بقلم: حلمي موسى
تميّز الموقف الإسرائيلي من الرئيس ياسر عرفات على الدوام بالعدائية. وفقط يمكن الإشارة الى هدنة قصيرة في هذا العداء أعقبت التوقيع على اتفاقيات أوسلو والمرحلة الأولى من بدء تنفيذها. وفي الوقت الذي اتسم فيه موقف اليمين الإسرائيلي من عرفات بالحدة التي تفاقمت بعد إبرام اتفاقيات أوسلو دأب اليسار الإسرائيلي على التذرع بالتعامل مع عرفات بادعاء "لسنا من يختار الأعداء". ولكن أحداً من المسؤولين الإسرائيليين في الجانبين لم يظن أن عرفات أقدم على تنازل تاريخي بقبوله الاعتراف المتبادل باسم منظمة التحرير.
وقد لعب في ذلك واقع أن الاعتراف بذاته لم يعد يشكل في نظر الإسرائيليين هدفاً يسعون إليه. فالدولة اليهودية التي نشأت على حطام الشعب الفلسطيني وأرضه أفلحت في تركيم عوامل القوة التي جعلتها تتفوق عسكرياً واقتصادياً وبنيوياً على الدول العربية، خصوصاً تلك التي تحيط بها. كما أن هذه الدولة لاحظت أنه مع مرور الوقت كان الاعتراف العربي بحقيقة وجودها يزداد رسوخاً، حتى وإن لم يتمّ الإعلان عن ذلك. فأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت تقيم، بشكل أو بآخر، علاقات مع الكثير من الأنظمة العربية، بل وتفتح "قنصليات" فيها وتتعاون مع أجهزتها الأمنية.
وعدا ذلك كانت السياسة العربية الرسمية تتنصّل بذكاء من القضية الفلسطينية وتجعلها مجرد قضية للفلسطينيين الذين يحتاجون لدعم عربي يحصلون عليه اسمياً أو عملياً. وأسهم هذا الأمر في تحويل منظمة التحرير الى "وطن معنوي" للفلسطينيين، والى دولة "رسمية" لهم، وإلى أن تحتل مكانة هامة في النظام الرسمي العربي. ولأنها كذلك تعاملت إسرائيل معها على الدوام بوصفها جهة يمكن إلحاق الهزيمة بها، ولا تشكل مصدر خطر حقيقي، لأنها في أفضل الأحوال مجرد "أداة" في يد النظام الرسمي العربي.
غير أن هذا الوضع تغيّر بشكل كبير أولاً بعد الحرب اللبنانية وثانياً خلال الانتفاضة الأولى. فقد اكتشفت إسرائيل أن تجاهلها لمنظمة التحرير أمر غير مكلف، غير أن تجاهلها لقضية شعب بات شديد التكلفة. وهكذا فرضت الانتفاضة الأولى بشكل عملي على جميع الإسرائيليين وجوب إعادة النظر في موقفهم من الشعب الفلسطيني ومن الاحتلال.
والواقع أن الانتفاضة التي أظهرت عمق المشكلة التي تعيشها إسرائيل ليس فقط مع الفصائل الفلسطينية، وإنما كذلك، بل أصلاً، مع الشعب الفلسطيني ألزمت أولاً حكومة برئاسة ليكودية على التعامل مع وفد فلسطيني تختاره منظمة التحرير لحضور مؤتمر مدريد. وسرعان ما أدركت حكومة عمالية أن الالتفاف على الواقع لا يقود إلى حل، وأن من الواجب مواجهة المعطيات كما هي. فتبلورت الرغبة في إقامة قناة اتصال مباشرة مع منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، عبر أوسلو.
ولكن هذا الالتفاف والتعاون الذي قام بين ممثلي الطرفين خلق هوة في التعامل الإسرائيلي مع عناصر القيادة الفلسطينية. ويمكن القول بثقة كبيرة إن الإسرائيليين لم يرتاحوا أبداً للتعامل مع الرئيس عرفات ليس لأسلوبه في القيادة، وليس لطريقته في إدارة المحادثات، وإنما أصلاً بسبب رمزيته. كان الرئيس عرفات في نظرهم ممثلاً للشعب الفلسطيني الذي يعيش نصفه على أرضه ويعيش نصفه الآخر في الشتات. وكان الرئيس عرفات في نظرهم ممثلاً لرؤية تقوم على أن كل ما تحقق للفلسطينيين جاء بسبب تضحياتهم، وليس بسبب "شطارة" تفاوضية. وكان الرئيس عرفات يحاول قدر إمكانه الربط بين القضية الفلسطينية وسياقها العربي، والجمع بين العمل السياسي والأداة الكفاحية العسكرية. وربما أن أشدّ ما كان يغيظ الإسرائيليين تكرار الرئيس عرفات لوصف نفسه ب"الجنرال".
كان "الجنرال" عرفات، ماضياً وحاضراً وتراثاً، وهو أشد ما يكرهه الإسرائيليون. وهم يرون في ذلك السبب الذي أجبرهم على التعامل مع الفلسطينيين كشعب. ولذلك يفضلون، الآن كما في السابق، ذوي الياقات البيضاء والبزات الرسمية الذين لم تتلوث أياديهم برائحة زيت السلاح أو البارود. وهذا ما يجعل الإسرائيليين اليوم، عدا قلة نادرة، تحاسب عرفات ليس كإنسان، وإنما كزعيم سياسي قاد حرب شعبه ضد الاحتلال.
ويمكن القول كذلك إن الإسرائيليين، بغالبيتهم الساحقة، يرون في عرفات، بوصفه ممثل الشعب الفلسطيني، حامي فكرة "حق العودة". وإن هذه الصورة وحدها تجعلهم لا يطيقونه، لأن القضية في نظرهم ليست فقط عودة أو عدم عودة الفلسطينيين، وإنما المسؤولية التاريخية عن تشريدهم. وإسرائيل لا تريد بحال أن تتحمل المسؤولية المعنوية والأخلاقية عن ذلك، فما بالكم بالمسؤولية القانونية والتاريخية؟
وإذا أضيف لذلك الضخ الإعلامي الهائل الذي كان يحاول أن يجعل عرفات فزاعة حقيقية، بوصفه الرجل الذي يقف وراء كل عملية ضد الإسرائيليين، يمكن القول إن فرحة تعم أصحاب الغريزة الانتقامية من الإسرائيليين. ولا ريب في أن حديث بعض الفلسطينيين عن "اليتم" بغياب عرفات ينعش آمال الكثير من الإسرائيليين بقرب تحقيق غاياتهم. والغاية الأساسية التي يهتم الإسرائيليون الآن بها هي إحداث الفصل التاريخي بين نصفي الشعب الفلسطيني، المقيم على أرضه والمشتّت. ولأن اتفاقيات أوسلو اهتمّت فقط بالشعب "المقيم" كان أمل إسرائيل أن يلغي ذلك عملياً حقوق النصف المشتّت.
لقد كان عرفات ممثل الفلسطيني المقيم والمشتّت، ولذلك لم تستطع إسرائيل أن تتقبله أبدا. وليس من المبالغة القول إنها لن تقبل أحداً يسير على خطى عرفات بأن يكون القاسم المشترك بين الفلسطينيين.