انطلقت مساء أمس الأحد حكومة بينيت- لبيد التناوبيّة برئاسة نفتالي بينيت، رئيس حزب "يمينا" (من الصهيونية الدينية)، بعد أن حظيت بثقة 60 عضو كنيست ومعارضة 59 عضواً وامتناع عضو واحد عن التصويت. وتستند هذه الحكومة إلى ائتلاف مكوّن من ثمانية أحزاب بما في ذلك حزب عربي (القائمة العربية الموحدة التي تمثل الحركة الإسلامية- الجناح الجنوبي).
وحرص بينيت في أول خطاب له كرئيس للحكومة ألقاه أمام الكنيست، على أن يظهر بالمظهر الذي سبق أن أكده مراراً وتكراراً وهو أنه أكثر يمينية من رئيس الحكومة المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو بدرجات. ومعروف أن بدايات بينيت كانت مع حزب الليكود الذي انضم إليه العام 2006، وشغل العام 2007 منصب رئيس حملة نتنياهو لانتخابات الليكود الداخلية. وعارض بينيت تجميد الاستيطان في الأراضي المحتلة منذ 1967، وفي العام 2010 شغل منصب المدير العام لـ "مجلس مستوطنات يهودا والسامرة" (الضفة الغربية). وفي العام 2012 انتخب رئيساً لـ"البيت اليهودي"، حزب الصهيونية الدينية. وخلال الأزمة السياسية الإسرائيلية الأخيرة المستمرة منذ أكثر من عامين، استقال وزميلته أييلت شاكيد من حزب "البيت اليهودي"، وأقاما حزب "اليمين الجديد"، ثم حزب "يمينا" الحالي. واعتبر تأسيس حزب جديد قبل أي شيء بمثابة اعتراف من جانبهما بوجود سقف زجاجي انتخابي قطاعي لحزبهما السابق. ووفقاً لما كتبه كذلك بعض المحللين الإسرائيليين، أدرك كلاهما عدم وجود عدد كاف من الإسرائيليين المعنيين بشراء السلعة الأيديولوجية للصهيونية الدينية المكونة من التطرّف السياسي، والمسيانية، والعنصرية، وكراهية المثليين. ولكن ذلك لا يدلّ على أنهما أصبحا معتدلين سياسياً، أو أنهما غادرا خانة اليمين المتطرّف.
بغض النظر عن أي نتائج ناجزة، من المؤكد أنها لن تظهر إلا في المستقبل، سجلت القائمة العربية الموحدة تحت قيادة النائب منصور عباس سابقة خطرة بتوقيعها في الأيام الأخيرة اتفاقاً ينصّ على دخولها إلى الحكومة الإسرائيلية الأكثر هُجنةً التي توشك أن تتسلم مقاليد الحكم، في حال عدم ظهور عقبات تعرقل ذلك في آخر لحظة، وهي حكومة لا يجمعها جامع أكثر من هدف إطاحة بنيامين نتنياهو، ووضع حدّ لحكمه المستمر منذ العام 2009.
وتؤكد القائمة الموحدة أن دوافعها براغماتية، غير أن سلوكها ينطوي في العمق على تجاهل لخصوصية الفلسطينيين في إسرائيل حتى لدى التعامل معهم باعتبارهم أقلية، وهي خصوصية ناجمة عن كونهم أقلية وطن وليسوا أقلية مهاجرين، وعن كونهم جزءاً من الشعب الفلسطيني، والحل العادل لقضيتهم لا يمكن أن يكون سوى جزء من الحلّ الكليّ لقضية فلسطين.
في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" ثمة تركيز خاص على علاقة إسرائيل والأكثرية اليهودية فيها بالفلسطينيين في الداخل، وذلك بعد أن أعادتهم الهبّة الشعبية الفلسطينية المتدحرجة إلى صدارة الاهتمام مرة أخرى.
وهو تركيز نقوم به من زاويتين، مع العلم بأنه ممكن أيضاً من زوايا عديدة أخرى: الأولى، زاوية النظرة الإسرائيلية العامة حيالهم والتي لا تنفك ترى فيهم بمثابة عدو داخلي وطابور خامس ومثار قلق استراتيجي، ما يستلزم استمرار التعامل معهم بمقاربة أمنية فقط. والزاوية الثانية، هي التنائي عن الاستثمار في التربية على مناهضة العنصرية حيال الفلسطينيين والعرب عموماً، كما تثبت ذلك التقارير الإسرائيلية الرسمية على نحو دوري، بما يخدم تكريسها ضدهم كجنس بشري أدنى، غير مستحق لأي حقوق جماعية. وبموجب ما يقرّ به حتى عدد كبير من الباحثين الإسرائيليين فمن الخطأ الجسيم الاعتقاد بأن المؤشرات إلى تغلغل فكرة دمج فلسطينيي الداخل في الاقتصاد الإسرائيلي داخل صفوف جهات مسؤولة كثيرة بمن فيها بعض صناع القرار، من شأنها أن تنطوي على مؤشر إلى استبطان فكرة استحقاقهم حقوقا جماعية. وهذا ما يؤكده مثلا المقال الخاص المترجم في هذا العدد لأحد هؤلاء الباحثين.
عند تلخيص جولة المواجهة الأخيرة مع إسرائيل تطالعك الكثير من التحليلات الإسرائيلية، بما في ذلك تحليلات لأشخاص متخصصين في الشؤون الأمنية، لا تتماهى مع البيئة الرسمية المحيطة، السياسية والأمنية، وترى إلى الواقع بعينٍ ثاقبةٍ وتسعى لأن تنزع عنه أوراق التوت بغية كشف علله.
ونقصد بهذا الكلام سيلاً من التحليلات خلص في شبه إجماع إلى أن نتائج تلك الجولة من ناحية إسرائيل، حتى على الصعيد العسكري، لم تكن في المستوى الذي أرادته وعملت من أجل الوصول إليه. وزاد الصورة العامة لتلك النتائج كآبة، كما أشير في أكثر من تحليل، أن الجمهور العريض في إسرائيل بقي مُحبطاً من استمرار المقاومة في قطاع غزة في إطلاق الصواريخ، ومن عجز الجيش الإسرائيلي عن منع ذلك، ومن عدم تحقيق ما يوصف بأنه انتصار إسرائيلي واضح وقاطع. وبموجب أحد التحليلات، ففي الاستديوهات المفتوحة في قنوات التلفزة المتعددة اعتُبر كل إطلاق جديد لصواريخ المقاومة علامة على إخفاق الجيش الإسرائيلي في ضرب الفصائل الفلسطينية.
يتفق جلّ المحللين الإسرائيليين على أن أكثر صفة تليق بجولة الكفاح الفلسطينية الحالية التي انطلقت من مبدأ حماية القدس وأهلها وممتلكاتهم، وسرعان ما استقطبت كلا من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48، هي كونها جولة مفاجئة، وبالذات فيما يتصل بتدحرجها ووصولها إلى داخل إسرائيل.
وبمتابعة سريعة يمكن أن نستشف من هذه التحليلات أن ما استدعى الالتجاء إلى هذه الصفة هو واقع أن إسرائيل تعاملت مع قضية فلسطين في الآونة الأخيرة كما لو أنها قضية منسية لا من طرفها فقط إنما من جهة أطراف أخرى كثيرة ذات صلة بينها أطراف عربية، بالإضافة إلى أطراف دولية، وكل ذلك في وقت كانت الساحة العالمية عرضة لمواقف إدارة أميركية (سابقة) متماهية مع سياسة اليمين الإسرائيلي وروايته التاريخية ورمت بكل ثقلها لجرّ أطراف كثيرة لتسوية قضية فلسطين وفق خطة هي إلى تصفيتها أقرب، عرفت إعلامياً باسم "صفقة القرن". وأمكن ملاحظة هذا التعامل الإسرائيلي مع قضية فلسطين أيضاً، من خلال الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تشهدها إسرائيل منذ أكثر من عامين وتتسم أكثر شيء بما يشبه غياب الجدل السياسي حيال موضوعات كانت تحضر بقوة في الأزمات السياسية السابقة ولا سيما في جولات الانتخابات، وفي مقدمها قضايا الاحتلال والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ومستحقات عملية التسوية.
وضعت حادثة الاكتظاظ والتدافع التي وقعت في جبل الجرمق في أواخر نيسان الفائت وأودت بحياة 45 شخصاً من اليهود الحريديم المتشددين دينياً وتسببت بإصابة العشرات منهم بجروح، على نار حامية من الجدل قضيتين نتطرّق إليهما بتوسع في مواد هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي "، وهما: مكانة اليهود الحريديم في الكينونة الإسرائيلية الراهنة، ودور لجان التحقيق المتعددة في إسرائيل، ولا سيما لجان التحقيق الرسمية.
وبخصوص القضية الأولى، وهي الأكثر أهمية، برزت على نحو خاص المقاربة الذاهبة إلى أن الحريديم باتوا في الآونة الأخيرة يحظون بحكم ذاتي آخذ بالترسخ إلى حد اعتبارهم بمثابة دولة داخل دولة، وقارن البعض بين هذه الدولة داخل الدولة ودول أخرى داخلها، على غرار دولة المستوطنين في الأراضي المحتلة منذ 1967 وغيرها.
الصفحة 24 من 45