المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1482
  • أنطوان شلحت

صكّ كل من دانييل بار- طال وعميرام رفيف، في سياق كتاب جديد لهما صدر في إسرائيل مؤخراً بعنوان "المنطقة المُريحة لمجتمع في صراع" (2021)، مصطلحاً جديداً في تعريف نظام اللامساواة الذي رأيا أنه صار إلى تشكّل بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، على امتداد الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهو "أوكيوبارتهايد" الذي يوالف بين مصطلحي الاحتلال Occupied والفصل العنصري Apartheid.

وبار- طال هو باحث وأخصائيّ نفسانيّ- اجتماعيّ- سياسيّ، سبق له أن أشغل منصب رئيس "الشركة العالمية لعلم النفس السياسي"، ووظيفة محاضر في جامعة تل أبيب، وعميرام رفيف هو أخصائيّ نفساني علاجيّ وتربوي ومحاضر في جامعة تل أبيب. ولكليهما العديد من المساهمات الملفتة في تبيان الأساس النفساني- الاجتماعي الذي يقف عليه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وفي تحليل العوامل والمنظومات والسيرورات النفسانية الضالعة في هذا الصراع، ولا سيما تلك التي تؤثّر بصورة بالغة على إدراك الواقع من طرف المجتمع اليهودي بقدر ما تؤثر على السلوك الجماعيّ لهذا المجتمع. وسبق أن توقفنا عند تلك المساهمات في أكثر من مناسبة.

ووفقاً لما ورد في الكتاب المذكور يرسّخ هذا النظام حالة متطرفة من اللامساواة ويسلب الحريّات، ولذا فهو لا يستحق بتاتاً أن يوصف بأنه نظام ديمقراطي. وقد تسبّب كذلك بوجود خمس فئات من السكان من حيث المكانة السوسيو- اقتصادية في البقعة الجغرافية نفسها الخاضعة لسيطرته. ويقف في رأس هرم هذه الفئات، المستوطنون الإسرائيليون في الأراضي المحتلة منذ 1967 الذين يحصلون على حقوق فائضة وعلى امتيازات مادية لا يحصل عليها حتى معظم السُكّان اليهود داخل الخط الأخضر، وهي بمثابة حلم بعيد المنال بالنسبة إليهم. ويشكل المواطنون اليهود في إسرائيل الفئة الثانية، فيما يشكل المواطنون العرب في أراضي 1948 الفئة الثالثة. ويؤكد بار- طال ورفيف أن أفراد هذه الفئة الأخيرة يعانون من انعدام المساواة ومن تمييز مُمأسس وحتى قانوني بصفتهم أقلية قومية وأيضاً لكونهم جزءاً من الشعب الفلسطيني. وانعدام المساواة بالنسبة إلى المواطنين العرب في إسرائيل قائم، بحسب ما يؤكد المؤلفان، منذ إقامة دولة إسرائيل في العام 1948 حيث تمّ في البداية إخضاعهم إلى حُكم عسكري أُلغي فقط في العام 1966 وصودرت منهم أراض كثيرة. ويضيف المؤلفان: صحيح أن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين العرب في إسرائيل تحسنت كثيراً بمرور الوقت، كما أن سيرورة اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي قطعت شوطاً بعيداً، إلا إنهم بالرغم من ذلك ما زالوا حتى الآن خاضعين إلى التمييز للأسوأ بصورة مُمأسسة في كل ما يتعلق برصد الميزانيات والتطوّر، وهم يحظون بفرص أقلّ، ويصارعون تمييزاً ثقافياً. فضلاً عن ذلك كله، جرى في الأعوام الأخيرة سنّ عدد غير قليل من القوانين التمييزية الموجهة ضد المواطنين العرب فقط على غرار "قانون النكبة" و"قانون لجان القبول" و"قانون المواطنة" و"قانون القومية". كذلك تحظى سياسة التمييز والإقصاء هذه بدعم كبير من معظم قادة الأحزاب والقوى السياسية في المجتمع اليهودي ولا سيما التي في يمين الخارطة الحزبية.

أما الفئة الرابعة فهي السكان الفلسطينيون في القدس الشرقية الذين حصلوا على مكانة سكان دائمين بعد ضم مدينتهم إلى ما يسمى بـ"السيادة الإسرائيلية" في إثر احتلال العام 1967، وهي مكانة يُفترض أن تجعلهم مستحقين للخدمات والحقوق التي من نصيب عموم السكان في إسرائيل باستثناء التصويت للكنيست ولكنهم يعانون من التمييز المُمأسس والإهمال. والفئة الخامسة هي الفلسطينيون في الأراضي المحتلة منذ 1967 باستثناء القدس الشرقية الذين لا يتمتعون بأي حق من حقوق الإنسان أو المواطن، في الوقت الذي يعيش في الأراضي نفسها على بعد عدة كيلومترات وأحياناً على بعد مئات الأمتار مستوطنون ينتسبون إلى الفئة الأولى لمجرّد كونهم يهوداً.
ينضاف هذا التشخيص إلى عديد التشخيصات والتي من شأنها أن تخدم الكفاح العام من أجل تحقيق العدالة في فلسطين، والتوصل إلى تسوية مقبولة لقضية الفلسطينيين.

وبغية النمذجة على هذه التشخيصات، نشير على سبيل المثال إلى أنه في أثناء جولات الانتخابات الأخيرة التي شهدتها إسرائيل خلال الأعوام 2019 -2021 لاحظ أستاذ الجغرافيا وتخطيط المدن الإسرائيلي أورن يفتحئيل أن الحملات الانتخابية بدت بصفتها هروباً كبيراً من القضية المركزية بالنسبة إلى مستقبل إسرائيل، وهي الأبارتهايد الآخذ، في قراءته، بالتكوّن بين اليهود والفلسطينيين، مؤكداً أن التعامي والصمت الحاليين يفاقمان المشكلة فقط، وأن ردّ المعسكر الذي وصفه بأنه ديمقراطي يجب أن يكون بلورة جبهة واسعة ضد نية "كتلة الأبارتهايد" (المؤلفة من أحزاب اليمين وقواه) الرامية إلى إقامة نظام كولونيالي بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وكتب يفتحئيل أن اليهود هم أصحاب مواطنة كاملة "في كل مكان في البلد"، بينما ينقسم المواطنون العرب والفلسطينيون إلى فئات أدنى: مواطنون (من الدرجة الثانية) في إسرائيل، سكان القدس الشرقية، رعايا في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. ولدى المقارنة بالوضع الذي كان سائداً في الماضي في جنوب أفريقيا، فإن اليهود هم "البيض"، والعرب من مواطني إسرائيل هم "الملوّنون"، بينما الفلسطينيون في المناطق هم "السود". ومئات المستوطنات ربطت بصورة مدنية المناطق (المحتلة) بإسرائيل وحوّلت الاحتلال إلى أبارتهايد. وهذا الوضع عزّزه "قانون القومية الإسرائيلي" (سُنّ في تموز 2018)، وقانون شرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية، اللذان يرسخان السيطرة الإسرائيلية القانونية بين نهر الأردن والبحر، كما عززته سياسة اقتصادية توجّه معظم موارد البلد إلى السكان اليهود. وبرأيه فإن كل الحديث عن "احتلال" هناك (في أراضي 1967) و"ديمقراطية" هنا (داخل الخط الأخضر)، وعن "يمين في مواجهة يسار" أفلس لأنه فقد أي علاقة له بالواقع، ويجب استبدال المصطلحات التي تحرّك النضال. ومصطلح "أبارتهايد" يُعتبر لدى كثير من الجماهير بمثابة شتيمة، لكن يجب النظر إليه كوصفٍ لواقعٍ سياسيٍ وحشيٍ يُعتبر جريمة خطِرة في القانون الدولي.
ما ينبغي أن يهمنا في مثل هذه التشخيصات هو:

أولاً، أنها تؤكد وجود وضع غير اعتيادي ناجم بالأساس عن ممارسات إسرائيل والحركة الصهيونية؛

ثانياً، أنها توضح أن فلسطين حالياً هي بمنزلة فضاء واحد خاضع إلى درجات مختلفة من سلب الأرض واللامساواة ومصادرة الكيان الوطني وأساليب سيطرة مختلفة للسلطة الإسرائيلية الحاكمة نفسها. وبالتالي لم يعد هناك مجال لتصوّر حلّ لقضية فلسطين يشمل فقط جزءاً من الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة منذ 1967، بل يتطلب الأمر حلاً شاملاً.

من ناحية أخرى هذا الكتاب أيضاً أن المجتمع اليهودي، في معظمه، مُستنقعٌ حتى إشعار آخر في ما يصفه بأنه "منطقة مريحة" بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، وتغلب على مواقفه حيال هذا الصراع سمتان رئيسيتان هما الإقصاء والإنكار، ولا تنتابه أدنى مشاعر ذنب أو خجل إزاء ما كان ولا يزال يتمّ اقترافه من جرائم وآثام.

ووفقاً للكتاب، شهدت إسرائيل في الأعوام الأخيرة تدهوراً في كل مستوياتها، وبالرغم من ذلك فإن أعداد المحتجين على هذا التدهور لم تتجاوز عشرات الآلاف الذين استقطبتهم التظاهرات ضد فساد رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، في حين بقيت غالبية الإسرائيليين متمسكة بمفاهيمها الاجتماعية- السياسية- الاقتصادية التي تكاد تستحيل إلى مفاهيم صنميّة. وهذا ما أظهرته مثلاً نتائج آخر جولة انتخابات والتي ذهبت فيها أكثرية الأصوات إلى أحزاب الليكود و"يمينا" (نفتالي بينت) و"إسرائيل بيتنا" (أفيغدور ليبرمان) و"أزرق أبيض" (بيني غانتس) و"أمل جديد" (جدعون ساعر) وأحزاب اليهود المتشددين دينياً (الحريديم)، الأمر الذي يقرأ فيه المؤلفان أنه تعبير عن تأييد استمرار الاحتلال في أراضي 1967، واستمرار الصراع القومي، ودعم الاقتصاد النيوليبرالي، وتوسيع الفجوات الاجتماعية، والعنصرية إزاء المواطنين العرب، وتقليص الديمقراطية، وتعزيز النزعة العرقيّة، وترسيخ التربية الفاسقة غير المنطوية على الانفتاح والنقد، والمسّ بالرفاهية. كما أن في هذه النتائج ما يُثبت انعدام الفجوة بين القيادة وبين أغلبية الجمهور.

ويعدّد الكتاب الأسباب التي تؤجّج هذا الاستنقاع. وفي مقدمها أنه نتيجة التعوّد على العيش في وضعية صراع يُنظر إليها بأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ اليهود على مرّ العصور. يُضاف إلى ذلك أنه بتأثير صيرورة ما تُعرف بـ"عملية التسوية" التي بدأت في تسعينيات القرن الفائت، تكرّس في أوساط الإسرائيليين حكم منحرف وانتقائي ومختل يلقي أوزار المسؤولية عن جذور الصراع واستمراره وعن منع الوصول لحلّ له على كاهل الخصم فقط. وهذا الحكم يتمحور، بصورة حصرية وإطلاقية، من حول "عنف" الخصم وحده ويحول، في العُمق، دون أي تعاطف وجداني حياله ودون أي اعتبار لحاجاته. وهكذا تشكل النظرة السلبية إلى الفلسطيني، برأي المؤلفين، واحداً من العوامل التي تمنع التقدّم إلى الأمام في أي "عملية سلام" معه.

غير أن السبب الأهم في عُرف المؤلفِيْن يبقى كامناً في أن جزءاً كبيراً من الجمهور الإسرائيلي بات مقتنعاً، مثله مثل زعمائه، بأنه يمكن العيش مع الصراع في الوقت الحالي وكذلك في المستقبل القريب والبعيد. وما يوطّد هذه القناعة أن ذلك الجزء الأكبر من الجمهور الإسرائيلي وكذلك زعمائه يعتقدون أن إسرائيل لا تدفع ثمناً باهظاً جراء استمرار الاحتلال في أراضي 1967 وديمومة الصراع، وبناء على ذلك يجري تكييف النفس مع هذا الواقع ومواصلة الحياة وكأنه لا وجود لاحتلال وقمع والنأي بالنفس عن أي مشاعر ذنب أو خجل!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات