مع استمرار الاحتجاجات التي تشهدها إسرائيل منذ عدة أسابيع والتي يدفع مؤججوها نحو رفع المزيد من الأصوات في الوقت عينه ضد الأزمتين الصحية والاقتصادية الناجمتين عن تفشي فيروس كورونا، وضد أداء حكومة بنيامين نتنياهو الخامسة، والذي يتم تحت وطأة كون رئيسها يخصص جلّ وقته لهدف واحد فقط: بقاؤه بأي ثمن (اقرأ مقال برهوم جرايسي ومقال سليم سلامة)، شرع عدد من المحللين بطرح سؤال حول ماهية التغيير المرتقب في حال تأدية هذه الاحتجاجات إلى انتهاء عهد نتنياهو المستمر منذ أكثر من عقد.
تسلط أغلبية مواد هذا العدد الأسبوعي من "المشهد الإسرائيلي" الضوء على المُستجدات التي تراكمت في إسرائيل ترتباً على استمرار تداعيات أزمة فيروس كورونا، وفي مقدمها الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية الآخذة بالتأجج على خلفية هذه التداعيات.
ولعل أكثر ما ارتأينا الالتفات إليه في الوقت الحالي هو وجود نوع من التناغم أو الربط بين الاحتجاجات ضد الأزمتين الصحية والاقتصادية والاحتجاجات التي تربط بين هاتين الأزمتين وأداء حكومة بنيامين نتنياهو الخامسة، والواقع تحت وطأة كون رئيسها يخصص جلّ وقته لهدف واحد فقط: بقاؤه بأي ثمن، كما سبقت لنا الإشارة إلى ذلك.
هناك أكثر من سبب للاعتقاد بأن الأيام الراهنة ترسم أولى إشارات بداية نهاية عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المستمر منذ أكثر من عقد، وهو ما ركزنا عليه في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي"، بواسطة تسليط الضوء بشكل أساس على التداعيات الاقتصادية- الاجتماعية المترتبة على أزمة فيروس كورونا والتي بلغت آماداً حادّة.
لعل أبرز هذه الأسباب هو انطلاق حملة احتجاج مُرشّحة لأن تتصاعد ضد هذه التداعيات؛ حتى إن كانت تعيد إلى الأذهان إلى حدّ كبير حملة الاحتجاج الاجتماعية التي شهدتها إسرائيل العام 2011 وفشلت في تحقيق مبتغاها، فهي أشدّ قسوة وعمقاً كونها متأتية عن حراك "جمهور يختنق ولم يعد قادراً على التنفس"، كما وصفتها صحيفة "هآرتس"، مؤكدة أنه من غير الممكن إسكاتها ولا حتى بواسطة الشرطة وعنفها.
هذا هو أول عدد من ملحق "المشهد الإسرائيلي" بشكله الإلكتروني الجديد، وبالتلازم مع موعد صدور أسبوعي ثابت هو كل يوم اثنين مع محاور الاهتمام نفسها، ناهيك عما من شأن هذه النقلة الجديدة أن تسمح به من إمكان الخوض في مجالات أخرى.
وسنعمل على أن يواصل هذا المشروع دوره الريادي في قراءة الوقائع الإسرائيلية المتلاحقة ومتابعتها ونقدها وتحليلها من زاوية النظر العربية الفلسطينية، متوخين أن ننجح بتقديمها إلى الجمهور في السياق الصحيح، وأن نساهم في إتاحة الفرصة لإطلالة على مشهد إسرائيلي متنوّع من موقع المتابع والمطلع، المحلّل والمستشرف. ذلك ضروري أولاً ودائماً كي لا نقع في أسر المألوف والسائد.
(1) تتراكم على نحو متواتر، يوماً بعد يوم، مزيد من الوقائع التي تثبت بما لا يدع أي مجال للتأويل أن الذاكرة الإسرائيلية، وأساساً فيما يتعلق بموقف الحركة الصهيونية وممارساتها إزاء الفلسطينيين، تمّ تشييدها كي تكون ذاكرة للتناسي أو لتكرار ما جرى توصيفه ذات مرة بأنه الكذب الإسرائيلي المتفق عليه.
ومن هذه الوقائع الجديدة، وهي ليست الأخيرة بالتأكيد، تلك المرتبطة بالماضي الأسود لمنظمة الهاغناه، أكبر ميليشيا مسلحة صهيونية قبل نكبة العام 1948، والتي حلّت مؤخراً ذكرى مرور 100 عام على تأسيسها في أواسط حزيران 1920. وكانت الهاغناه بمثابة الذراع العسكرية لما يُعرف بـ"حركة العمل" الصهيونية التي تعتبر "الجناح اليساري" للصهيونية.
وبالتزامن مع هذه الذكرى نشر محرر الشؤون التاريخية في صحيفة وموقع "هآرتس"، عوفر أديرت، مقالة استعادت جوانب من ذلك الماضي الأسود جرى إخضاعها لفريضة التناسي، تتمثل خلاصتها في أن هناك كتابة انتقائية لتاريخ هذه المنظمة، نظراً لهيمنة "حركة العمل" في الأعوام الأولى لإقامة الدولة، حيث جرى شطب الملفات القاتمة والإبقاء على واجهة مؤلفة من بطولات ومآثر ومزاعم "طهارة السلاح".
ولا بُدّ من أن نضيف إلى أن تلك الهيمنة التي تمارس الشطب والانتقاء ما كان من الممكن أن تنجح في تشييد تلك الذاكرة من دون أن يتلازم ذلك مع التعاون من جانب الكُتّاب والباحثين حيال فريضة الصمت في السيرورة الرامية في المحصلة إلى بناء "الوعي الذاتي للمجتمع" على أساس الكذب والاختلاق.
خصصنا معظم مواد هذا العدد لموضوعين متصلين:
الأول، موضوع تصعيد هجوم اليمين الإسرائيلي الجديد الحاكم على الجهاز القضائي وفي طليعته المحكمة العليا؛
الثاني، موضوع شبه تبخر "اليسار" بماركته الإسرائيلية المعروفة باسم "اليسار الصهيوني"، وبالأساس على خلفية أدائه المتناقض والمعطوب وما أسفر عنه ذلك من تلاشي التأييد الجماهيري العام تقريباً له، كما أظهرت نتائج آخر جولة من جولات الانتخابات الثلاث التي جرت خلال العام الأخير، شأن ما كانت عليه نتائج الجولتين اللتين سبقتاها.
الصفحة 34 من 48