"المشهد الاسرائيلي":
مرت طريقة تعامل لجان التحقيق الاسرائيلية مع القادة والسياسيين بعملية مثيرة، بدأت بتهرب اقرب الى التطهير والتبرئة (كما حصل في "لجنة اغرنات" التي حققت في حرب 1973) وبلغت ذروتها في تحميل مسؤولية شخصية لوزير الدفاع ارئيل شارون وإبعاده عن وزارة الدفاع (كما حصل في "لجنة كاهان" التي حققت في مجازر صبرا وشاتيلا). هذه العملية توازي بدرجة كبيرة اتجاهات توسيع الرقابة القضائية للمحكمة العليا. وقد كان اللاعب المركزي في الحلبتين القاضي اهارون باراك، الذي كان عضوا في "لجنة كاهان" وكرس هذا التوجه الصارم كقاض في المحكمة العليا ايضًا.
اضافة الى هاتين اللجنتين، يمكن الاشارة ايضًا الى "لجنة بياسكي"، التي حققت في اسباب انهيار اسهم سوق الاوراق المالية (بورصة تل ابيب) عام 1983. وقد حملت اللجنة المسؤولية وزيري المالية في حينه، يغئال هورفيتس ويورام اريدور، لكنها امتنعت عن تقديم توصيات عملية بدعوى ان المذكورين لم يكونا في المنصب عندما نشر تقرير اللجنة في نيسان 1986.
وتمخضت " لجنة اور" عن سيناريو مشابه تجاه رئيس الوزراء الاسرائيلي وقت احداث اكتوبر 2000 ايهود باراك وإن كانت تشددت حيال الوزير شلومو بن عامي، وزير الامن الداخلي في الفترة المذكورة.
"لجنة بياسكي" هي لجنة التحقيق الوحيدة التي تمخضت عن توجيه لوائح اتهام جنائية، لكن ذلك لم يتم الا بعد تقديم التماس للمحكمة العليا.
تنسب الى لجان التحقيق في اسرائيل اهمية كبيرة تنبثق عن شخصية من يترأسها واستقلالية اعضائها والمكانة التي منحتها المحكمة العليا لمثل هذه اللجان بامتناعها الثابت (اي المحكمة) عن التدخل في قراراتها. غير ان السمعة العامة شيء والموافقة على الاستنتاجات شيء اخر.
د. دوري كلغسبلد، عرض في كتابه " لجان تحقيق رسمية" عدة امثلة او نماذج، حيث وجد من خلال استطلاع لمعهد "موديعين ازرحي" ان حوالي 52% من الاسرائيليين يعتقدون ان استنتاجات "لجنة كاهان" قاسية جدا، فيما وصفها 31.4% فقط بأنها "محقة". واظهر استطلاع لـ "داحف" حول درجة الثقة باستنتاجات "لجنة اغرنات" ان 26% فقط اولوا ثقة باللجنة "بدرجة كبيرة".
كذلك اظهرت دراسة اعدت عقب صدور تقرير "لجنة بياسكي" الذي القى بالجزء الاعظم من المسؤولية على كاهل رؤساء البنوك، ان غالبية الجمهور الاسرائيلي تنسب مسؤولية اكبر لوزير المالية.
هناك وزن معين لعامل خبرة اعضاء لجان التحقيق فيما يتعلق بمسألة ثقة الجمهور بها. وبهذا المعنى فان "لجنة اور" تعتبر خارجة عن المألوف وتعاني من ثغرة. فلجان اغرنات، كاهان، بياسكي ولجنتا شمغار – اللتان حققتا في مذبحة الحرم الابراهيمي بالخليل واغتيال رابين – ضمتا في عضويتها مهنيين عملوا في المجالات التي جرى التحقيق فيها. في المقابل تألفت لجنة اور من قاضيين وبروفيسور، ويمكن دوما التساؤل بشأن نفاذ استنتاجاتهم خاصة في المجال التنفيذي.
وقد كانت اللجنتان اللتان ترأسهما شمغار الاكثر "تساهلا" في تعاملهما مع المستوى السياسي.
ولم تلحق نتائج لجنة شمغار التي حققت في مذبحة الحرم الابراهيمي اي ضرر بالمستوى القيادي، وقد تضمن تقرير اللجنة تسع توصيات ليس بينها اية توصية شخصية.
لجنة اور بالارقام
* عقدت اللجنة 29 جلسة علنية واستمعت الى 435 افادة قدمها 377 شاهدا.
* بلغت ميزانية عمل اللجنة 3.6 مليون شيكل.
* عرضت امام اللجنة 4289 قرينة، فيما احتل بروتوكول اللجنة (محاضر الجلسات) نحو 16 الف صفحة.
* وجهت اللجنة رسائل تحذير لـ 14 شخصا من ذوي المناصب الذين كانوا ضالعين في الاحداث، من بينهم مسؤولين في المستوى السياسي (الحكومي) و (9) من عناصر الشرطة
و (3) شخصيات عامة عربية.
* تألفت اللجنة من (3) اعضاء اضافة الى (7) محققين وإثنين عملا كإداريين.
هل استخلصت الشرطة العبر من الاحداث؟!
القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء السابق ايهود باراك بتشكيل لجنة تحقيق لتقصي ظروف احداث تشرين الاول – اكتوبر 2000، اغضب الشرطة الاسرائيلية في حينه. فقد ادعى مسؤولون في الشرطة بان القرار "يهدر دم افراد الشرطة" وان الامر يعكس "آفة لجان التحقيق" التي تهدف الى القاء المسؤولية على المستوى التنفيذي.
غير ان نبرة الشرطة تبدلت فور بدء مداولات اللجنة. فضباط الشرطة الذين ارسلهم جهاز الدعاية لحضور مداولات اللجنة (كنوع من اثبات الوجود وتشجيع الشهود الذين تم استدعاؤهم) شعروا بالحرج واحيانا بالصدمة والذهول ازاء جهل افراد الشرطة بكل ما يتصل بالقواعد التنفيذية وقلة الخبرة في استخدام السلاح، وما واكب ذلك من تبادل للاتهامات بين الضباط، وحقيقة انه لم تتوفر تهيئة عملية لمواجهة احداث وصدامات بهذا الحجم الواسع، فضلا عن غياب الاستخبارات وضعف او انعدام التنسيق بين الوزير المسؤول والمفتش العام للشرطة. وقال ضباط في الشرطة الاسرائيلية في ذلك الوقت، انه لا داعي لإنتظار استنتاجات اللجنة كي يدرك المرء مدى ما ينطوي عليه الوضع من حرج وخطورة، وانه كانت هناك على ما يبدو ضرورة لاقامة لجنة كهذه بغية ايقاظ الشرطة. لهذا السبب فقد شكل المفتش العام للشرطة شلومو اهرونيشكي طاقما خاصاً، بعد فترة قصيرة من بدء عمل اللجنة، لمتابعة المداولات ولاستخلاص العبر.
منذ المداولات الاولية للجنة اور ادركت محافل الشرطة الاسرائيلية، انه كان بالامكان الحد من سفك الدماء والقتل لو كان حجم قوات الشرطة اكبر مما كان عليه اثناء الصدامات. وقد اثبتت الشهادات انه حيثما تواجدت قوة صغيرة (من افراد الشرطة) في مواجهة جمهور غاضب، شعر افراد القوة - عن حق او عن غير حق - بخطر داهم على حياتهم، وبالتالي قاموا باطلاق العيارات المطاطية و الذخيرة الحية بشكل هستيري، وبدون تمييز او مراعاة للقواعد والتعليمات.
طاقم الشرطة استخلص بانه لا داعي لارسال قوة بوليسية الى كل مكان يشهد اضطرابات محلية، وانه يجب في هذه الحالات اغلاق الطرق المؤدية للمنطقة لفترة من الوقت تفاديا لوقوع اصابات في صفوف المواطنين. كذلك وجد الطاقم ان الشرطة لا تستطيع التعامل مع اكثر من (6) احداث جماعية في وقت واحد.
وقد تبين خلال مداولات لجنة اور ان الشرطة ولاسباب غير مبررة، لا تستخدم وسائل حديثة "غير فتاكة" كخراطيم المياه والغاز المدمع، ولذلك قامت الشرطة لاحقا باقتناء مثل هذه الوسائل.
لقد كان الجهل الذي اظهره افراد وضباط الشرطة في افاداتهم امام اللجنة محرجا ومخزيا في بعض الحالات.. وعلى سبيل المثال فان احدا منهم لم يكن يعلم ما هي المسافة الدنيا التي يجب ان تكون بين الشرطي والمتظاهرين قبل استخدام العيارات الفولاذية (المعدنية) المغلفة بالمطاط والتي يمكن لها التسبب بالقتل. وبحسب مصادرها فقد استخلصت الشرطة العبر في هذا الشأن وقامت بتحسين نظام التوجيه والارشاد.
ازاء ذلك هناك من يرى ان الشرطة الاسرائيلية بدأت باستخلاص العبر من احداث تشرين الاول – اكتوبر 2000، ولعل الفضل في ذلك يعود الى مفوض عام الشرطة اهرونيشكي الذي تحاشى تبني توجه سلفة يهودا فيلك، القائل بان قيادة الشرطة تصرفت بشكل سليم، وكما يجب، خلال تلك الاحداث.
مع ذلك فان التغيير الذي حصل ليس جذريا، فلا زال الكثيرون من عناصر الشرطة اسرى مفاهيم ومنطلقات قديمة في ما يتعلق بالتعامل مع المظاهرات.