لا يجوز التقليل من أهمية قرار المحكمة الجنائية الدولية، يوم الجمعة الفائت، الذي ينص على أن الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 تقع ضمن اختصاصها القضائي، ما يمهّد الطريق أمامها للتحقيق بشأن جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في هذه الأراضي. وإذا ما تناولنا القرار من زاوية الوضع الإسرائيلي الداخلي فلا بُدّ من التنويه بأن من شأنه أن يعيد، بكيفية ما، قضية فلسطين إلى موقع بارز في الأجندة العامة في إسرائيل الغارقة منذ نحو عامين في جولة انتخابات إثر أخرى على خلفية شبهات الفساد الحائمة حول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الأمر الذي تسبّب بالتوازي مع انقضاض جائحة كورونا بإقصاء الموضوعات السياسية جانباً، بقدر ما تسبّب بذلك أيضاً تلاشي الفروق الجوهرية حيال تلك الموضوعات من طرف مختلف ألوان الطيف الحزبيّ.
عاد الموضوع الإيراني ليطغى على الأجندة الإسرائيلية، وعلى نحو رئيس بتأثير التصريحات التي أدلى بها رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، الجنرال أفيف كوخافي، خلال المؤتمر السنوي لـ"معهد أبحاث القومي" في جامعة تل أبيب، وأكد فيها أن عودة الولايات المتحدة، في إثر تسلم إدارة جديدة سدة الحكم فيها، إلى الاتفاق المبرم مع طهران في العام 2015 والذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بضغوط من إسرائيل، ستكون بمثابة خطأ فادح وخطوة ذات عواقب وخيمة إقليمياً وعالمياً. وهي تصريحات جرى تفسيرها بأنها تنطوي على رسالة مباشرة إلى الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، من جهة، فضلاً عن كونها تتماشى مع جوهر السياسة التي يتبعها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بل ويحاول أن يجعلها درّة تاج هذه السياسة، من جهة أخرى.
ستظلّ الأنظار متجهة إلى يومي انتهاء مهلة تقديم القوائم الانتخابية التي ستخوض الانتخابات للكنيست الإسرائيلي الـ24 التي ستجري يوم 23 آذار 2021، وهما يوما 3 و4 شباط المقبل، وعندها قد تُتاح إمكانية الحديث حول السيناريوهات المتعلقة بالائتلافات الحكومية التي من شأن تلك الانتخابات أن تؤدي إليها، وحول احتمالات النجاح في تأليف حكومة إسرائيلية جديدة، تحل محل حكومة بنيامين نتنياهو الخامسة الحالية. ومع ذلك بات من الأسرار المفضوحة أن استراتيجيا نتنياهو، في ما يرتبط بخارطة تلك القوائم، تقوم على أساس الحفاظ على مكانة حزب الليكود الذي يتزعمه كأكبر حزب بفارق كبير عن الحزب الذي يليه من جهة، وتقوم من جهة أخرى على محاولة تذرير التحالفات الحزبية المنافسة له.
ووفقاً لما تؤكد عليه أوساط مقربة من نتنياهو، كان خيار هذا الأخير في الآونة الأخيرة وحتى هذه الجولة الانتخابية هو الحفاظ على ليكود كبير في مقابل حزب موازٍ من معسكر الوسط- يسار. وبهذه الطريقة اعتاد إيجاد توتر يحثّ من خلاله أنصار اليمين على التصويت لمصلحة الليكود على حساب الأحزاب الأخرى.
ما زالت قضية امتناع إسرائيل عن تزويد الفلسطينيين من سكان الأراضي المحتلة منذ العام 1967 باللقاح ضد فيروس كورونا تتفاعل، وبين هذه التفاعلات الخلوص من ذلك التصرّف الذي يتم انتهاجه عن سبق عمد وإصرار، إلى استنتاج فحواه أن دولة الاحتلال عنصرية بامتياز.
وتفجرّت هذه القضية مع بدء جهاز الصحّة في إسرائيل بتطعيم الجمهور العريض ضدّ فيروس كورونا، وبموازاة ذلك مطالبة عدة منظمات لحقوق الإنسان السّلطات الإسرائيليّة بأن تؤمّن وصول تطعيمات ذات نوعيّة جيّدة إلى الفلسطينيّين سكّان الضفة الغربيّة وقطاع غزّة المحتلّين عملاً بما يُلزمها من قوانين بوصفها سُلطة احتلال.
مثلما هي الحال على أعتاب كل انتخابات إسرائيلية عامة في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، كذلك في الانتخابات القريبة تطرح وأحياناً بكل حدّة قضية هوية أحزاب الوسط الإسرائيلية. ومن آخر مظاهر الجدل المحتدم في هذا الشأن ما دار بين المؤرخ المتخصص في تاريخ الصهيونية وإسرائيل يغئال عيلام، وزعيم حزب "يوجد مستقبل" عضو الكنيست يائير لبيد باعتباره حامل لواء وجوب إمساك هذا الوسط دفة القيادة في إسرائيل، بديلاً للحُكم الحاليّ.
وقد رفض لبيد، في سياق مقال نشره في صحيفة "هآرتس" يوم 4 كانون الأول الفائت، ادعاء عيلام بأن حزب الوسط كما يمثل عليه حزبه- "يوجد مستقبل"- أقرب إلى أن يكون "حزباً يسارياً خجولاً ومرعوباً"، وأكد تحديداً أن حزبه كوسط جاء كي يفترق عن قوموية اليمين التي وصفها بأنها متطرفة، وعن ليبرالية اليسار التي زعم بأنها تحوّله إلى ديانة كونية لحقوق الإنسان. ووصل إلى بيت القصيد حين اتهم اليسار بمغادرة الحلبة الصهيونية لمصلحة سياسات تناقض مجرد فكرة الدولة اليهودية الإثنية.
أعربت عدة متابعات وتحليلات إسرائيلية، وإن من طرف خفيّ، عن اعتقادها بأن حادثة ملاحقة الشرطة لمجموعة مستوطنين من عصابة "شبيبة التلال"، والتي تسببت بموت أحدهم، قبل فترة وجيزة، من شأنها أن تعيد إنتاج هذه العصابة بوصفها فئة لا تحظى جرائمها برقابة عين الأجهزة الأمنية الساهرة، سواء في صفوف المسؤولين عن تلك الأجهزة، أم في أوساط الرأي العام الإسرائيلي عموماً. ورأى البعض أن عدة قوى داخل جمهور المستوطنين سارعت إلى إطلاق حملة غايتها "تخفيف وطأة ملاحقة الأجهزة الأمنية" لأفراد هذه العصابة.
من ناحية وقائعية يجدر أن نعيد إلى الأذهان أن تلك الملاحقة برزت على السطح قبل عدة أعوام، في إثر جريمة إحراق عائلة دوابشة. ووفقاً لتقارير إسرائيلية متطابقة، في العامين 2016 و2017 حدث انخفاض متواصل في عدد تلك الجرائم، نُسب بالأساس إلى تداعيات العملية الإجرامية في قرية دوما، حيث اتهم مستوطن إسرائيلي بقتل ثلاثة من أبناء عائلة دوابشة، التي تم إحراق بيتها بواسطة زجاجات حارقة، وبعد العملية اعتقل جهاز "الشاباك" الكثير من ناشطي ما تسمى "مجموعة التمرد" كانوا متورطين حسب التهمة في أعمال عنف وتحريض على العنف ضد الفلسطينيين. وكما يبدو أدت الخطوات التي اتخذت في تلك الفترة،
الصفحة 27 من 45