بالإضافة إلى المحاولات الحثيثة التي من المتوقع أن تبذلها المعارضة خلال الدورة الحالية للكنيست الإسرائيلي والتي بدأت قبل أسبوع، والرامية إلى زعزعة استقرار حكومة بينيت- لبيد، على خلفيات شتيتة، ستشهد هذه الدورة أيضاً إقرار الميزانية الإسرائيلية العامة بالقراءتين الثانية والثالثة، وذلك حتى منتصف تشرين الثاني المقبل.
ولا شكّ في أن الكلام حول الميزانية العامة من شأنه أن يحيل، على نحوٍ مباشرٍ، إلى ما يرتبط بسياسة الحكومة الإسرائيلية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وفيما إذا كانت هذه السياسة تنطوي على تغيير جوهري مغاير عما هو متبع منذ عدة عقود من سياسة تدور في فلك النيوليبرالية. ولعلّ من أبرز معالم هذا الدوران، حسبما تؤكد دراسات العديد من المختصين والخبراء، التخلّي أكثر فأكثر عن برامج الرفاه والإعانات التي تقدمها الدولة بحجّة تعزيز الحوافز التي تشجع الفقراء على الانخراط في سوق العمل، وخفض الضرائب ولا سيما التي تُفرَض على الشركات وعلى ذوي الدخل المرتفع من أجل تشجيع الأغنياء على البقاء في البلد، وتحرير أسواق العملات الأجنبية بغية تمكين الشركات العالمية من ممارسة قدر أكبر من النفوذ وزيادة قدرتها على تحقيق الأرباح في السوق المحلية، وخصخصة أصول الدولة ووضعها في أيدي القطاع الخاص وإزالة القيود التي كانت مفروضة على القطاع الخاص.. وما إلى ذلك.
أول ما ينبغي أن نستنتجه من سيلِ الانتقادات التي وُجِهّت في معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (يوم 27 أيلول 2021) وتجاهل فيه الفلسطينيين وقضيتهم والاحتلال الجاثم على أراضيهم ووطنهم، هو أن قضية فلسطين ستبقى حاضرة بالرغم من كل الظروف المُحيطة بها.
وإذا ما جاز لنا أن نُجمل فحوى تلك الانتقادات فبالإمكان أن نفعل ذلك من خلال العبارات التالية؛ إن تجاهُل بينيت الفلسطينيين في خطابه لن يُزيل القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، ولن يساعد أبداً في التخفيف من ألسنة اللهب إزاء إسرائيل، والتي تصدر عن أصوات تقدّمية في العالم، وحتى في داخل الولايات المتحدة نفسها.
وبديهي أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة بقوة أحياناً، وقد لا تكون كذلك أحياناً أخرى، تحت تأثير عوامل عديدة، منها ما هو موضوعي مُرتبط بالأوضاع الإقليمية والدولية عموماً، ومنها ما هو ذاتي يُحيل إلى الوضع الفلسطيني خصوصاً.
لا ندلي بأي جديد لدى القول إن الحكومة الإسرائيلية الجديدة، حكومة بينيت- لبيد، تبدو بعد مرور مئة يوم على إقامتها في حالة استقرار نسبية جيّدة، ومن المتوقع أن تواصل القيام بمهماتها في ظلّ ذلك، إلى حين ظهور أزمات قويّة من شأنها أن تهدّد هذا الاستقرار وقد تؤدي إلى انفراط عقدها.
وفي مناسبة مرور الأيام المئة الأولى صدرت تصريحات عن كل من رأسي الحكومة نفتالي بينيت ويائير لبيد. وفيما ركّز الأول بالأساس على التغيير الذي تقود لواءه الحكومة في كل ما يتعلق بمواجهة أزمة جائحة كورونا، والمفاصل الرئيسة للسياسة الخارجية المرتبطة بالعلاقات مع الولايات المتحدة والعالم ودول الإقليم بما في ذلك إيران، تكلم الثاني حصرياً حول السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومة واصفاً إياها بأنها مختلفة عن سياسة الحكومات السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو من ناحية كونها لا تستند فقط إلى المصالح الاقتصادية والأمنية إنما أيضاً إلى "قيم مشتركة".
وقد وردت أقوال لبيد هذه في سياق مقال ظهر في صحيفة "هآرتس" (19/9/2021) تحت عنوان "الأيام المئة الأولى من سياسة خارجية مختلفة"، ويثير انطباعاً عاماً آخذاً بالتعزّز بأن سياسة الحكومة الجديدة حيال القضية الفلسطينية هي نفس السياسة القديمة للحكومات السابقة، والتي هناك شبه إجماع داخل إسرائيل على أن من بات يُحدّدها هو اليمين وأن "معسكر الوسط - اليسار" يسير منقاداً وراءه بإرادته. وهذا ما أشارت إليه دراسة جديدة صادرة عن "مولاد- المركز لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" قمنا بترجمتها ونشرها في مركز "مدار" ضمن العدد 73 من سلسلة "أوراق إسرائيلية"، وأكدت كذلك أن هذا الواقع صار إلى رسوخ من جرّاء تحوّلين شهدتهما المؤسسة السياسية في
عاد الانشغال بالملف النووي الإيراني إلى صدارة جدول الأعمال في إسرائيل في ظل مُستجدّات كثيرة، يظل في مقدمها تبدّل الحكم، بتزامن ما، في كل من الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل، وما أتاحه تبدّل الإدارة الأميركية من إمكان العودة إلى الاتفاق مع إيران والذي أبرم العام 2015 وعارضته إسرائيل ومارست ضغطاً كبيراً على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من أجل الانسحاب منه من جهة، ولركل مسار المفاوضات والعودة إلى نظام فرض العقوبات على نظام طهران، من جهة أخرى.
غير أن الانشغال بالملف الإيراني من ناحية إسرائيل هذه المرة يأتي أيضاً على خلفية تقارير متطابقة تشير إلى أن إيران حققت تقدماً كبيراً في مشروعها النووي إلى ناحية الاقتراب من أن تصبح دولة عتبة نووية، وعندها فإن المسافة بينها وبين امتلاك قنبلة نووية تُمسي قصيرة جداً. كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، قبل أيام، نقلاً عن تقرير لخبراء ثقة، أن إيران أصبحت قادرة خلال فترة شهر واحد تقريباً على امتلاك ما يكفي من المواد لتزويد سلاح نووي واحد بالوقود. ووفقاً للتقرير نفسه، بإمكان إيران إنتاج وقود السلاح الثاني في أقل من ثلاثة أشهر، ووقود السلاح الثالث في أقل من خمسة أشهر. ولكن بالرغم من ذلك فإن تصنيع رأس حربي حقيقي، أي رأس يمكن أن يصلح للتركيب على صاروخ إيراني، سيستغرق وقتاً أطول بكثير. ولا بُدّ من أن نشير إلى أن مثل هذه التقديرات صدرت أيضاً في الماضي عن كل من وزيري الدفاع والخارجية الإسرائيليين بيني غانتس ويائير لبيد، ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وكذلك عن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي.
على أعتاب الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت إلى الولايات المتحدة في أواخر شهر آب الفائت، أكدت مصادر سياسية إسرائيلية رفيعة المستوى أنه من المتوقع أن يطرح خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن وسائر كبار المسؤولين الأميركيين ما وصفته بأنه "سياسة إسرائيلية جديدة حيال الصين"، تعتبر العلاقات مع هذه الدولة بأنها تقف في صلب قضايا الأمن القومي، وتأخذ في الاعتبار عناصر القلق والتوجّس القائمة لدى واشنطن من مترتبات تلك العلاقات، وذلك أكثر مما كانت عليه الحال إبان ولايات حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة منذ العام 2009.
وبموجب تقارير "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن الموضوع الصيني لم يُطرح بتاتاً في إطار الاجتماع بين بايدن وبينيت، ولكن هذا لا يعني أنه غائب عن أجندة المستويات المهنية التي تعمل تحتهما. وربما يحيل عدم طرحه إلى واقع أن الاتفاق القائم ضمناً بين الجانبين فيما يتعلق بهذا الشأن، كفيل بعدم جعله من الموضوعات التي تتصدّر جدول أعمال الزعيمين. ولمحت تقارير المعهد المذكور كذلك إلى أن رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) الذي قام بزيارة إلى إسرائيل قبل موعد زيارة بينيت إلى واشنطن، تقاسم مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مشاعر القلق التي تنتاب الولايات المتحدة من حجم التغلغل الصيني في الاقتصاد الإسرائيلي وخصوصاً في مجالات الهايتك وفي مشاريع البنى التحتية الكبرى. وما زالت تتردّد إلى الآن أصداء تحذيرات فحواها أن إسرائيل تفتقر إلى آلية لتحليل ما تنطوي عليه الاستثمارات الاقتصادية الصينية من انعكاسات على الأمن القومي والعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، وكانت تُرفق في العادة بالدعوة إلى إنشاء مثل هذه الآلية على وجه السرعة. وفي مجرّد تلميح الحكومة الحالية إلى أنها ستُدرج العلاقات مع الصين في إطار قضايا الأمن القومي ما يشير إلى احتمال اعتماد مثل هذه الآلية.
ما زالت العناصر التي تتألف منها السردية الإسرائيلية حول الانسحاب الأميركي من أفغانستان آخذة في التبلور، ومع ذلك بالوسع أن نشير إلى سيرورتين يبدو من الآن أنهما سترافقان مسار تبلورها: الأولى، عرض وتحليل المصالح الإسرائيلية في ضوء هذا الحدث الكبير، وارتباطاً بآخر الأوضاع الإقليمية والعالمية، والثانية، تجيير الحدث كمسوّغ لمواجهةٍ مواربةٍ مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، كما يفعل محللون وساسة سابقون محسوبون على نهج الحكومات السابقة بزعامة بنيامين نتنياهو، وذلك لغايات عديدة في مقدمها تحقيق حلم استعادة الحكم.
ولعل أبرز عناصر هذه السردية المرتبطة بالسيرورة الأولى، وحسبما تراكم إلى الآن، عنصر التشديد على أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل في الوقت الحالي، وإلى الأبد، لا يمكنها سوى أن تعتمد على نفسها وعلى قوة ذراعها العسكرية. وبموجب كتابات كثيرة بشأن هذا العنصر، توقفنا عند أبرزها الأسبوع الفائت، فإن هذه الخلاصة كانت بمثابة فنارٍ اهتدى به جميع زعماء إسرائيل، بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى نتنياهو.
الصفحة 24 من 48