المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من الصعب إزاحة الهواجس التي تشكك في صدقية حديث أريئيل شارون عن إخلاء مستوطنات قطاع غزة وإجلاء مستوطنيها. ذلك على الأقل لأن رئيس الوزراء الاسرائيلي يسكنه حنين خاص إزاء مستوطني القطاع، كونه أول من ساقهم الى هناك ودشن انتشارهم إبان قيادته لما يسمى بالمنطقة الجنوبية في مستهل سبعينات القرن الماضي.

ومع ذلك ونحوه علينا أن نفترض نشوء معطيات أملت على شارون وبعض من رهطه ضرورة عملية الإخلاء والإجلاء، ومنها الاقتناع برؤى المخلصين لنقاء "الدولة اليهودية" الذين يسفّهون استمرار وجود سبعة آلاف يهودي في حلق أكثر من مليون فلسطيني في غزة قرب مخيمات اللاجئين البائسة جداً. وهناك مؤشرات على أن الرجل أضحى ميالاً إلى دعوة الفصل بين الفلسطينيين واليهود، وفقاً لفكرة حزب العمل "نحن هنا وهم هناك". أحد أهم هذه المؤشرات حماسته لقضية بناء جدار العزل العنصري الاستيطاني بعدما كان من معارضيها الأشداء.

الخطوة التالية لهذا الإفتراض هي مطالعة العقبات التي تحلق في أفق التطبيق العملي للإخلاء بين يدي الداخل الاسرائيلي. وهنا نلاحظ فوراً أرجحية معسكر معارضي مشروع شارون ولا سيما من الناحية النوعية وأنه يقف على رأس هذا المعسكر جماعة المستوطنين أنفسهم، التي تسندها قوى مجتمعية ايديولوجية وسياسية واسعة النفوذ. وليس مصادفة أن هذه القوى هي ذاتها التي شكلّت، وربما ما زالت تشكل، الرافعة الحقيقية لزعامة شارون في الحكم والسياسة. ومن هنا تأتي أزمة رئيس الوزراء ومشروعه. فهو يظهر كمرتد عن مبادئه، منشق على قومه من غلاة التوسع الاستيطاني وينبغي سحب الثقة منه وتحويله الى الاستيداع في مزرعته في النقب.

في التناظر المتصل بهذه القضية يجزم البعض بأن شارون سيكسب المعركة الداخلية وسيتمكن من هزيمة معارضيه عند لحظة الحسم. ولكنه يحاورهم الآن ويناور معهم ويتلطف من باب استخدامهم كورقة كبيرة في المساومات الخارجية والداخلية مع كل المعنيين. ويتخذ أصحاب هذا الرأي من سابقة إجلاء مستوطني سيناء المصرية قبل ربع قرن، التي تولاها هو بنفسه، دليلاً على صدقية اعتقادهم. لقد بدأ المستوطنون آنذاك بالتمتع الكامل ولوّحَ نفر منهم باللجوء الى كل وسائل لرفض الاخلاء بما في ذلك القوة. لكن شارون الذي يعرف تصنيفاتهم وخريطتهم الايديولوجية والسياسية والاقتصادية استطاع احتواءهم فطوّع معظمهم باغراء التعويضات المالية - التي بلغت نصف مليون دولار لكل مستوطن - وأجلى الباقين بقليل من الإكراه الذي لم يبلغ حد العنف وقام بتعويضهم ماليا ايضاً.

على أن هناك من يستريب في اتخاذ هذه السابقة دالة على مجريات السيناريو المتوقع لإجلاء مستوطني غزة. أولاً لأن الاموال المطلوبة في حالة غزة التي تعني تعويض أكثر من سبعة آلاف مستوطن ستكون ضخمة جداً، علماً بأن مستوطني سيناء كانوا بضع مئات لا غير. وثانياً لان خريطة دوافع الاستيطان ومحفزات المستوطنين مختلفة بين الحالتين. ويقدر عدد الأصوليين المعتقدين في أحقيتهم في الاستيلاء على غزة وعدم التخلي عنها لأي ظروف بنحو ثلث المستوطنين فيها، وهؤلاء هم الذين لم يغادروا أماكنهم على رغم أجواء الانتفاضة المتفاعلة منذ أربعة أعوام. وهم بنظر البعض الذين سيثيرون مشكلات عويصة أمام أي إجراء تنفيذي لخطة شارون.

ولا يفوت المتناظرون الإسرائيليون حول مصير هذه الخطة التنويه بما يتمتع به المستوطنون الأصوليون من جانب تنظيمي معتبر، يكاد يشكل قوة ضغط على خيارات أية حكومة تجاه التسوية عموما وليس فقط مستقبلهم. فهناك مجلس المستوطنات (ييشع)، ولهذا المجلس جهاز يتابع التوسع الاستيطاني على مدار الساعة (أمناه)، وكلاهما ممول ومدعوم جيداً من لدن أنصار متعصبين داخل إسرائيل وخارجها. ومما يوحي بسطوة "ييشع" و"أمناه" أن كثيرين لم يعودوا يدركون ما إن كان هذان الجهازان هما المسيطران على قرارات العملية الاستيطانية أم أن السيطرة ما زالت محفوظة للأحزاب الدينية والحركات "المتطرفة" التي تقف جدلاً خلفهما؟!

ايضا يُشار في هذا السياق الى حقائق ظلت طويلاً طي الكتمان، منها ان تنظيمات المستوطنين هي التي أعدت للحكومات العمالية والليكودية والائتلافية المتوالية منذ آواخر 1994 خطط الطرق الالتفافية، التي ربطت ما بين المستوطنات وقطعت أوصال الأرض الفلسطينية المحتلة، وأن هناك اتفاقات مكتوبة بين هذه التنظيمات وحزب العمل (ناهيك عن الليكود!) يتعهد فيها الأخير بأن "لا يُمس وضع المستوطنات في أي تسوية دائمة، وتبقى المستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية ويظل المستوطنون مواطنين اسرائيليين ومرتبطين بإسرائيل أمنياً وسياسياً ومدنياً".

وعليه فإنه من أجل معارضة خطة الإخلاء سيعتمد المستوطنون المتشددون، من غير ذوي الأهداف المادية الاقتصادية والمالية، على هذه الاتفاقات ثم أنهم سيستقوون أكثر بمؤيديهم من رجال الدين والحاخامات المتغلغلين في المؤسسة العسكرية ذاتها عدا الوسط السياسي الحكومي. وكان بعض هؤلاء أفتى بأن لا يتقيد الجنود بأوامر القادة التي تطلب اليهم إجلاء المستوطنين من "أرض إسرائيل"!. وتلمح مصادر إسرائيلية الى احتمال حدوث مواجهات بين المتدينين وغيرهم داخل الجيش، إذا ما إنصاع بعض الجنود الى هذه الفتوى. ومما يقال بالخصوص إن المستوطنات مليئة بالأسلحة وبالمهووسين الدينيين ومنهم عناصر احترفت العمل العسكري وذات عقلية وميول إرهابية، قد تدافع بالعنف عما تعتبره جزءاً من "أرض الميعاد".

مقابل هذه التقديرات التي تشتط وتبالغ في توقع قوة ممانعة المستوطنين، نعثر على معالجات مضادة جماعها أن قراراً جدياً بإخلاء مستوطنات غزة بالذات لن يواجه إلا بمعارضة محدودة: كالقيام بأعمال شغب ومحاولات اعتداء على الجنود والمنشآت وتخريب للبنية العمرانية للمستوطنات وقليل من العنف الفردي الذي يمكن السيطرة عليه، ذلك لأن المستوطنين وتنظيماتهم يعلمون يقيناً أن أي تسوية مع الفلسطينيين ستشتمل على انسحابات من مواقع استيطانية، غزة في طليعتها.

والحال أن شارون أدرى الإسرائيليين بما يحفز المستوطنين على التمرد وما يكبح جموحهم ويقيد مطامعهم. فهو الذي أطلق هذا الوحش ويقع عليه عبء إعادته للحظيرة.

والظاهر أنه راح يمسك العصا من منتصفها، ذلك بإعادة تشغيل وتشجيـع سياسة الاستيطان في الضفة، والتعجيل بإخراج دفتر الشيكات لمستوطني غزة (300 ألف دولار للعائلة الواحدة) وكأنه يقـول من كان يستوطن غزة عن قناعات ايديولوجية دينية فأمامه الضفة، ومن كان يستوطن عن مغنم دنيوي فله ما يريد. والمؤكد أنه بهذين المدخلين يؤكد إخلاصه لشركائه ومريديه وحرصه على أن لا تكون خطته على حسابهم، وكيف أنهم لم يخرجوا من صفقة الاستيطان خاليّ الوفاض!.

المصطلحات المستخدمة:

الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات