أول ما ينبغي أن نستنتجه من سيلِ الانتقادات التي وُجِهّت في معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (يوم 27 أيلول 2021) وتجاهل فيه الفلسطينيين وقضيتهم والاحتلال الجاثم على أراضيهم ووطنهم، هو أن قضية فلسطين ستبقى حاضرة بالرغم من كل الظروف المُحيطة بها.
وإذا ما جاز لنا أن نُجمل فحوى تلك الانتقادات فبالإمكان أن نفعل ذلك من خلال العبارات التالية؛ إن تجاهُل بينيت الفلسطينيين في خطابه لن يُزيل القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، ولن يساعد أبداً في التخفيف من ألسنة اللهب إزاء إسرائيل، والتي تصدر عن أصوات تقدّمية في العالم، وحتى في داخل الولايات المتحدة نفسها.
وبديهي أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة بقوة أحياناً، وقد لا تكون كذلك أحياناً أخرى، تحت تأثير عوامل عديدة، منها ما هو موضوعي مُرتبط بالأوضاع الإقليمية والدولية عموماً، ومنها ما هو ذاتي يُحيل إلى الوضع الفلسطيني خصوصاً.
والحقيقة أنّه ومنذ إلقاء الخطاب المذكور لم تتوقّف الانتقادات، وقد كان بعضها بليغاً؛ إذ أشار إلى أن بينيت تجاوز في تجاهله الفلسطينيين حتى رؤساء حكومة سابقين لم يكونوا أقل تطرّفاً منه، مثل أريئيل شارون وبنيامين نتنياهو. وبطبيعة الحال فإن الذين أشاروا إلى مثل هذا الأمر اقتبسوا عن كل من شارون ونتنياهو تأكيدهما، وبالذات لدى ظهورهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن إسرائيل ليست في وارد الاستمرار في حُكم الفلسطينيين بالحديد والنار، ولكن من دون أن يُكلّفوا أنفسهم عناء الخوض في إمكانية ترجمة هذه الأقوال إلى أفعال، ومن دون تحجيم هذا التأكيد، وعبر "النأي بالنفس" عن النظر إليه باعتباره للاستهلاك الخارجيّ فقط.
سأكتفي بالتركيز على مسألتين كانتا بمثابة شبه إجماع في صفوف المُنتقدين لخطاب بينيت أمام الأمم المتحدة في الإعلام الإسرائيلي، وكلتاهما تُؤكّدان على الاستنتاج المذكور أعلاه:
المسألة الأولى؛ ما يُوصف بأنه انقلاب مهم في أوساط واسعة من الرأي العام العالمي ولا سيّما في الغرب لمصلحة الفلسطينيين وقضيتهم. وقد سبق لعدد من الباحثين العرب أن أشاروا إلى أنّ بعض هذا التغيير ناجم، في العُمق، عن أسباب كثيرة من بينها صعود أجيال جديدة أكثر أخلاقية وأقل أيديولوجية في تعاملها مع قضايا العالم. ومن المُلاحظ أن ثمّة تركيزاً كبيراً على ما يجري داخل الولايات المتحدة نفسها والانتقادات الحادّة لإسرائيل وسياستها حيال القضية الفلسطينية وبالأساس في صفوف الحزب الديمقراطي الحاكم في التحليلات الإسرائيلية، كما كشفت قضية تمويل منظومة "القبّة الحديدية" المضادة للصواريخ، على سبيل المثال لا الحصر.
المسألة الثانية؛ تواتر التشديد على أن أحد أهم عناصر قوة القضية الفلسطينية أولاً، وربما دائماً، يكمن في وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وعدم تسليمه بواقع الاحتلال، وعجز الولايات المتحدة وإسرائيل عن فرض إملاءاتهما عليه، حتى في ظلّ الإدارة السابقة في واشنطن برئاسة دونالد ترامب، التي تماهت مع خطاب اليمين الإسرائيلي الجديد وطرحت ما عُرف إعلامياً باسم "صفقة القرن". وما تجدر الإشارة إليه بهذا الشأن، هو أنّ الكثير من التعليقات والتحليلات الإسرائيلية لهبّة الكرامة في أيار 2021، أقرّت- ولو ضمنياً- أن أكثر ما كانت تخشاه هو انبعاث روح فلسطينية جديدة ترفض تجزئة الشعب الفلسطيني وتشظية قضيته، وتتبنّى نهج تفكير يُطالب بصوغ استراتيجية تحرّر لتحقيق العدالة في فلسطين.
استنادًا إلى ما تقدّم؛ إنّ هذه المسألة تُساهم بقدر مُعيّن في إثارة جدل داخل إسرائيل، مفاده أنّ القضية الفلسطينية ليست محصّلة وجود احتلال إسرائيلي في أراضي 1967 فقط، بل قضية لها جذور أبعد وأعمق من ذلك؛ تعود إلى نكبة 1948 وإقامة دولة إسرائيل وما سبق ذلك من صراع الشعب الفلسطيني مع الحركة الصهيونية. وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل أوسع بكثير ممّا تقتضيه هذه الكلمة.