أين تكمن أهمـيّة "يوم الأرض" على صعيد الخطاب والسلوك السياسيّ للقيادات السياسيّة العربيّة في البلاد، وما هي دلالاته على صعيد الثقافة السياسيّة، وما السبيل الأمثل الذي اعتمدته هذه القيادات للتوفيق أو للتعاطي مع البُعدين القوميّ الفلسطينيّ والمدنيّ الإسرائيليّ؟
تأتي هذه الدراسة (*) لتسدّ الفراغ القائم في ظلّ غياب دراسات وأبحاث تتّخذ "يومَ الأرض" نافذةً لها، تحاول سبر أغواره وتتوقّف عند حدود مداه وتكشف عن دلالاته وإسقاطاته على مختلف الصُعد. كما تأتي هذه الدراسة للإجابة عن السؤال المركزيّ التالي الذي تتمحور حوله الدراسة:
أين تكمن أهمـيّة "يوم الأرض" على صعيد الخطاب والسلوك السياسيّ للقيادات السياسيّة العربيّة في البلاد، وما هي دلالاته على صعيد الثقافة السياسيّة، وما السبيل الأمثل الذي اعتمدته هذه القيادات للتوفيق أو للتعاطي مع البُعدين القوميّ الفلسطينيّ والمدنيّ الإسرائيليّ؟
للوهلة الأولى، يتصوّر كلّ من يعود إلى منشورات وخطاب القيادات العربيّة في السبعينيّات أنّهم عملوا فعلاً لبلوغ هدف إستراتيجيّ، يتلخّص في الحفاظ على إقليم قوميّ عربيّ في البلاد يشمل الجليل والمثلّث والنقب؛ وأنّ تهديد الدولة للبعد المكانيّ للكيان العربيّ، كمجموعة قوميّة في الدولة، هو الذي أشعل فتيل الصراع في يوم الأرض. ولكنّ بحثًا أعمق يكشف فعلاً عن وجود دلالات تشير إلى مثل هذا الهدف بين السكّان العرب وبين العديد من قياداته، بيد أنّ الغائب هو رؤيا سياسيّة جماعيّة للعرب في إسرائيل، تترجَم إلى فعل ونشاط سياسيّين. فإنّ استعمال مفردات لها إسقاطات سياسيّة على صعيد مفهوم السيادة (كالتعبير "كيان قوميّ") لا يعني بالضرورة ما فهمته الدوائر الإسرائيليّة منه، وهو السعي نحو الانفصال عن الدولة أو العمل على الانضمام إلى دولة أخرى أو ما شاكل هذا، أو التخطيط لذلك مستقبلاً، وإنّما يعني، فقط، استعمال القيادات العربيّة تعابير تحتلّ مكانة مرموقة بين جماهيرها ولها وقع جيّد على آذان الرأي العامّ العالميّ، ومعتمدة على تراث ماركسيّ لينينيّ، ولكنّ ترجمته إلى رؤيا جماعيّة ومطلب سياسيّ غير قائمة.
كذلك، فقد قام خطاب الحزب الشيوعيّ بمختلف أطيافه وتحوّلاته على توتّر بين القوميّ والمدنيّ. وكما سنرى في فصول الكتاب، لا يمكن الاعتماد على الشعار المطلبيّ "تقرير المصير حتّى الانفصال"، من خلال العودة إلى موادّ أوّلية، والاستنتاج أنّ تيّارًا انفصاليًّا كان قائمًا فعلاً بين المواطنين العرب في إسرائيل، كما فهم من ذلك العديدُ من المراقبين الإسرائيليّين، كما سنرى لاحقًا. فقد جاء، على سبيل المثال، في البيان السياسيّ لمؤتمر الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ الثالث عشر أنّ من حقّ المواطنين العرب في دولة إسرائيل المطالبة بحقّ "تقرير المصير حتّى الانفصال" (كذلك ظهر في المؤتمر الثاني عشر- 1952). وهناك بعض الإشارات الواردة في البرامج السياسيّة لحركة الأرض التي تشير إلى مثل هذا المطلب، إضافة إلى فتحها مكتبها الرئيس في مدينة الناصرة، على الرغم من إخضاعها لحكم عسكريّ، لا في مدينة حيفا، حيث تنشط معظم قيادات حركة الأرض. وذلك أنّ مدينة حيفا تقع ضمن حدود الدولة اليهوديّة، بينما تقع مدينة الناصرة ضمن الدولة العربيّة وفقًا لقرار التقسيم الصادر في العام 1947. كما لا يمكن، بالطبع، استخلاص ذلك من خلال سلوك الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ (راكح وماكي) ومعاينة مطالبه التي تتّسم جميعها، على الصعيد المحلّـيّ، بأنّها مطالب مدنيّة. ما هو مصدر هذا التحليل أو الفهم الإسرائيليّ؟ إنّه يعود ببساطة إلى مصدرين: الأوّل، أنّ الجليل يقع في حدود الدولة العربيّة (اعتمادًا على قرار التقسيم لعام 1947)؛ والثاني، من البيانين السياسيّين للمؤتمرين الثاني عشر والثالث عشر للحزب الشيوعيّ (ماكي)، حيث جاء أنّ من حقّ السكّان العرب في إسرائيل، كأقلّـيّة قوميّة، المطالبةَ بحقّ "تقرير المصير حتّى الانفصال".
سوف أناقش معنى المطلب الذي رفعته القيادات السياسيّة للسكّان العرب في إسرائيل منذ إنشاء الدولة وحتّى "يوم الأرض"، والذي يتمثّل في المطالبة بالاعتراف بالسكّان العرب في إسرائيل كأقلّـيّة قوميّة، والعمل على الحفاظ على "الكيان العربيّ" القوميّ، ومنح الحقوق القوميّة وما إلى ذلك. وبما أنّ الأجهزة الإسرائيليّة المختلفة نجحت في القضاء على "حركة الأرض"، وتشريد وتهجير بعض من قادتها، لم يبقَ سوى القيادات السياسيّة المنتمية إلى الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ فقط، إضافة إلى شخصيّات لا دور جماهيريّ لها (كالمحامي والناشط السياسيّ إلياس كوسا من حيفا).
ماذا يعني قادة الحزب الشيوعيّ، مثلاً، عندما يطالبون، في منتصف السبعينيّات، بالحفاظ على "الكيان القوميّ العربيّ" في إسرائيل؟ وما هي تلك "الحقوق القوميّة" التي طالما نادى بها هؤلاء؟ يخبرنا توفيق زيّاد في صيف عام يوم الأرض أنّ معنى التعبير "مساواة قوميّة كاملة" هو: "أن تتوقّف جميع المصادرات للأراضي، وإعادة الأراضي العربيّة إلى أصحابها القانونيّين [...] والاعتراف بحقّ العرب في الوجود والتطوّر على أراضيهم وفي وطنهم. ومنح العرب الحقّ في احترام ثقافتهم [والحفاظ على] كرامتهم القوميّة، والحقّ في تمثيلهم الكامل في مختلف المؤسّسات الرسميّة والجماهيريّة، والحقّ في الاشتراك في إعادة صياغة وبلورة السياسة العامّة للدولة ومستقبل العلاقات مع الشعب اليهوديّ، وهم الذين [السكّان العرب] يبغون أن تقوم [العلاقة مع الشعب اليهوديّ] على تفاهم وتعاون واحترام متبادل". وعليه، تتّسم دلالة "المساواة القوميّة"، وفقًا لتوفيق زيّاد، أحد قياديّي الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ القوميّين، بالسلبيّة الشديدة؛ فهو ينادي بضرورة وقف مصادرة الأراضي، إلى جانب المطالبة بمنح العرب بعض الحقوق المدنيّة الخالصة.
كذلك يُطْلعنا إميل توما، أحد قياديّي الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، على مكنون التعبير "الحقوق القوميّة":
إنّ الحقوق القوميّة بداية هي إقرار بأنّ عرب إسرائيل يشكّلون أقلّـيّة قوميّة عربيّة، لا [مجرّد] طوائف [...] فإن تطرّقت إلى القضيّة من الزاوية القوميّة، طالعتك حقيقة مفادها أنّه ينبغي عليهم [على السكّان العرب] أن يتطوّروا على الصُّعُد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. فنحن نرى في [التعبير] "الحقوق القوميّة" التخلّصَ من التمييز والاضطهاد القوميّين [...] ومصادرة الأراضي [...] وفي التمييز في الهبات [الحكوميّة] للمجالس المحلّـيّة وللبلديّات [...] وفي النظر إلى [قضيّة] التربية والتعليم [...] وفي الدستور. على سبيل المثال، هنالك تمييز في قانون المواطنة. هكذا نعرّف نحن الحقوق القوميّة للسكّان العرب في إسرائيل.
نَخْلص من هذا إلى أنّ تعابير على غرار "المساواة القوميّة" و"الحقوق القوميّة"، وما إلى ذلك من شؤون ومطالب قوميّة، تدلّل على مساواة مدنيّة تتّسم بالسلبيّة في العديد من جوانبها. ويخبرنا بعض الباحثين أن الحزب الشيوعيّ، على الرغم من رفعه لشعار "الحقوق القومية" للسكّان العرب في إسرائيل، إلاّ أنه "فرّغ هذه الحقوق من أهم مضمون سياسيّ- قوميّ لها أي حق الشعب العربيّ في الأرض المحتلّة العام 1948 ... في ممارسة حقّه في تقرير المصير على أرض وطنه".
من جهة أخرى، حين أشارت بعض القيادات العربيّة إلى مضمون "الحقوق القوميّة" أو المطالب "القوميّة"، اتُّهمت بأنّها ترمي إلى القضاء على "طبيعة الدولة". فقد أنشأت اللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحلّـيّة العربيّة في إسرائيل لجنة خاصّة لكتابة ردّ لرئيس الحكومة، وذلك في أعقاب تجاهل القرار الحكوميّ (الذي نُشر في 23 أيار 1976) السمةَ القوميّة للسكّان العرب في إسرائيل. وضع أعضاء اللجنة الخاصّة، والتي تألّفت من حنّا مويس (رئيس اللجنة القطريّة ورئيس مجلس قرية الرامة المحلـيّ)، وطارق عبد الحيّ (رئيس مجلس قرية الطيرة المحلـيّ)، وجمال طربيه (رئيس مجلس قرية سخنين المحلـيّ)، وأحمد مصالحة (رئيس مجلس قرية دبورية المحلـيّ )، وضعوا مسوّدة هذا الردّ في مطلع حزيران. ويستدلّ منها أنّه "ينبغي النظر إلى إسرائيل كدولة ثنائيّة القوميّة". ووَجَّهت الصحافة الإسرائيليّة أصابع الاتّهام إلى قيادات الحزب الشيوعيّ في الوقوف من وراء مثل هذا النصّ، بيد أنّ هذه القيادة رفضت الاتّهام وأوضحت موقفها المتلخّص في "إنّنا لا نعتقد بأنّه ينبغي اعتبار إسرائيل دولة ثنائيّة القوميّة، فقد أقيمت واعتُرف بها دولةً يهوديّة، ومن الحريّ أن تبقى كذلك. إنّنا نناضل في سبيل تحصيل حقوق الأقلّـيّة العربيّة في إسرائيل، التي- في رأينا- تُعتبر جزءًا من الشعب الفلسطينيّ، ومن أجل حقوق هذا الشعب في الوجود وإقامة دولته إلى جانب دولة إسرائيل".
تحوّلات باطنيّة
تكمن أهميّة يوم الأرض في كونه يشير إلى تحوّل من واقع إلى آخر مغاير، من حقبة ما قبله إلى حقبة ما بعده. فليست أحداث يوم الأرض هي التي غيّرت الحال والأحوال للسكّان العرب في البلاد، بقدر ما هي دلالة وإشارة إلى تحوّل أعمق على الصُّعُد الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، المحلّـيّة والعالميّـة. إذًا، يوم الأرض ليس مهمًّا لذاته، وإنما أهمـيّته كامنة في كونه مؤشّرًا إلى حدوث تحوّلات باطنيّة، عربيّة محلـيّة وإسرائيليّة، وفي كونه انتقالاً من حقبة إلى أخرى. فقد جرى التعبير في يوم الأرض عن وضع حدّ لانصياع السكّان العرب في البلاد للسياسة الإسرائيليّة والسعي لبلوغ تحوّل في هذه السياسة يمكّنهم من المضيّ قدمًا في تحقيق مواطنتهم، من جهة، ولمعالجة التوتّر وفضّ النزاع القائم بين كونهم مواطنين في دولة لا تعرّف ذاتها على أنّها دولتهم، على صعيد الممارسة الفعليّة وعلى الصعيدين الرمزيّ والقانونيّ، ومعادية لشعبهم ولأمّتهم، من جهة أخرى.
وإذا تبنّينا أدوات تحليليّة أنثروبولوجيّة، قلنا إنّ "يوم الأرض"، بدلالاته المختلفة وبالعنف الذي تجلّـى في حيثيّاته، جاء تتويجًا للحالة البيْنيّة وترسيخًا لها، حالة هي بمثابة محاولة للانتقال من حال إلى آخر، ولكنها تعثّرت وتحوّلت إلى ديمومة، هي أشبه بدوام ظرف يتّسم بتأرجحه بين حال وآخر. ويصطلح علماء الاجتماع على مثل هذه الحالة بتعبير "الحالة البيْنيّة"، ولكنّها حالة طارئة تحوّلت إلى ديمومة دون الانتقال إلى الحالة الأخرى المتوخّاة، فقد استدام التأرجح وتحوَّلَ إلى واقع الحال. ويشير علماء الاجتماع - مثل فان غينب وماري دغلاس- إلى أنّ حالة البيْنيّة هذه تتّسم بخطورتها وحساسيّتها، وغالبًا تكتنفها حالات من العنف وغياب الاتّزان، أو حتّى غياب الوعي. كذلك، فقد شهدت دولة إسرائيل، بمجتمعها ومؤسّساتها، تحوّلات عميقة في منتصف السبعينيّات، حيث كانت هي الأخرى تتخبّط في حالة من البيْنيّة، ولكنّها، خلافًا لسكّانها العرب، انتقلت لاحقًا إلى حالتها الأخرى بفضل بلورتها رؤية سياسيّة شاملة. وعليه، فقد تضافرت في يوم الأرض حالتان من البيْنيّة، البيْنيّة الإسرائيليّة والبيْنيّة العربيّة، وهذا من شأنه أن يفسّر بعضا من أوجه ظهور عنف دولة إسرائيل في يوم الأرض، من جانب، وعنف المتظاهرين من الجانب الآخر.
كذلك، تخلص الدراسة إلى أنّ قيادة السكّان العرب في البلاد بوجه عامّ، والحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ بوجه خاصّ، لكونه أعظم مؤسّسة قياديّة، أخفقت في استثمار يوم الأرض لبناء تصوّر جماعيّ مستقبليّ للمواطنين العرب في إسرائيل. فقد ظهرت "الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة" في أعقاب يوم الأرض كتجسيد وتتويج لهذا الإخفاق أكثر من كونها عرضت حلاًّ للواقع البيْنيّ المأزوم. فقد جاءت "الجبهة" تكريسًا لهذا الواقع، ولم تطرح تصوّرًا جماعيًّا من شأنه فضّ النزاع وتخفيف حدّة التوتّر القائم بين جملة المطالب القوميّة والمدنيّة. كذلك، ولشدّة تأثير الحزب الشيوعيّ على الوعي السياسيّ بين السكّان العرب في البلاد، توّلد وعيٌ يجمع بين "الماضي الفلسطينيّ" و"الواقع الإسرائيليّ"، بين الوطنيّ الفلسطينيّ والسياسيّ الإسرائيليّ الواقعيّ.
__________________________________________
* هذا هو القسم الثاني من مقدمة كتاب "يوم الأرض: ما بين القوميّ والمدنـيّ - سـيرورة وتحـوّل" الصادر للمؤلف حديثًا عن منشورات "مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة"، حيفا. وقد نشرنا قسمها الأول في العدد السابق من "المشهد الإسرائيلي".