المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نجح السكّان العرب، وللمرّة الأولى منذ إقامة دولة إسرائيل، في التصدّي لمحاولة السلطات الإسرائيليّة، في نهاية العام 1975، القيام بمصادرة متجدّدة لأراضيهم. لقد تمّ ذلك بفضل جملة من الأسباب منها داخليّ ومنها خارجيّ، سأتوقّف من خلال هذه الدراسة عند أهمّها. ويمكن أن نشير بشكل خاصّ إلى الدور الرئيس لتنظيم النشاط السياسيّ ولتوحيد الجهود

نجح السكّان العرب، وللمرّة الأولى منذ إقامة دولة إسرائيل، في التصدّي لمحاولة السلطات الإسرائيليّة، في نهاية العام 1975، القيام بمصادرة متجدّدة لأراضيهم. لقد تمّ ذلك بفضل جملة من الأسباب منها داخليّ ومنها خارجيّ، سأتوقّف من خلال هذه الدراسة عند أهمّها. ويمكن أن نشير بشكل خاصّ إلى الدور الرئيس لتنظيم النشاط السياسيّ ولتوحيد الجهود. فلم تكن هذه المحاولةَ الأولى للتصدّي، ولكنّ ظروفًا موضوعيّة وذاتيّة ساهمت في إجهاض المحاولات الأخرى السابقة. فبعد مصادرة مئات آلاف الدونمات من الأراضي الخاصّة والجماعيّة للسكّان العرب في إسرائيل، حتّى منتصف السبعينيّات، بدأت مؤسّسات الدولة والوكالة اليهوديّة التحضير لحملة مصادرة جديدة في الجليل والمثلّث والنقب منذ نهاية العام 1974. ولكن الظروف الموضوعيّة والذاتيّة للسكّان العرب، حينذاك، ساعدتهم في مواجهة هذه الحملة الجديدة، ممّا أدّى إلى وقوع الحدث: يوم الأرض.

تكمن نقطة بداية هذا الحدث بوصفه ردّ فعل وإنْ تحلّى بدرجة كبيرة من التنظيم السياسيّ. فقد جرى التحضير له مسبقًا، إذ وقفت اللجنة القطريّة للدفاع عن الأراضي والحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ على رأس الناشطين السياسيّين الذين هيّأوا الأجواء والنفوس للحدث، حيث سبقته حملات مكثّفة من التوعية والتنظيم بين السكّان.

وعليه، فقد حدث أن اجتمع الفلسطينيّون مواطنو دولة إسرائيل، في نهاية العام 1975، على رأي موحّد مؤداه التصدّي لسعي مؤسّسات الدولة والوكالة اليهوديّة لنزع وجودهم عن الأرض وطمسه، وذلك في ظلّ سياسة القهر القوميّ والمدنيّ، وهيمنة خطاب التهديد والوعيد، وتعميق الضائقة الوجوديّة في صفوف الفلسطينيّين أفرادًا وجماعة، وكلّ ذلك ربما لدفعهم للرحيل أو، على أقل تقدير، لدفعهم للبقاء في "منطقة الظلّ"، كما اصطلح عليها البعض. فقد بات من الواضح أن منتصف سبعينيّات القرن الماضي تحوّل إلى حلبة صراع مصيريّة بين هذه الفئة الفلسطينيّة وبين دولة إسرائيل ستثمر قاعدة مؤسِّسة للعديد من السمات الجماعيّة والفرديّة للفلسطينيّين وعلاقتها بالدولة.

تأتي هذه الدراسة لتحلّل هذا الصراع وتوضّح ما أثمر عنه، بوصفه نافذة تطلّ على تفاصيل أساسيّة يمكن لها أن تكشف لنا عن سمات مركزيّة على صعيد الثقافة السياسيّة والعلاقة مع دولة إسرائيل وتطلّعات هذه الفئة الفلسطينيّة السياسيّة. إنّ التحليل والتوضيح المشار إليهما لا ينطويان على إشارة إلى جواب قاطع وصريح العبارة، وإنّما للتعريف بالحدث، أوّلاً، وللتدليل على بواطنه وتعقّب خطواته، ثانيًا. ولكن على الرغم من هذا التحفّظ، تميل الدراسة إلى تبنّي نتيجة مُفادها أنّ السكّان العرب، الذين خرجوا من يوم الأرض كأقلّـيّة قوميّة تحمل سمات مركزيّة للتعريف بالـ "مجتمع"، لم يحسموا وجهتهم، على صعيد خطابهم السياسيّ والخيار بين جملة المطالب القوميّة الطابع أو المدنيّة الطابع. وقد اتّسمت السنين القليلة اللاحقة بمحاولاتهم الدمج والجمع والتوفيق وتخفيف حدّة التوتّر القائم بينها.

تتجلّى أهمّـيّة يوم الأرض، سياسيًّا، في كونه انعكاسًا لإرادة جماعيّة للعرب في البلاد، جاء ابتغاءَ التصدّي لمحاولة دولة إسرائيل سلخهم عن أرضهم، من خلال ابتلاع حيّزهم الجغرافيّ والقضاء على بُعدهم المكانيّ كمجموعة سكّانية وقوميّة وكأفراد. يأتي ذلك في ظلّ إبعادهم، أيضًا، عن حيّز المدينة الإسرائيليّة، من جهة، وإقصائهم من تعريف الدولة لذاتها، من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، أدرك السكّان العرب في البلاد أنّ خطوات دولة إسرائيل بمؤسّساتها المختلفة وأذرعها غير الرسميّة (الصندوق القوميّ والوكالة اليهوديّة)، التي ترمي إلى مصادرة أراضيهم وحيّزهم الجغرافيّ، تقوم على أسس قوميّة يهوديّة ("تهويد المكان")، وأنّ هذه المصادرات تستهدفهم كمجموعة قوميّة. بعبارات أخرى، فإنّ دولة إسرائيل تصادر أراضيهم والأراضي المحيطة بهم كونهم عربًا قوميًّا. وفي المقابل، ترفض دولة إسرائيل اندماجهم في المجتمع الإسرائيليّ، وتعمل على تهميشهم في قراهم ومدنهم وبلداتهم، وتضييق حيّزهم المكانيّ في أماكن وجودهم منذ الإعلان عن إقامة الدولة. وهنالك العديد من القوانين والأوامر والأنظمة القانونيّة التي وُضعت في سبيل مصادرة أراضي السكّان العرب، وقد توقّفت أدبيّات كثيرة عند هذه المسألة، ولكن جميعها لم تُولِ لأمر هذه المصادرات أهمّـيّةً تُذكر، حيث جرى التركيز على البعد الماديّ الاقتصاديّ، وأحيانًا، توجّهت لفضح أركان العنصريّة في ممارسة الدولة العبريّة، ولكن لم يُشَر إلى تقويضها للبعد المكانيّ في هُويّة السكّان العرب.

ماذا نعني هنا بتعابير مثل "تضييق الحيّز المكانيّ" في هُويّة الفرد والجماعة؟

أسمح لنفسي هنا بأن أسوق مثالاً يعرض تجربة شخصيّة للتدليل على العامّ ولتبيان أهمّيّة هذا التساؤل، وأنا على ثقة أنّ هذا المثال هو تعبير شخصيّ للعامّ العربيّ الفلسطينيّ في البلاد، في حدود 48، كما هو الحال في حدود 67. كانت التلال والجبال والسهول والوديان المحيطة بالقرى سخنين وعرّابة ودير حنّا مرتعًا لطفولتي ولطفولة بقية أترابي (وُلدتُ في العام 1969). كانت جزءًا لا يتجزّأ من حيّزنا المكانيّ، وكأنّها كانت ملعبنا وحديقتنا الجماعيّة، حيث نرتع ونقطف الورود والأزهار، نطارد الفراشات والحيوانات البرّيّة الصغيرة. كانت في نظرنا جزءًا من بلداتنا وقرانا، حيث كانت خلفيّة البيت وباحته وعتبته. فإن وجبت الإشارة إلى مكان إقامة ومولد أحد منّا قال: "سخنين"، أو "عرّابة"، أو "دير حنّا"، ولكنّه بالطبع لم يعنِ "البيوت" فحسب، وإنّما عَنى البيوتَ بجبالها وتلالها وسهولها ووديانها كذلك. ولكن بعد سنين قليلة، وبعد أن أحاطت المؤسّسة الإسرائيليّة وأذرعها غير الحكوميّة قرانا بالأحراج والمستوطنات اليهوديّة ومعسكرات الجيش والمنشآت الأمنيّة، وبعد أن زرعت الأسلاك الشائكة حولها، أحاطت هذه الأسلاك قرانا أيضًا. وبهذا فقد احتُلّت عتبة البيت وباحته واختفت حدائقه، وابتعدت هذه التلال والجبال والسهول والوديان وابتُلعت وأصبحت تشير إلى "خارج المكان"، إلى خارج حيّز تعريفنا بذاتنا كأفراد وكجماعة. فبعد أن كان "جبل أبو قراد" أو تلّ كذا أو سهل كذا صُلْبَ التدليل على ذاتنا، "داخل المكان"، أصبحت حدود القرية، حدود الذات، هي حدود البيوت القائمة في أطراف القرية، وأصبح التعريف بذاتنا عَبْر الإشارة إلى هذه الحدود. ففي حين كانت هذه الحدود هي نقطة البداية للتدليل على أنفسنا وعن موطننا، أصبحت بعد حين هي نفسها نقطة النهاية. وأصبحت "سخنين" اليوم غير "سخنين" ما مضى، وحتّى أطرافها مهدّدة اليوم بالهدم لكونها "غير قانونيّة" أو "غير مرخّصة". وإن سَلِمَ سهل أو بقعة أرض من خطر المستوطنات والمنشآت العسكريّة، تُركت فيه مخلّفات حربيّة أودت بحياة العديد من الفتية وهدّدت أرواح الجميع؛ وبهذا تحوّل هو الآخر إلى "أرض حرام".

أنشأت السلطات الإسرائيليّة دوائر وهيئات وبرامج لبناء هُويّة "عربيّة إسرائيليّة" للمواطنين العرب في البلاد، مثل الحكم العسكريّ، وهدم المؤسّسات الاجتماعيّة والثقافيّة والقوميّة والسياسيّة (وحتّى النوادي الرياضيّة)، وإقامة جهاز تربية وتعليم خاصّ بالمواطنين العرب، وتقويض أيّ عناصر قياديّة تنشأ بينهم واستقطابها. وفي المقابل، حاولت خلق ودعم قيادات "تقليديّة" بديلة لها، واستحداث آليّات ترهيب وترغيب (مثل: جهاز المخابرات العامّة، والهستدروت، وسوق العمل، وجهاز التربية والتعليم، والتعليم الجامعيّ) تتضمّن محاولات لنزع الثقة والألفة الاجتماعيّة، بواسطة تجنيد عملاء ومخبرين من العرب، وخلق نخبة من التكنوقراطيّين وشريحة من المثقّفين والأدباء والمتعلّمين.

والأهمّ من ذلك، حاولت دولة إسرائيل إلغاء البعدين الزمانيّ والمكانيّ وانتزاعهما من الهُويّة الذاتيّة والجماعيّة للفلسطينيّين في إسرائيل عبر سلسلة من الإجراءات والنشاطات الاستيطانيّة والتربويّة بمختلف الأوجه. ونعني هنا من وراء هذين التعبيرين إلغاء البعد المكانيّ من الهُويّة الذاتيّة والجماعيّة الفلسطينيّة في إسرائيل وتفريغها من البعد التاريخيّ، بحيث تجري بلورة وعي ذاتيّ فرديّ وجماعيّ بين العرب في البلاد مفاده أنّهم وُجدوا على هذه الأرض دون المرور بالتاريخ الحديث لفلسطين، وأنّهم يعودون بوعيهم إلى جزيرة العرب. إنّ وعيهم التاريخيّ لا يمكنه التعرّف حتّى على فترة الانتداب وما بعد "سايكس بيكو"، وكأنّنا أمام حالة من وجود فراغ في الوعي لا يمكنه تفسير وجود العرب في هذه البلاد.

يُعتبر المحوران التاريخيّ والمكانيّ من المحاور المركزيّة في تصوّر الإنسان لذاته، وهُويّة المجموعة لذاتها، وبخاصّة كما ينعكس ذلك في الفكر القوميّ واصطلاحاته. الزمان والمكان هما، إذًا، بعدان مركزيّان في هُويّة الإنسان والجماعة. وقد كانت دولة إسرائيل، بمؤسّساتها المختلفة والدوائر اليهوديّة غير الحكوميّة، ولا تزال، تحاول تقويض هذين البعدين في الهُويّة العربيّة، وتعزيزهما في هُويّة اليهود، وذلك من خلال الاستعانة بمختلف الخطط والإجراءات والنشاطات الاستيطانيّة والتربويّة. وقد استعملت دولة إسرائيل مناهج التربية والتعليم لتنفيذ هذا التفريغ وهذا الشحن. إنّ نظرة سريعة على هذه المناهج، المخصّصة للطلبة العرب، تكشف لنا عن محاولة إسرائيل تجريدَ هُويّة الإنسان العربيّ فردًا وجماعةً من البعدين المكانيّ والزمانيّ، فيعود الفرد العربيّ بوعيه إلى جوّ صحراء جزيرة العرب في القدم، ولا يتعرّف على الزمان الحاضر والمكان المحلّي ومكانته فيهما. إلاّ أنّ هنالك محاولات فلسطينيّة، وإن كانت متواضعة، لمواجهة هذا المخطّط. ولأنّ الحقول الجماليّة بتعدّد أطيافها تستبق دومًا الحقول الفكريّة، حيث إنّها تقوم على محاولات لاستشراف السيرورة المستقبليّة، يتغنّى كل من الشعر والفنّ الفلسطينيّين بارتباط الإنسان الفلسطينيّ بالمكان والزمان. يتألّق شعر محمود درويش في رسم العلاقات بين الزمان والمكان والذات الفرديّة والذات الجماعيّة، حيث يبدع في تصوير العلاقة الجدليّة بينها مستخدمًا خيوطًا جماليّة. وقد حاولت في دراسة سابقة - "حول تهويد المكان"- أن أطرح أهمّيّة البعدين المكانيّ والزمانيّ في هُويّة وصيرورة الفلسطينيّين في إسرائيل، والتركيز على البعد المكانيّ، وذلك من خلال نافذة "تغييب المكان" الفلسطينيّ وخلق هُويّة يهوديّة له. سوف أعاود معالجة هذا الطرح مجدّدًا من خلال تناولي لـِ "يوم الأرض"، كنافذة سأحاول من خلالها بجلاء أكثر ولكن ليس وافيًّا لضيق المجال، وهنالك حاجة ماسّة لدراسات عديدة للكشف عنه وتبيان دلالاته وإسقاطاته المختلفة. كما حاولت أن أعتمد في دراستي السابقة على مقولة أنّ الطرح القوميّ يقوم على المزج والجمع بين محوري الزمان والمكان مع البعد البشريّ؛ أمّا الطروحات التي تتّخذ الليبراليّة أو الماركسيّة ركيزة لها (والعلوم الاجتماعيّة هي كذلك)، فإنّها بهذا تجرّد الإنسان، بدون أدنى شكّ، من هذين البعدين. وبما أنّ خطاب دولة إسرائيل مع مواطنيها ومع الرأي العامّ يقوم على الأيديولوجيا الصهيونيّة، وهي أيديولوجيا تقوم على الخطاب القوميّ، فإنّ محاججتها من خلال خطاب لا يتّخذ من الخطاب القوميّ ركيزة له لا يمكن أن يتقاطع معها. وقد ظهر في الأعوام القليلة الماضية خطاب أكاديميّ جديد يطلق عليه اسم "الخطاب الأصلانيّ"، يبتغي إعادة الإنسان، فردًا وجماعةً، إلى مكانه وزمانه، واستعادة الإنسان مكانته، بعد أن سلبتها المنظومةُ المعرفيّةُ الحديثةُ القائمةُ على الأطر الليبراليّة والماركسيّة.

تضييق حدود الهُويّة والحيّز المكانيّ

هناك بعض القوانين التي من شأنها تسليط الضوء على مسألة تضييق حدود الهُويّة والحيّز المكانيّ على السكّان العرب في البلاد، وبخاصّة ذاك الأمر القانونيّ الذي يتلخّص في ما يسمّى بـِ "أمر الأرض" (تنظيم سند الملكيّة). فبعد أن شرعت السلطات العثمانيّة بوضع تنظيم للأراضي في فلسطين في مطلع القرن العشرين، جاءت الحرب العالميّة الأولى وقوّضت هذه العمليّة، واستمرّت بها السلطات الانتدابية لاحقًا. ظهر هذا الأمر ضمن مجموعة القوانين الإسرائيليّة لـ"ينظّم" مسألة ملكيّة الأراضي والحقوق عليها في المناطق التي سجّلت بشكل إشكاليّ. وينصّ هذا الأمر على أنّ جميع الأراضي التي ليست عليها أيّة حقوق قانونيّة شخصيّة ستسجّل باسم الدولة. وهذا يعني أن الأراضي التي كانت تعتبر في السابق أراضي تابعة جماعيًّا لأبناء القرية ومستعملة للرعي، وللزراعة الانتشاريّة، وللبناء والسكن كذلك، أصبحت تسجَّل منذ سَرَيان هذا القانون باسم الدولة. علاوة على ذلك، في حين كانت الأراضي المصنّفة للاستعمال العامّ، والواقعة تحت تصرّف أهل القرية أو المدينة، تسجّل باسم شركة تمثّل هؤلاء السكّان، بموجب أمر الأراضي (تنظيم سند الملكيّة)، فبموجب المادّة 154 من قانون الأراضي، ستكون هذه الأراضي التي لا تقع في حدود القرية أو المدينة مسجّلة باسم الدولة. ينصّ قانون أملاك الدولة- 1951 على أنّ جميع أراضي الحكومة البريطانيّة ستسجّل باسم الدولة. زد على ذلك أنّه بموجب القانون الأساس: أراضي إسرائيل، لا يمكن في أيّ حال من الأحوال نقل ملكيّة قطعة أرض معرَّفة كجزء من "أراضي إسرائيل". ويشمل التعبير "أراضي إسرائيل" جميع الأراضي التابعة للدولة، سلطة التطوير والصندوق القوميّ اليهوديّ.

بغيةَ فهمٍ أعمق لسيرورة الفلسطينيّين في البلاد، لا بدّ من العودة إلى النكبة وما خلّفته في النفوس، وإلى السنين الأولى لخضوعهم للسيادة الإسرائيليّة واستقصاء آثارها على صعيد الثقافة السياسيّة. فقد ابتُليَ الشعب العربيّ الفلسطينيّ في العام 1948 بنكبة إنسانيّة على جميع المستويات، فرديّة وجماعيّة، أفضت إلى تقطيع أوصاله كشعب وككيان اجتماعيّ سياسيّ، وإلى بعثرة شرائحه الثقافيّة ونخبه، وهدم مؤسّساته السياسيّة وركائزه الاقتصاديّة، وخسارة وطنه باحتلاله وتوطينه بمهاجرين أتوا إليه من شتّى أنحاء المعمورة. فقد اندثر الكيان السياسيّ للشعب الفلسطينيّ، وتهدّمت بُناه الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقُضِيَ على نُخبها، واقتُلع سكّان فلسطين من قراهم ومدنهم وشُرّدوا في بقاع الأرض. وقد حصل ذلك عند بداية تشكّل الكيان الفلسطينيّ، على صُعد عدّة، منها الاجتماعيّ والوعي والتنظيم السياسيّان بمفهومهما الحديث. وبإيجاز يمكن وصف ما جرى للشعب الفلسطينيّ في النكبة على أنّه حدثٌ أخرجهم من دائرة الزمان والمكان، كما يخبرنا المؤرخ الفلسطينيّ إلياس صنبر. ويمكن الادّعاء أنّ النكبة هي بمثابة كارثة فلسطينيّة على جميع المستويات، شبيهة إلى حدّ بعيد بما يصطلح عليه علماء النفس باسم "الثقب الأسود" - ذلك الرحم الأولى أو الدوّامة العظيمة الجاذبيّة والتي من غير الممكن فكاك أيّ شيء منها إذا دخل في مجال تأثيرها- بحيث تجتذب كلّ الذكريات التي تحيط بها وتصطادها، ولكن لا يمكن الإمساك بها أو الإشارة إليها بكاملها، وذلك أنّها كائنة في وجدان الناس وسيرورتهم الذاتيّة والجماعيّة. وقد حلّت النكبة بالفلسطينيّين في نقطة بداية تكوّنهم كشعب وككيان سياسيّ يحمل هُويّة قوميّة؛ وتحوّلت النكبة إلى أساس للذاكرة والهُويّة الفلسطينيّتين، كما تتمفصل الهُويّة الفلسطينيّة حول "تجربة السلب والغربة".

إلى جانب ذلك، تمكن الإشارة، كذلك، إلى هيمنة نظرتين متناقضتين تجاه النكبة بين الفئة السكّانيّة التي سنحت لها الظروف الموضوعيّة أن تبقى في حدود جزء من وطنها المحتلّ في العام 1948: تقوم النظرة الأولى على اعتبارها حدثًا كونيًّا فوق تاريخيّ لا يمكن تفسيره بمفاهيم بشريّة وتاريخيّة، تلائم - إلى درجة بعيدة- مفهوم "الثقب الأسود"، وهو قائم في وجدان الفرد والجماعة وغالبًا ما ينوجد في الإدراك اللاواعي؛ أمّا النظرة الثانية، فلا توليها أهمّـيّة كبرى، وتراها حادثًا عرضيًّا أو مرحلة سيّئة عابرة ومؤقّتة ستزول عمّا قريب. أصحاب النظرة الأولى تنكّروا للنكبة ولم يتعاملوا معها، وكأنّها لم تحدث بتاتًا، ولكنّهم في الوقت ذاته تنكّروا لتاريخهم قبل النكبة. أمّا أصحاب النظرة الثانية، فقد تعاملوا معها من منطلقات مختلفة، فبعضهم تعامل مع السلطات الإسرائيليّة بوصفها واقعًا، والبعض آثر مقاومتها بأساليب مختلفة على أنّها قوة غازِيَة، وثمّة مَن فضّل التعامل معها من منطلق الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الشخصيّة أو الجماعيّة الضيّقة، ضمن السياق الإسرائيليّ القائم وحدوده المفروضة عليه.

على الرغم من وطأة النكبة الفلسطينيّة وحجمها، ثمّة ظروف موضوعيّة أتاحت لفئة قليلة من سكّان فلسطين القرويّين، ولفئة ضئيلة جدًّا من سكّان بعض المدن، الاستمرارَ في العيش في فلسطين ضمن حدود الهدنة للعام 1949. إنّ سكّان القرى، وعددًا قليلاً من سكّان المدن، الذين تسنّى لهم البقاء في البلاد، هم بمثابة "البقيّة الباقية" من المجتمع الفلسطينيّ الذي اندثر. لذا، من العسير جدًّا استخدام المصطلحين "أقلّـيّة" و"مجتمع" حتّى مطلع السبعينيّات للإشارة إلى هذه الفئة السكّانية، "البقيّة الباقية" في فلسطين، التي وجدت نفسها فجأة في مجال السيادة الإسرائيليّة. وذلك لأنّما يليقان أكثر بمجموعة بشريّة يرتبط أعضاؤها ومجموعاتها ببنية اقتصاديّة واجتماعيّة ومؤسّساتيّة ونُظم أخلاقيّة وأنماط سلوك مشتركة.

فُرض على هذه الفئة الفلسطينيّة حكم عسكريّ- بعد احتلال البلاد والإعلان عن إقامة دولة إسرائيل مباشرة- رمى إلى تعزيز علاقة التحكّم والتبعيّة بين الإنسان الفلسطينيّ وبين مؤسّسات الدولة المختلفة، ممّا ترك آثارًا عميقة على صعيد الوعي السياسيّ الثقافيّ والوجدانيّ، كما ترك آثارًا بالغة على الصعيد الاقتصاديّ وعلى أنماط الإنتاج وتبعاته وإسقاطاته على العديد من المستويات الأخرى. فإنّ التحوّل من نمط إنتاج زراعيّ يتّسم بالجماعيّة، بما يتّفق والأسس الاجتماعيّة والذهنيّة للمجتمع العربيّ، إلى نمط إنتاج يقوم على العمالة الأجيرة والمرتبطة والمتعلّقة وثيقًا بسوق العمل الإسرائيليّة، يخلق تشوّهات وبلبلة اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة، لا سيّما أنّه فُرض فرضًا ولم يتطوّر وفقًا لتطوّر المجتمع تاريخيًّا.

وجدت الفئة السكّانيّة الفلسطينيّة نفسها، في أعقاب النكبة، تقبع تحت سلطة حكم عسكريّ رمى إلى السيطرة عليها وإقامة جهاز يعزّز ويرسي أعمدة التبعيّة على جميع المستويات الحياتيّة وفوق الحياتيّة، الفرديّة منها والجماعيّة، بمؤسّسات الدولة الناشئة؛ وذلك إلى جانب غياب المدينة والنخب والقيادات والطبقة الوسطى والبنية الاقتصاديّة والمؤسّسات؛ والأهمّ من ذلك هو غياب أفق ورؤيا جماعيّة ترشد أعضاءه أفرادًا وجماعاتٍ إلى الطريق القويم بغية تحقيقها، وبخاصّة في ظل هيمنة الاعتقاد بأنّ الكيان الإسرائيليّ ما هو إلا قوّة غازية ستزول عمّا قريب، وستعود البلاد إلى حالها بساكنيها وواقعها السالفين. وقد تعزّز هذا الاعتقاد مع تعزيز الخطاب القوميّ الناصريّ منذ نهاية الخمسينيّات وحتّى الكشف عن نتائج حرب حزيران 1967، وفي ظل تعزُّز الخطاب الثوريّ التحرّريّ في جميع بقاع العالم وانطفاء وانكماش الإمبراطوريّات. وقد ساد اقتناع شعبيّ بين الفلسطينيّين، وبخاصّة بين أوساط "جيل الاحتلال"، ذلك الجيل الذي يعي "سنة الاحتلال"، تتلخّص في أنّ الكيان الإسرائيليّ هو بمثابة احتلال، ولكونه احتلالاً فإنّ حياته زائلة لا محالة، لا حياة لها سوى "اللحظة"، لحظة هي بمثابة "رمشة عين" في هذا التاريخ الإنسانيّ العامر. فإنّ حالها كحال جميع المحتلّين السابقين، الصليبيّين والأتراك والإنجليز من قبل.

حيال كل ما تقدّم، نطرح السؤال: أين تكمن أهمية يوم الأرض؟. هذا ما سنتوقف عنده في سياق آخر.

__________________________________________

* مقدمة كتاب "يوم الأرض: ما بين القوميّ والمدنـيّ - سـيرورة وتحـوّل" الصادر حديثًا عن منشورات "مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة"، حيفا.

المصطلحات المستخدمة:

تهويد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات