يشير أحد مقالات هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" إلى "ولادة" مصطلح جديد يتعلّق بقضية فلسطين في الخطاب السياسي الإسرائيلي العام منذ أعوام قليلة، هو "تقليص الصراع"، إلى جانب مصطلحين سابقين هما "تسوية الصراع"، و"إدارة الصراع". كما يتوقف المقال عند هوية من سكّ هذا المصطلح، وعند ما يمكن أن يمهّد له ويجعله مُطبقاً ميدانياً. ولعل الأهم من ذلك أنه مصطلح لقي، عند ظهوره، هوًى لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي نفتالي بينيت، المنتمي إلى الصهيونية الدينية، بحسب ما سبق أن صرّح هو بنفسه.
وما يهمنا حقيقة هو أن المصطلحات السابقة كلها، إذ تستخدم تعبير الصراع (مع الفلسطينيين) فهي تقصد، على نحو مسبق البرمجة والأدلجة، ذلك الدائر على مستقبل الأراضي المحتلة منذ العام 1967، كما لو أن قضية فلسطين بدأت في إثر هذا الاحتلال، ولم تكن قائمة قبله.
وهذا القصد ليس جديداً الآن، بل إنه ملازم لكثير من المقاربات الإسرائيلية المتعلقة بالتسوية، على الأقل منذ انطلاق قطار ما يسمى بـ"التسوية" في طريق لم تكن مشقوقة من قبل في بداية تسعينيات القرن العشرين الفائت. ومنذ ذلك الوقت راجت كثير من المقولات المرتبطة بالموضوع ذاته، لعل أشهرها أن 1967، هذه الأرقام الأربعة، هي "كلمة السرّ" لإنقاذ "دولة إسرائيل" على أساس التخلي عن مطامعها الجغرافية في "أرض إسرائيل الكبرى". وعندما كان يتم التداول في ماهية التسوية المطلوبة للصراع، سرعان ما كانت تتشكّل أغلبية تؤكد أنه لا بديل عن "حل الدولتين" على أساس حدود 1967 مع تعديلات فائقة، مثل الإبقاء على القدس موحدة، والاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى، وذلك في مقابل ترتيبات أمنية صارمة (في مقدمها سيطرة إسرائيل أمنياً على منطقة غور الأردن)، وتجريد الدولة
تعيد دراسة جديدة صدرت هذه الأيام عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب حول "ديمغرافية إسرائيل في مطلع العقد الجديد: المعاني والأبعاد القومية" للباحث شموئيل إيفن، والتي نقدّم لها قراءة موسعة ومعمقة هذا الأسبوع، تسليط الضوء على موضوع الديمغرافيا، القديم- المتجدّد باستمرار، والذي ليس مبالغة القول إنه لم يغب لحظةً عن أجندة إسرائيل، وقبل إقامتها كان في صلب أجندة الحركة الصهيونية.
وكان الباحث المذكور نفسه، وهو مسؤول كبير سابق في جهاز الاستخبارات وحالياً باحث زميل في "معهد أبحاث الأمن القومي"، أعدّ قبل ذلك دراسة نُشرت في مجلة صادرة عن وزارة شؤون الاستخبارات الإسرائيلية في شهر تموز 2020، أشار في سياقها إلى أن إسرائيل تعتبر الديمغرافيا مجال اهتمام "ذا أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة إلى أمنها القومي". ومن جملة ما أكده فيها أيضاً، أن إسرائيل تعرّف نفسها، بموجب "قانون أساس القومية"، الذي سُنّ في تموز 2018، بأنها دولة قومية للشعب اليهودي، وهو تعريف يلزمها بأن تحافظ على ميزان ديمغرافي تكون فيه أغلبية يهودية مُطلقة. ومن هنا تنبع أهمية الحفاظ على ميزان إيجابي لهجرة اليهود من الدياسبورا إلى إسرائيل، فضلاً عن حقيقة أن الميزان الديمغرافي بين اليهود والفلسطينيين يبقى ذا تأثير كبير في مسألة الحدود الدائمة لدولة الاحتلال، سواء في سياق المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في جوهر الخطاب السياسي الإسرائيلي.
يشكل قرار المحكمة الإسرائيلية العليا الذي رفض طلبات التماس قدمتها جمعيات حقوقية لإلغاء "قانون القومية الإسرائيلي" أو تعديل أي بند فيه، والذي اتخذ بأغلبية عشرة قضاة ضد قاض واحد- هو القاضي العربي الوحيد في هذه المحكمة- أحدث دليل على ماهية النظام السياسي في إسرائيل. ومثلما كتبت صحيفة "هآرتس" في الافتتاحية الخاصة التي أنشأتها أمس (الأحد)، فإن المحكمة العليا أثبتت بذلك أنها في طليعة الهيئات التي تقف وراء قانون أساس (دستوري) يرسي نظام الفوقية اليهودية والدونية العربية ويمس بقيمة المساواة. وكأنها بذلك تريد أن تدرأ عن نفسها التهمة التي ما انفكت جهات يمينية إسرائيلية كثيرة توجهها إليها، وهي تآكل الوزن الذي تقيمه لهوية إسرائيل اليهودية في قراراتها، وهي تهمة تروم هذه الجهات منها الحدّ من حقوق الإنسان، وكبح احتكام الجهاز القضائي عموماً إليها.
بالتأكيد لا يُعدّ قرار المحكمة العليا هذا الدليل الوحيد على ماهية نظام إسرائيل السياسي، فلقد سبقته دلائل كثيرة، كما تتوازى معه دلائل أخرى آخذة بالتراكم يوماً بعد يوم. مهما تكن هذه الدلائل، اخترنا أن نسلط الضوء في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" على كيفية وقوف هذا النظام السياسي من وراء عمليات نهب الأراضي والممتلكات الفلسطينية ولا سيما في القدس الشرقية المحتلة، كما في سائر أراضي 1967، ومثلما كانت الحال عليه في أراضي 1948 ولا تزال، وذلك من خلال ترجمة مقالة مدعمة بالقرائن كتبها أحد ناشطي جمعية "عير عاميم" ("خمسون طيفاً للتهويد في القدس الشرقية") وشدّد فيها بشكل خاص على أن هذه العمليات هي نتاج تخطيط وتنفيذ تقوم به دولة الاحتلال.
كان من أول الوعود التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد يائير لبيد، الذي هو أيضاً رئيس الحكومة البديل، هو الوعد بتحسين العلاقات بين إسرائيل والحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة في ظل الحكومة الجديدة. وجاء هذا الوعد خلال اللقاء الذي عقده لبيد يوم 27 حزيران الفائت مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في العاصمة الإيطالية روما. وقال لبيد في تصريحات لوسائل الإعلام: "في الأعوام الأخيرة ارتُكبت أخطاء كثيرة وتضررت مكانة إسرائيل بين الحزبين في الولايات المتحدة، ونحن سوف نصلح هذا سوية. لا توجد علاقة لإسرائيل أهم من علاقتها بالولايات المتحدة، ولا توجد صديقة مخلصة للولايات المتحدة أكثر من إسرائيل. إن وزير الخارجية الأميركي وأنا نمثل حكومتين جديدتين، لكن هناك تقاليد طويلة المدى من الصداقة الوثيقة والتعاون، وفي الأيام الأخيرة تحدثت مع مجموعة من القادة الديمقراطيين والجمهوريين وذكرت لهم أن إسرائيل تشترك معهم في القيم الأميركية الأساسية: الحرية والديمقراطية والسعي المستمر لتحقيق السلام."n واضح أن وزير الخارجية يحمّل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو مسؤولية تراجع العلاقة مع الحزب الديمقراطي الأميركي لأسباب كثيرة، قد يكون أهمها قلب ظهر المجن للموقف الإسرائيلي التقليدي الذي حافظ على المسافة نفسها من الحزبين، من خلال تأجيج موقف معادٍ للحزب الديمقراطي ولا سيما إبان ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، تطوّر فيما بعد إلى موقف منحاز إلى الحزب الجمهوري خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
وما زلنا نذكر كيف أن الناطقين بلسان نتنياهو وحكمه فتحوا النار على فترة حكم أوباما فور انتهائها ثم عند مقارنتها بفترة حكم ترامب.
وبرأي هؤلاء تميزت وجهة نظر أوباما، كما برز في كتاباتهم، بالمبادئ العشرة التالية:
مع بداية هذا العام بدأ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار عقده الثالث وقد أصبح في جعبته إرث من الصعب استحصال ملامحه في عجالة، وذلك في طيف واسع من المجالات التي يمكن الإشارة إلى تميزه فيها على نحو ليس مبالغة القول إنه شديد الخصوصية.
ولعلّ ما يستلزم التذكير بهذا الأمر هو ضرورة الاستفادة من التجربة والإنتاج اللذين راكمهما المركز خلال هذه الفترة، ولا سيما من طرف الباحثين وجميع الذين يكتبون في الشأن الإسرائيلي، في سبيل مزيدٍ من هذه المراكمة التي تعتبر أهم تعضيد لعملية البحث ذاتها الآن وفي المستقبل.
ومن الحق أن يُشار في هذا الصدد إلى أن مركز مدار تميّز من ضمن أمور أخرى بقدر كبير من استشراف سيرورات نحا نحوها المشهد الإسرائيلي، وبرز هذا الأمر بشكل ملفت في تقاريره الاستراتيجية السنوية. وإحدى أهم تلك السيرورات تمثلت في محاولة اليمين الإسرائيلي الجديد إحكام قبضته على مفاصل الحكم، والتي نشهد في هذه الأيام نتائجها على أكثر من صعيد، وذلك في ضوء أنه هو من بات يقرّر جدول الأعمال الداخلي في إسرائيل وخطابها السياسي.
تشير تقارير إسرائيلية متطابقة إلى أن من أبرز تداعيات الهبّة الشعبية الفلسطينية الأخيرة، تعرّض الجالية اليهودية في الولايات المتحدة إلى حملة كبيرة من النقد، على خلفية ازدياد نطاق مناهضة إسرائيل وسياستها العامة.
وقد يكون في بعض هذه التقارير قدر من المبالغة المقصودة، سواء من طرف المتبرمين من هذا النقد، أو من جانب المتحمسين له، ولكن مع تنحية هذه المبالغة جانباً، لا يجوز عدم الالتفات مثلا إلى التقرير المطوّل الذي نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" يوم الجمعة الأخير بهذا الشأن ونقلت فيه على لسان عدد من قادة هذه الجالية قولهم "دخلنا إلى وضع جديد". والاستنتاج الذي تركّز عليه الصحيفة فيما يتعلق بهذا الوضع الجديد، يسلّط الضوء على تطورين غير مسبوقين: الأول، وقوع اعتداءات على يهود في وضح النهار من دون أي خشية، وهذا يجري في كل أنحاء الدولة. وتربط الصحيفة تلك الاعتداءات بما تصفه بأنه تصاعد الاعتداءات والمساس باليهود على خلفية معاداة السامية. والتطور الثاني، بلغة كاتب التقرير- وهو المراسل السياسي الأبرز للصحيفة- هو أن هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها اليهود في الولايات المتحدة إلى الهجوم ويتم اتهامهم بصورة جماعية بسبب ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين.
الصفحة 23 من 45