المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تكشفت في الايام الأخيرة معلومات جديدة حول تحركات شبه سرية في اثنين من احزاب اليمين الاسرائيلي، "الليكود" الحاكم والمفدال المتدين، قد تقود الى انشقاقين متوقعين منذ عدة اشهر. إلا ان التحركات الأخيرة تدل على اقتراب التنفيذ الفعلي لهذين الانشقاقين، واللذين سيؤثران على كل واحد في حلبته. فالانشقاق في "الليكود" سينعكس بشكل مباشر على حجم الحزب ولكن بشكل محدود، فيما سيؤدي الانشقاق في "المفدال" الى تراجع قوته بين جمهور المستوطنين واليمين المتطرف.

انشقاق "الليكود"
كشف المعلق الصحفي يوسي فيرتر، محلل الشؤون الحزبية في صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية، في نهاية الاسبوع الماضي، عن ان مجموعة "المتمردين" على رئيس الحكومة اريئيل شارون في "الليكود"، وهم 13 نائبا من اصل 40 نائبا، تريد الآن النائب الـ 14، ليحق لها قانونيا شق الكتلة البرلمانية. فالقانون الإسرائيلي ينص على انه يحق لثلث كتلة برلمانية على الاقل أن تنشق عن الكتلة الأم، وتقيم كتلة منفصلة، وفي هذه الحالة فإن النواب الـ 13 بحاجة الى النائب الاضافي.

وعلى الرغم من ان تحركًا بسيطًا لهذه المجموعة يجعلها قادرة على جلب النائب الناقص، نظرا لكثرة المعارضين لسياسة أريئيل شارون، إلا انهم يريدون نائبا غير عادي، يضمن بالاساس وحدة النواب الـ 13. ولهذا فإن هذه المجموعة توجهت الى رئيس الكنيست رؤوفين ريفلين، الذي صوت مرارا ضد مواقف الحكومة السياسية، تلك المواقف التي يقودها شارون نفسه، وآخر هذه المواقف عبر عنها بامتناعه عن التصويت على توسيع حكومة شارون بضم حزب "العمل" الى ائتلافها.

وعادة فإن رئيس البرلمان الاسرائيلي يكون من الحزب الحاكم، وشخصية موثوقة من قبل رئيس الحكومة. وإذا هكذا كانت البداية مع رؤوفين ريفلين كرئيس للكنيست، فإن التطورات جعلته في الصف الآخر. ويتوقع مراقبون انه لولا مكانته كرئيس البرلمان، وهو منصب رفيع جدا في اسرائيل، وصاحبه عمليا هو القائم باعمال رئيس الدولة، لكان على رأس مجموعة المتمردين وقاد خطواتهم، وبسبب مكانته فإنه يتبع مواقف اكثر حذرا، لكي لا يزيد من ورطة الحكومة في داخل البرلمان.

ويقول فيرتر ان ريفلين رفض المشاركة في تحرك هذه المجموعة، ويقال انه دعا هؤلاء النواب الى استمرار نشاطهم المعارض في داخل "الليكود"، كما فعل هذا في الكثير من الازمات التي عاشها "الليكود"، فريفلين كان في اوائل سنوات التسعين من جناح الوزير السابق دافيد ليفي في "الليكود"، ولكنه رفض الانضمام له حين قرر ليفي الانسلاخ عن الحزب.

وحسب المعلومات فإن النواب الـ 13 ليسوا حازمين في مسألة الانشقاق، بل هناك تفاوت في اصرارهم. وعلى الاغلب فإن خوفهم على مصيرهم يجعلهم يفكرون اكثر من مرة في خطواتهم، ولكن هذا التحرك الأخير يثبت ان خطوة ما قد بدأت، وطريق العودة سيكون صعبا.

الربح والخسارة في "الليكود"
اقر مؤتمر "الليكود" في الاسبوعين الاخيرين نظاما جديدا لانتخابات الحزب الداخلية لقائمة الحزب للانتخابات البرلمانية. وبموجب هذا النظام فإن 15 نائبا من النواب الـ 40 الحاليين سيفقدون مقاعدهم في اللائحة الإنتخابية المقبلة.

وينص النظام على أن اعضاء الكنيست لا يمكنهم في كل ولاية تالية لهم ان يتنافسوا على مقاعد القائمة المخصصة للمناطق، ومن يريد التنافس في داخل الحزب عليه المنافسة على المقاعد او المراتب المخصصة للتمثيل القطري، حتى وإن كان النائب قد انتخب للقائمة ضمن المراتب المخصصة للمناطق. وفي الوضع الراهن، فإنه في الانتخابات القائمة، تم تخصيص المقاعد الـ 25 الاولى للتمثيل القطري، فيما ستكون المقاعد التالية وحتى المقعد الاربعين مخصصة لتمثيل المناطق، وهذا يعني ان النواب والوزراء الـ 42 سيتنافسون على 25 مقعدا فقط، لأن الوزيرين شاؤول موفاز ونتان شيرانسكي استقالا من عضوية الكنيست، وبقيا وزيرين، وهذا ما سيؤدي الى اخراج 17 نائبا او وزيرا خارج الكتلة، ولا يبدو ان من بين النواب الاربعين من سيختار التقاعد منذ الآن، خاصة وان معدل الاعمار لهؤلاء النواب اقل بقليل من 51 عاما، واكبرهم سنا هو اريئيل شارون ابن الـ 77 عاما.

وهذه معلومة ضرورية إذا اردنا فهم سرعة التقلبات في المواقف الشخصية لبعض اعضاء الكنيست، فالمقعد اغلى لهم من الصدام مع شارون. وشهدنا في الاسابيع الاخيرة بعض "الانقلابات" المضحكة في مواقف بعض نواب "الليكود".

من الطبيعي ان هذا النظام الجديد سيزيد من سخونة المنافسات في "الليكود"، فشارون لا يسيطر على كل الحزب ولا حتى على غالبيته. وبطبيعة الحال فإنه لن يضمن هذه المقاعد لانصاره فقط، ففي الطرف الآخر هناك اسماء لامعة على مستوى الحزب والسياسة العامة، ولا شك في انها ستتبوأ مقاعد امامية في قائمة الحزب المقبلة لو اختارت البقاء فيه.

ولا شك، ايضا، في ان من بين النواب الـ 13 من بات يعترف باستحالة عودته الى الكنيست ضمن قائمة "الليكود" ولهذا فمن الافضل له ان يبدأ بالبحث عن "بيت آخر" لربما ينقذه ويعيد له مقعده البرلماني، ولهذا فإن دوافع الانشقاق على صعيد النواب ليست بالضرورة سياسية، وإن كانت هي الدافع الابرز.

انعكاسات الانشقاق في "الليكود"
على الرغم من ان التحرك الاخير لهذا الانشقاق لم يبدأ بعد، ولكن الاحتمال ما زال قائما بأن يكون اسرع من ان نتصور، ولربما سيسرع أكثر في حال اقرت حكومة شارون الخطوات التالية لعملية اخلاء مستوطنات غزة وبعض مناطق شمالي الضفة الغربية واعادة الانتشار حولهما. وقد تختار هذه المجموعة ان تقطع "شعرة معاوية" الباقية بينها وبين كتلة "الليكود" عند التصويت على ميزانية الدولة، التي تنتظر التصويت عليها في القراءتين الثانية والثالثة، علما ان هذا الأمر كان من المفترض ان يتم حتى نهاية العام الماضي.

وسيكون لهذا الانشقاق تأثير كبير على مكانة "الليكود" في الولاية الحالية للكنيست، إذ سيهبط تمثيل "الليكود" رسميا من 40 نائبا الى 26 نائبا. ومن المستحيل ان يكون بمقدور شارون الاستمرار اكثر في قيادة الائتلاف الحكومي. وعلى الاغلب، إن لم يكن من المؤكد، فإن هذا الانشقاق سيقوده الى انتخابات برلمانية، ولن يسمح بجرجرة الائتلاف، او ان يعطي الفرصة للكتلة المنشقة ان تبلور نفسها، وهو لا يخاف الانتخابات في ظل الاستطلاعات التي ما زالت تعطيه اغلبية كبيرة، في حين ان الحزب المنافس، حزب "العمل"، بالكاد سيرتفع بعدد المقاعد قليلا.

أما على الصعيد الشارع العام، فقد دلت التجربة على ان الانشقاقات في الاحزاب الكبيرة في اسرائيل، وقد حصلت في الماضي كثيرا، لا تؤثر بصورة حاسمة على قوة الحزب. وإذا اردنا مثالا من التاريخ الاسرائيلي فنذكر خروج دافيد بن غوريون "باني اسرائيل" من حزب "العمل"، وعلى الرغم من مكانته فحين خاض الانتخابات ضمن قائمة "رافي" حصل على عدد قليل جدا من المقاعد، ولم يستطع انتزاع جزء كبير من حزبه. وفي السنوات القليلة الماضية، نذكر خروج دافيد ليفي من حزب "الليكود"، وعلى الرغم من مكانته بين الطوائف اليهودية الشرقية، التي كانت تنصبه كأحد رموزها، إلا انه لم يستطع خوض الانتخابات لوحده في اية انتخابات، وكانت قوته تقدر بالكاد بأربعة مقاعد من اصل 120 مقعدا برلمانيا.

انشقاق "المفدال"

الانشقاق في "المفدال" اصبح اكثر وضوحا، بعد ان كشفت وسائل الاعلام عن ان رئيس الحزب النائب ايفي ايتام وزميله النائب يتسحاق ليفي وقعا اتفاقا مع كتلة اليمين المتطرف في الكنيست، "هئيحود هليئومي" (الإتحاد الوطني)، لخوض الانتخابات بشكل مشترك في الانتخابات البرلمانية القادمة، وهذا يعني قرارهما النهائي بشق حزب "المفدال" كليا، وهو آخر حلقة في الصراع الدائر في الحزب منذ فترة طويلة.

هذا الانشقاق هو الانشقاق الثاني الذي يشهده هذا الحزب الديني اليميني المتشدد، في السنوات الاخيرة. فقد سبق أن قاد احد القادة البارزين في الحزب، حنان بورات، وهو من زعماء المستوطنين في الضفة الغربية، في العام 1999 انشقاقا جرّ معه قادة آخرين في الحزب، هم ايضا من بين قادة المستوطنين، من امثال النائبين الحاليين تسفي هندل ويهودا هارئيل، وشكلوا حزبا اسموه "تكوما" (قيامة) وخاض الانتخابات في المرتين الاخيرتين ضمن تحالف احزاب اليمين المتطرف. ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان النائبان ايتام وليفي سينضمان الى حزب "تكوما" أم سيشكلان حزبا ثالثا.

ويشهد "المفدال" منذ سنوات طوال، وبالذات منذ نهاية سنوات الثمانين، صراعا داخليا بين انصار تقاليد الحزب القديمة التي رسخها زعيم الحزب التاريخي يوسيف بورغ، وبين القوى التي تريد وضع الحزب كليا في احضان اليمين المتطرف وبشكل خاص المستوطنين. فحزب "المفدال" هو ديني ولكنه يتبنى الفكر الصهيوني خلافا للحركات الاصولية اليهودية (الحريديم)، وكانت له استقلالية القرار، ويقيم التحالفات بين مختلف الاحزاب، وكان على مدى السنوات الـ 29 الأولى لاسرائيل حليفًا دائمًا في حكومات حزب "مباي"، الذي اصبح لاحقا "العمل".

في أواخر سنوات الثمانين، ومع تقاعد الزعيم التاريخي للحزب يوسيف بورغ، بدأ تحول سريع في الحزب في اتجاه اليمين المتطرف، وفتح ابوابه امام المستوطنين، حتى بات حزب المستوطنين، أكثر من كونه حزبا يعمل على نشر الشريعة اليهودية بشكل ليبرالي محدود، مقارنة مع الحريديم. وقد وصل الأمر الى حد سيطرة المستوطنين وانصارهم على مؤسسات الحزب، ودفع قادة الحزب الايديولوجيين جانبا، وهذا بالاضافة الى تسليم امر الحزب الى اثنين من الحاخامات الاشكناز المتزمتين، وكاد الحزب ان يصبح نموذجا آخر لاحزاب الحريديم التي تنتظر القرار السياسي من الحاخامات.

وعلى الرغم من ان الصراع في الحزب دفع بمجموعة من قادة المستوطنين السابق ذكرها الى خارج الحزب، إلا ان وريث هذه المجموعة، ايفي ايتام، استمر بهذا النهج. وايتام حطّ على الحزب في فترة حضيض له، فهو لم يولد في الحزب، بل هو عسكري وفي الاصل علماني، تبنى المواقف اليمينية، وبحث عن حزب يقوده، ولجأ الى "المفدال" فقط بعد ان اقترح عليه ان ينتسب له ليقوده فورا، وهذا ما حصل، وبعد تنازل يتسحاق ليفي عن زعامة الحزب، قبل سنوات قليلة، وقاد ايتام "المفدال" في انتخابات العام 2003.

اعتبر ايتام من قبل مجموعة كبيرة في الحزب على انه شخصية غريبة عنهم انتهز اوضاع الحزب ليتزعمه، في لحظة كان يبحث فيها "المفدال" عن شخصية جذابة (كاريزمية)، وهو بدوره، ومنذ اليوم الاول له في الحزب، لم يعمل على توحيده بل ساهم في اقامة تكتلات في الحزب.

الخلاف الأخير دار في الاشهر الاخيرة حول موعد الخروج من حكومة شارون على خلفية خطة الفصل. ففي حين طلب ايتام ومعه ليفي خروجا فوريا مع اقرار الحكومة لهذه الخطة، فإن الوزير زبولون اورليف، من ورثة تيار بورغ، ومعه سائر النواب الثلاثة في الكتلة طلبوا التريث والانتظار لرؤية ما إذا ستقر الخطة في الكنيست. وقد استقال ايتام وليفي من الحكومة والائتلاف الحكومي في شهر حزيران (يونيو) الماضي، وعلى الرغم من ان النواب الاربعة الآخرين بزعامة اورليف انسحبوا من الائتلاف الحكومي، في اواسط شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، واصبحت الكتلة كلها خارج الحكومة وتنشط في المعارضة إلا ان هذا لم يعد الوحدة لصفوف الحزب، مما يؤكد ان مسألة الائتلاف كانت ورقة صغيرة لخلاف فكري اكبر.

ما من شك في ان "المفدال" سيتأثر من هذا الانشقاق، وسيتراجع بالذات بين صفوف المستوطنين وقوى اليمين المتطرف، وستتراجع قوته البرلمانية، كما حصل في الماضي. ولربما سيكون ذلك مناسبة أمام "المفدال" التقليدي للعودة الى الشارع الاسرائيلي المدني ليبحث هناك عن اصوات محافظة هربت منه لقوى سياسية اكثر اعتدالا، نسبيا. ففي الماضي حصل انشقاق في داخل "المفدال"، إذ خرجت منه مجموعة متدينة اقرب لليسار السياسي واقامت حركة اطلق عليها اسم "ميماد" (بزعامة النائب الحالي والوزير السابق ميخائيل ملكيئور)، التي خاضت الانتخابات لاول مرة في تاريخها في العام 1999 وحصلت على مقعد واحد ضمن قائمة "يسرائيل أحات" (إسرائيل واحدة) من تأسيس حزب "العمل" واستمرت بهذا الشراكة في الانتخابات الاخيرة في العام 2003، وعلى الاغلب فإن هذه الشراكة ستستمر في الانتخابات المقبلة.

عمليا فإن الانشقاقين المرتقبين في "المفدال" و"الليكود" انما يعكسان الازمة الفكرية العامة التي تعصف بقوى اليمين في اسرائيل، على خلفية الجدل حول انهيار الكثير من الافكار و"البقرات المقدسة" التي بنت اسرائيل نفسها عليها، وعلى رأسها مسألة "أرض اسرائيل الكاملة".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات