية التي أقيمت ضد حكومة حماس. ولذلك فإن إسرائيل منذ الآن تقول إن ما بدا كخلاف بين حماس الداخل والخارج ليس أكثر من مناورة وإن هذه المناورة لن تنطلي عليها. لذلك تحاول من الآن كسر الجرة مع عباس.
غير أن هناك العديد من المعلقين الذين يحذرون من احتمال تورط إسرائيل وتكرار المشهد اللبناني، ويرد على هؤلاء أنصار الحكومة بأن الهجوم الدائر حذر جدا وهو يأخذ كل عبر لبنان في الاعتبار. ولهذا فإن إسرائيل تحاول الظهور بمظهر من يتصرف بطول نفس وهي تحذر الفلسطينيين عبر منشورات وتفجيرات وتظل توحي بأنها جاهزة للتراجع عن الخطة في كل وقت.
وفي واشنطن، اعتبر المتحدث باسم البيت الأبيض طوني سنو ان "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وعن حياة مواطنيها"، داعيا الى إطلاق الجندي الأسير فورا. وقال ان "هجوم حماس واخذ رهينة في نهاية الأسبوع الماضي كان السبب في الوضع الحالي في غزة"، مشددا على ان "السلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية وضع حد لكل إشكال العنف والإرهاب".