ذهاب إسرائيل إلى خمس حملات انتخابية في غضون ثلاث سنوات ونصف السنة، هو تعبير واضح عن أزمة سياسية تتعمّق جذورها أكثر فأكثر، مع حلول كلّ مرّة تضطرّ فيها الكنيست إلى حلّ نفسها. وفقاً للقراءات الإسرائيلية السائدة، فإنه منذ 20 عاماً لم تكمل أية حكومة في إسرائيل كامل دورتها المنصوص عليها في القانون، 4 سنوات (48 شهراً بالتحديد).
لكن من المهم التدقيق في الحقيقة التالية: حتى الحكومة الأخيرة التي يشير إليها عادة المحللون والدارسون الإسرائيليون بوصفها حكومة قضت دورة زمنية كاملة، العام 1992، هي بالذات الحكومة التي تم فيها اغتيال رئيسها إسحق رابين برصاص عنصر مسلّح يميني (وقد استبدله شمعون بيريس). كذلك، فإن كل الحكومات التي سبقت الحكومة التي شُكلت العام 1992، عودةً إلى العام 1981، لم تنه أيّ منها كامل دورتها. فحكومة مناحيم بيغن الثانية التي شكلها بعد انتخابات الكنيست العام 1981 لم تكمل دورتها، ثم جاءت حكومة إسحق شمير العام 1983 وسقطت بعد عشرة أشهر فقط، ثم جاءت حكومات التناوب بين شمير وبيريس التي تفككت مرة بعد الأخرى، وصولا إلى حكومة شمير التي شكلها العام 1990 وسقطت بعد مرور سنتين.
بموجب الموقع الرسمي للحكومة، تُجرى انتخابات الكنيست مرة كل أربع سنوات في يوم الثلاثاء من شهر "حِشڤان" حسب التقويم العبري من السنة التي تتم فيها ولاية الكنيست المنتهية ولايته إذا أكملت فترة ولاية كاملة. يمكن للكنيست أن تنحل قبل انتهاء فترة 4 سنوات، بموجب قانون أقره غالبية أعضاء الكنيست (61 عضو كنيست). أما انتخابات الكنيست التي تم تبكيرها فهي: دورة انتخابات الكنيست الثاني، الكنيست الخامس، الكنيست العاشر، الكنيست الحادي عشر، الكنيست الـ 13، الكنيست الـ 14، الكنيست الــ 15، الكنيست الـ 17، الكنيست الـ 18، وتم تقديم موعد انعقاد الكنيست الـ 23 والكنيست الـ 24 وموعد الانتخابات للكنيست الـ 25 بمبادرة من الكنيست نفسها.
ينطبق على هذا الوضع التعريف المتعارف عليه في أدبيّات العلوم السياسية لمفهوم انعدام الاستقرار السياسي. وهو يُقاس، إلى جانب طغيان الاقتتال والعنف والفوضى، والتقلّب الحاد والسريع في الخطط والسياسات الحكومية، أيضاً بمدى ثبات أجهزة وهيئات وشخصيات ووظائف الحكم في كامل ولاياتها التي انتخبت لإشغالها. هذه الأزمة وعدم الاستقرار المستمر في إسرائيل، له عدة أثمان سياسية واقتصادية مختلفة، ولكن هناك ثمن محدد مباشر متعلق بتكلفة تكرار حملات الانتخابات، وخصوصاً في السنوات الأخيرة.
15 مليار شيكل تكلفة 5 انتخابات في ثلاث سنوات ونصف السنة
فيما يتجاوز التركيز على تكلفة الانتخابات الراهنة (الكنيست الـ 25)، ذهبت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى حساب تكلفة حملات الانتخابات الخمس الأخيرة، ويتبيّن أنها تكلفة باهظة جداً، سواء بحدّ ذاتها أو حين تقارَن بميزانيات كان يُفترض أن تخصص وتصرَف على قضايا ومطالب واحتياجات قطاعات اجتماعية مختلفة، لكن حملات الانتخابات اقتنصتها.
فقد كتبت الصحيفة تحت عنوان "15 مليار شيكل تكلفة 5 انتخابات في ثلاث سنوات ونصف السنة"، أن هذا المبلغ الهائل يساوي: 4 أضعاف الزيادات في الرواتب التي وعد بها المعلمون بعد شهور من المفاوضات؛ 15 ضعف تكلفة الزيادات في الرواتب اللازمة للاتفاق مع الأطباء المتدربين؛ هذا هو الثمن الباهظ للحملات الانتخابية التي جرت خلال انعدام الاستقرار السياسي المستمر في إسرائيل". وتابعت: "الانتخابات تكلف الأموال، الكثير من الأموال، وبالتأكيد خمس حملات انتخابية في حوالي ثلاث سنوات ونصف السنة. جميع المصاريف والأضرار التي لحقت بالاقتصاد في انتخابات واحدة تقدرها وزارة المالية وقطاع الأعمال والصناعيون والغرف التجارية بثلاثة مليارات شيكل، بما في ذلك تكلفة يوم العطلة (جميع القطاعات تخرج إلى عطلة في يوم الانتخابات). وهكذا فإن الفاتورة النهائية المقدمة لجهاز الاقتصاد والجمهور هي حوالي 15 مليار شيكل. ولنتذكر أن هذه هي تكلفة إجراءات الانتخابات نفسها فقط، وليس التكاليف المصاحبة نتيجة لقرارات تأخر تطبيقها، على سبيل المثال، أثناء الحكومة الانتقالية وغيرها".
قارنت الصحيفة الاقتصادية "ذي ماركر" التابعة لمجموعة "هآرتس" بين الميزانية الحالية والميزانيات قبل عدة سنوات. وكتبت أن ميزانية لجنة الانتخابات المركزية لانتخابات الكنيست الخامسة والعشرين تبلغ 538.3 مليون شيكل – وقد تم تأكيد ذلك من قبل لجنة المالية في الكنيست. بينما بلغت ميزانية الانتخابات السابقة، التي أجريت العام 2021، نحو 647 مليون شيكل، لكن 230 مليون شيكل منها كانت مخصصة لتمويل الاستعدادات الخاصة التي رافقت انتشار فيروس كورونا، وبشكل أساس، تمويل مراكز الاقتراع الخاصة. ولو تم إخراج تلك الأموال المتعلقة بالوباء، فإن معنى الميزانية الجديدة هو زيادة 90 مليون شيكل في ميزانية لجنة الانتخابات الأساسية (زيادة بلغت حوالي 20%)، الأمر الذي أثار انتقادات في وزارة المالية.
في الثالث والعشرين من تشرين الأول صادقت لجنة المالية التابعة للكنيست على اقتراح ميزانية لجنة الانتخابات المركزية للكنيست الخامس والعشرين بقيمة 538 مليون شيكل، من بينها مبلغ 23 مليون شيكل كمصروفات كورونا، 153 مليون شيكل كأجور للعاملين في يوم الانتخابات وهي تمثل 28% من ميزانية لجنة الانتخابات.
ولا تتضمن الميزانية التي تمت المصادقة عليها الميزانية الجارية للجنة الانتخابات المركزية لسنة 2022، بقيمة 45 مليون شيكل والتي تمت المصادقة عليها في تشرين الثاني 2021.
منذ انتخابات 2019 قفزت ميزانية لجنة الانتخابات بحوالي 82%
لفت ممثلو وزارة المالية الذين كانوا حاضرين في جلسة لجنة المالية تلك الانتباه إلى أنه منذ انتخابات 2019، قفزت ميزانية لجنة الانتخابات من 283 مليون شيكل إلى 515 مليون شيكل (ارتفاع بحوالي 82%). وقال ممثل المالية: "نحن لسنا الجهة المهنية التي تبحث أو تصادق على تفاصيل الميزانية، بهذا الموضوع هناك صلاحية كاملة للجنة الانتخابات، لكننا نرى أن هناك ثمة زيادة كبيرة في ميزانية اللجنة، وإذا نظرنا إلى ميزانية انتخابات الكنيست الحادية والعشرين فإن الميزانية قد وصلت إلى 281 مليون شيكل، أي ان الحديث يدور حول زيادة بنسبة 82%، وإذا نظرنا إلى الانتخابات السابقة فإن الحديث يدور حول زيادة بقيمة 70 مليون شيكل".
هذا النقد الضمني أثار توتراً، وعلّقت إدارة لجنة الانتخابات أن هذه الزيادة تنبع من عدة عوامل، أهمها: تمديد فترة التحضير للانتخابات من ثلاثة أشهر إلى أربعة أشهر - مما ساهم في زيادة تكاليف الانتخابات؛ أجور الموظفين وتشغيل مركز الاتصال؛ الذهاب إلى الانتخابات في وقت قصير مما يؤثر على العقود مع مزوّدي الخدمات والمواد ذات الصلة؛ إنهاء عقود مع مقدمي خدمات الأمن والحراسة والتحول إلى عقود أكثر تكلفة؛ تحديث رواتب أساسي بنسبة 6.5% لجميع العاملين في الانتخابات البالغ عددهم 1150 موظفا، وغيرها.
وفقاً لبروتوكول هذه الجلسة: للمقارنة، فإن اقتراح ميزانية انتخابات الكنيست الرابع والعشرين قد وقفت على 675 مليون شيكل من بينها مبلغ 231 مليون شيكل كمصروفات كورونا وأيضا ميزانية جارية للجنة الانتخابات عن سنة 2021 بقيمة 19 مليون شيكل. ومن هذه الميزانية تم فعليا صرف مبلغ 550 مليون شيكل. المديرة العامة للجنة الانتخابات المركزية المحامية أورلي عداس قالت إن تقديم اقتراح الميزانية في موعد قريب من موعد الانتخابات، ينبع من البرامج الزمنية المكتظة للجنة الانتخابات المركزية.
وحول الفجوة بين ميزانية انتخابات الكنيست الرابع والعشرين وانتخابات الكنيست الخامس والعشرين، مع خصم مصروفات كورونا والميزانية الجارية للجنة الانتخابات ضمن الميزانية السابقة للجنة، أشارت عداس إلى الغلاء في تكاليف الإيجار وزيادة المصروفات الخاصة بمواضيع الحراسة والأمن، وكذلك إلى عدد ساعات العمل والتعريفة، وأيضا استعمال 16 مليون شيكل من الأموال الاحتياطية التي لم تقم لجنة المالية في الانتخابات الرابعة والعشرين بالمصادقة عليها، في ضوء الزيادة الكبيرة في ميزانية اللجنة. كما ذكرت أنه تم تسجيل ارتفاع في أجور كل من يعمل كسكرتير صندوق في ضوء متطلبات الوظيفة، وأيضا تحديث أجور كافة العاملين بموجب تحديث المؤشرات المالية.
وتطرقت عداس لموضوع المقارنات مع الانتخابات السابقة فقالت: "بخصوص المقارنة مع انتخابات الكنيست الحادية والعشرين، هذا الأمر يشبه إجراء مقارنة ميزانية وزارة المالية مع ميزانيتها قبل 16 عاما، فقد مررنا منذ انتخابات الكنيست الحادية والعشرين بقفزة تشبه 16 سنة، فعدد الصناديق قد تطور بشكل لا يشابه ما كان قبل 16 سنة، ومشروع طهارة ونزاهة الانتخابات وحده يكلف ميزانية اللجنة 70 مليون شيكل. أستطيع أن أمنح الكثير من الأمثلة، وكل بند فيها يصل إلى عشرات ملايين الشواكل".
تكاليف تعطيل ستة أيام انتخابات في السنوات الأخيرة، 16.8 مليار شيكل
يقول تقرير لجنة الانتخابات إنه إلى جانب 45 موظفا ثابتا في لجنة الانتخابات المركزية، يعملون على مدار العام، فإن لجنة الانتخابات المركزية تتحول في كل فترة انتخابات إلى منظومة تضم 26 ذراعا- 20 لجنة انتخابات لوائية و6 لجان فرعية، يتم تشغليها من قبل 1100 موظف، وضمن إطار ذلك يتم إقامة أكثر من 12.600 صندوق انتخابات من أنواع مختلفة في جميع أرجاء البلاد في يوم الانتخابات. ويتم إشغال الصناديق من قبل 60 ألف صاحب وظيفة وأكثر من 70 ألف عضو لجان صناديق. وبالمعدل، تصل تكلفة التصويت لكل ناخب في هذه الانتخابات إلى 78.83 شيكل وذلك بحسب عدد أصحاب حق الاقتراع حتى يوم موعد إعداد الميزانية – 6.788.804 ناخبين.
تبيّن في بحث أجراه قسم الاقتصاد في "اتحاد ارباب الصناعة" أن تكاليف يوم الانتخابات التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي جراء تعطيل العمل خلال هذا اليوم قد بلغت 1.9 مليار شيكل للمصالح التجارية، أي القطاع الخاص، وحوالي 0.9 مليار شيكل للقطاع العام. حيث يبلغ المجموع الكلي لهذه التكاليف 2.8 مليار شيكل، في حين أن مجموع هذه التكاليف بسبب تعطيل ستة أيام من الانتخابات في السنوات الأخيرة (وهي 5 أيام انتخابات قطرية ويوم انتخابات إضافي للسلطات المحلية) يعادل 16.8 مليار شيكل.
قال اتحاد أرباب الصناعة في بيان رسمي إنه "يجب إلغاء العطلة خلال يوم الانتخابات، فهذا اليوم تحول خلال السنوات الأخيرة في أعقاب عدم الاستقرار السياسي إلى عبء اقتصادي هائل وغير عادل على أكتاف ارباب العمل والمُشغّلين. يوم العطلة يؤدي إلى تبذير الأموال دون فائدة في الاقتصاد، ويمس بشكل كبير بالمصالح وأرباب العمل، وخصوصاً في ظل تكرار الانتخابات في السنوات الثلاث الأخيرة في خضم فترة مليئة بالتحديات الاقتصادية".
لزيادة حدّة هذه المسألة يمكن الإشارة إلى أنه في استفتاء استعداداً للانتخابات أجراه معهد "غيوكرتوغرافيا" لصالح جريدة "دفار" التابعة للهستدروت، فإن 60.5% من الناخبين في الانتخابات المقبلة يريدون أن تتصدى الحكومة المقبلة للزيادة في أسعار المنتجات الغذائية، و49% يتوقعون منها أن تعالج أسعار المساكن، و38.7% يريدون منها خفض الضرائب. المفارقة طبعاً أن جميع هذه المطالب ربما لا تصل تكاليفها إلى حجم الأموال الهائل الذي صُرف في ثلاث سنوات ونصف السنة على خمس معارك انتخابات. والمفارقة الأشدّ أن الجمهور الإسرائيلي يعيد انتخاب نفس الأحزاب المسؤولة، بالممارسة الفعلية، عن ارتفاع الأسعار، وموجات الغلاء، وأزمة السكن وغيرها.