هناك ثلاثة تحديات إستراتيجية تنتصب أمام دولة إسرائيل وهي: الأمن والاقتصاد والهوية. وسأتركز في قضية الأمن فقط. هناك حسب ما أرى ثلاثة عوامل رئيسية تصوغ وتصمم التطورات في المنطقة في الوقت الراهن وهي: 1) سياسة الولايات المتحدة الأميركية. 2) القوى الداخلية في الدول العربية. 3) "الجهاد" العالمي/ أهارون زئيفي- فركش
لا بد من التوكيد بداية على التواضع والحذر ونحن إذ نقف بصدد تحليل وتفسير خصوم وأعداء في وضع يتسم بانعدام الوضوح والاستقرار كالذي نعيش في ظله اليوم. فعالمنا ليس عالماً تقليدياً كما كان في حقبة "الموجة الثانية"، وإنما يتسم بالتقلبات والتحولات والتغييرات الهائلة. لذا يتعين علينا أن نتحلى بدرجة كافية من التواضع حتى نتمكن من فهم مصاعب جمع المعلومات وإعداد التقديرات الاستخبارية وفهم العمليات والسيرورات المركبة والمتشابكة التي تؤثر بطبيعة الحال علينا وعلى عملنا.
عند تناول "وضع الأمة" هناك حسب اعتقادي ثلاثة تحديات إستراتيجية تنتصب أمام دولة إسرائيل وهي: الأمن والاقتصاد والهوية. ولعل من دواعي سروري أنني لست مضطراً هنا للانشغال في قضيتي الاقتصاد والهوية، وإنما في قضية الأمن فقط، أي في الخصوم والأعداء. في هذا السياق أود الإشارة إلى عدد من العوامل الإستراتيجية التي تؤثر على بيئتنا لفترة طويلة في المواضيع المتعلقة بالمدى الإستراتيجي للأحداث. هناك حسب ما أرى ثلاثة عوامل رئيسية تصوغ وتصمم التطورات في المنطقة في الوقت الراهن وهي: 1) سياسة الولايات المتحدة الأميركية. 2) القوى الداخلية في الدول العربية. 3) "الجهاد" العالمي.
سياسة الولايات المتحدة
العامل الأول الذي أريد التطرق إليه هو السياسة الأميركية واستمرار تواجد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي حقيقة لم يعد باستطاعة زعماء المنطقة تجاهلها. لقد استوعب زعماء المنطقة أن الولايات المتحدة، كجار جديد في الشرق الأوسط، بصدد المكوث لفترة طويلة في المنطقة. ربما كان من الصعب التنبؤ بالمدى المحدّد لهذه الفترة أو حجم التواجد الأميركي، لكنه من الواضح للجميع أن الولايات المتحدة موجودة هنا، وأنها باتت جارًا لإيران وسوريا والمملكة السعودية وتركيا، وهي تنظر إلى سياستها كعامل شديد التأثير على تصميم التغييرات وملامحها على المدى البعيد، وأن الديمقراطية في الشرق الأوسط من شأنها أن تُفضي، حسب رؤية الإدارة الأميركية الراهنة، إلى جعل الولايات المتحدة أكثر استقرارا وأمناً. هذا التوجه، ورغم أية مآخذ يمكن أن تؤخذ عليه، يشكل الطرح المركزي لدى الإدارة الحالية.
القوى الداخلية في الدول العربية
في ضوء هذا الفهم، وبالذات نظراً لتذويت تواجد الولايات المتحدة في المنطقة، بدأنا نشهد خلال فترة نصف السنة الأخيرة صعود القوى الداخلية في الدول العربية. هذه التغييرات جاءت نتيجة تضافر عوامل مختلفة، أهمها العامل الجماهيري والإعلام وضعف أنظمة الحكم والمشكلات الصعبة على الصعيد الاقتصادي.
هناك أولاً وجهة نظر مطروحة على بساط البحث مؤداها: "الوطن فوق كل شيء". أي أن المصلحة الوطنية تسبق أو تتغلب على المصلحة القومية العربية، مصلحة العالم العربي وجامعة الدول العربية. على سبيل المثال شعار "الأردن أولاً" الذي بادر إلى رفعه الملك عبد الله الثاني إدراكاً منه للمخاطر الكامنة في الانفصال (خطة الانفصال الإسرائيلية الأحادية الجانب). كذلك أيضاً شعار "لبنان للبنانيين". هذه الظواهر لم نَعهدها في الماضي، ولا داعي هنا لذكر الانتخابات في مصر. هذه الظاهرة (أو الظواهر) تعني في ما تعني الانكفاء الداخلي.
خلال السنة الأخيرة تغير أيضاً طابع النقد الذاتي. ففي السابق، بعد آذار 2003 لاحظنا توجهاً نحو تهميش المشكلات والتنصل من المسؤولية عن الإرهاب والتخلف والفساد، وتصوير العالم العربي والإسلامي كضحية، أما اليوم فقد باتت تُطرح تفسيرات وشروحات أخرى في هذا الصدد، وأخذت أمراض ومعضلات العالم العربي تلج تدريجياً بؤرة الخطاب العام.
وعلى سبيل المثال فقد كتب غسان شربل، رئيس تحرير صحيفة "الحياة" [التي تصدر في لندن]، في مقال افتتاحي في أيار 2005، قائلاً: "التغيير بات يطرق باب الإنسان العربي وباب وطنه، لكنه يتردد في فتحه. إنها فترة تأقلمات صعبة اجتيازها مشروط بقبول مبدأ التغيير والاستعداد لاتخاذ قرارات مؤلمة في الوقت الصحيح، قرارات تتطلب الجمع بين الجرأة والحكمة".
هذه الصحوة الجماهيرية، وبضمن ذلك إزاء القضية الفلسطينية، لا تتسم بنقد الذات وحسب. فالموضوع الفلسطيني أُقصي إلى المكان الثاني (في أجندة الأولويات العربية)، وبدأت تُسمع أصوات متزايدة تُشكك في جدوى المقاومة. ونحن نلحظ في هذه الأيام النقاشات المحتدمة داخل صفوف حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ومؤداها: لعل اللعبة السياسية هي مستقبلنا، وبالتالي ربما كان يتعين علينا التخلي في الوقت الراهن عن إطلاق صواريخ "القسام" وعن المقاومة، لا سيما في ظل الوضع الخاص الذي يواجهه "حزب الله" في هذه الفترة. فهذه المنظمة (حزب الله) تدرك أن وجودها سيكون مؤمناً ومضموناً في إطار اللعبة السياسية في لبنان.
كذلك نحن نشهد أيضاً تغييراً في النظرة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ باتت تتخذ الآن طابعاً أكثر تنوراً، وأقل تطرفاً وحِدِّة. صحيح أن النظرة للولايات المتحدة كعامل إمبريالي يعمل في خدمة إسرائيل، لم تتغير في الإجمال، إلاّ أن هناك من يدعو إلى وجوب مواجهة التحدي الذي تضعه الولايات المتحدة أمام الدول والأنظمة العربية، ولذلك تجد هؤلاء يتفحصون بنظرة متعددة الأبعاد والجوانب التواجد الأميركي في المنطقة. وتعبر دلائل التغيير عن نفسها في الاعتراف بقوة وجبروت الولايات المتحدة وبضرورة الاستجابة للتحدي الذي تطرحه فيما يتعلق بالمجالات الداخلية أيضاً.
الجهاد العالمي
نحن نقف هنا في خضم سيرورة يلعب "الجهاد العالمي"، إلى جانب العاملين السابقين، دوراً مركزياً في تشكيلها. وإذا كان من الجائز لي استخدام الاصطلاحات المتبعة في قسم الاستخبارات العسكرية (أمان) فسوف أقول: هناك تقويم جديد فيما يتعلق بـ"قاعدة الجهاد" وهي الاسم الحقيقي لتنظيم "القاعدة"، منذ أن اتحد معه "الجهاد" المصري بقيادة أيمن الظواهري، في كانون الثاني/ يناير 2001، أي قبل تسعة أشهر من الهجمات التي وقعت في الولايات المتحدة.
ويعتبر أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم "قاعدة الجهاد" [بعد الشيخ أسامة بن لادن] وهناك من يقول إن الظواهري يعمل كمنظر وكقائد عسكري- تنفيذي للتنظيم. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى عدد من المبادئ والتغيُّرات التي طرأت على التنظيم، والتي يوجد لها انعكاس مباشر على إسرائيل.
أولاً، على صعيد إستراتجية تنظيم القاعدة، وهذا نابع من الإخفاقات التي مني بها زعماء التنظيم منذ هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وما تبع ذلك من إدراك عدد متزايد من دول العالم بأن عليها الانخراط في مكافحة الإرهاب العالمي، خاصة على أرضية الأحداث والهجمات التي وقعت في روسيا وإسبانيا وتركيا، ومؤخراً في قلب العالم العربي، في مصر والأردن وحتى في سوريا.
ولا بد لي من الحذر في كلامي، إذ أنه لا تتوفر لنا في مواجهة تنظيم القاعدة قدرات استخبارية كالتي نمتلكها مثلاً في مواجهة السلطة الفلسطينية أو "حزب الله"، ولذلك أود التذكير مجدداً بأن الأمور التي تطرح هنا للمرة الأولى بصورة علنية، هي اتجاهات وليست أمورًا أو حقائق يُقاس بناء عليها. ففي إستراتيجية "القاعدة"، حسبما نفهمها ونرصدها خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، ثمة ثلاث دوائر (وهذا في حد ذاته ينطوي على تغيير): 1) العالم الغربي. 2) العالم العربي. 3) بلاد الشام و[أرض الكنانة] مصر. أي أن "قائمة الأعداء" التي حددها التنظيم تضم الغرب وإسرائيل والأنظمة العربية، وبضمنها السلطة الفلسطينية. وحيث أن مصر والمملكة السعودية تقيمان علاقات تحالف مع "الشيطان الأكبر" فإن الجهاد الداخلي في هذين البلدين يعتبر، من وجهة نظر زعماء "القاعدة"، جهاداً مشروعاً. ولأن سورية مرشحة للسير في اتجاه آخر، فإنه لا بد الآن من تحذير بشار الأسد من مغبة التخلي عن طريق الجهاد.
كذلك، ووفق رؤية "القاعدة"، ينبغي العمل من أجل الإطاحة بالأنظمة العربية التي لا تفهم جوهر الدين الإسلامي، والتي تتحمل مسؤولية ما يعتري العالمين، العربي والإسلامي، من ضعف واستخذاء وتخلف... وترى "القاعدة" أن تيارها هو القوة الديناميكية القادرة على إحداث التغيير، وهي تعتقد في هذا الصدد أن "الجهاد" يجب أن يتم في آنٍ واحد ضد الأنظمة العربية من أجل تغييرها وضد العالم الغربي، لكن الجدير بالملاحظة هو أن العالم العربي يشكل اليوم بؤرة الإرهاب.
إسرائيل تقع في قلب العالم الإسلامي، الذي تسعى منظمة "القاعدة" إلى إحلال وتطبيق نظام الخلافة فيه، ولذلك فإن للصراع معها (أي مع إسرائيل) أهمية مركزية في إستراتيجية "القاعدة" سواء من الناحية الثيولوجية أو من الناحية الإستراتيجية، وما الصراع الدائر في العراق والسعي إلى طرد الأميركيين من هذا البلد سوى مرحلة تحضيرية ضرورية في الطريق إلى نظام الخلافة الإسلامي.
وعليه فإن من يتأمل ما يحدث حولنا خلال السنة الأخيرة سوف يرى أن منظمة "القاعدة" باتت تقترب أكثر فأكثر من إسرائيل. وقد توافرت لدينا معلومات، لم نتحقق منها بعد حتى النهاية، مؤداها أن عدداً من نشطاء "القاعدة" تمكنوا من التسلل من مصر إلى قطاع غزة، ما يعني قدرة عناصر متمردة من حركة "حماس"، وربما من "كتائب شهداء الأقصى" أيضاً، على إيجاد ملاذ لهم في أحضان "القاعدة". هذه الظاهرة لم تحدث لغاية الآن، ذلك لأن المسؤولين في السلطة الفلسطينية يدركون أن أية صلة أو علاقة مع "القاعدة" من شأنها أن تلحق ضرراً شديداً بالمصلحة الفلسطينية، ومن هنا فإن حرب "القاعدة" لا تنتهي بدحر الولايات المتحدة من المنطقة، وإنما بقيام نظام إسلامي صحيح على أنقاض النظام القائم في العالم العربي وفي إسرائيل، وبعد ذلك فقط يتحوّل الجهد من الداخل إلى الخارج، لينصب على الصراع مع "الشيطان الأكبر".
هذه الرؤية لم تكن معروفة لدينا حتى الآن، وعموماً فإنني لست واثقاً من أن إسرائيل سوف تصل إلى بؤرة هذا الصراع، لكننا نقف الآن في مواجهة تحدٍ جاد ومتزايد تفرضه منظمة "القاعدة".
أعتقد أن العناصر الراديكالية، ابتداء من عناصر "القاعدة" مروراً بـ "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، باتت تواجه ملاحقة وحصاراً متزايدين، مع ذلك فإنها لن تتنازل أو تستكين بل ستهتدي إلى طرق ومنافذ أخرى جديدة لمواجهة التحدي الذي تعتقد أنه ينتصب أمامها.
هناك مجال رابع أرى أنه يشكل أيضاً عاملاً مركزياً في صياغة الأحداث والسيرورات في المنطقة، وهو السياسة التي تنتهجها إسرائيل، بيد أنني لن أسهب في هذا الموضوع، وسأكتفي بالإشارة فقط، ومن خلال رؤيتي للصورة الإستراتيجية، إلى أن دولة إسرائيل ستضطر، بمرور الوقت، إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الأحادية الجانب، وإلى أن تكون مسؤولة عن مستقبلها وبقائها.
من التغيير إلى التغيُّر في الشرق الأوسط
أستطيع القول، إذا ما شئت إجمال الرسالة السياسية، أن الشرق الأوسط يشهد في السنة الأخيرة عملية تحول وانتقال من التغيير إلى التغيُّر. وهذا التغيُّر يأتي من الداخل، ونحن نرى ذلك مثلاً في لبنان، علماً أن الأمر يتم بتأثير القرارين الدوليين 1559 و1614، وتأثير الضغط الدولي والتحقيق في اغتيال (رفيق) الحريري. مع ذلك فإن هذا التغيُّر هو في المحصلة تغيُّر حقيقي نظراً لأنه يأتي من الداخل، من داخل الدولة ذاتها. كذلك فإن مصر تشهد بداية تغيُّر يتم كما يبدو من الداخل أيضاً.
وفي هذا السياق ينبغي التمييز بصورة واضحة بين عمليات الدمقرطة والديمقراطية، وبحسب فهمي فإنني لا أرى حتى الآن ديمقراطية في الشرق الأوسط. ما أراه بالفعل هو لجوء إلى عمليات الدمقرطة من أجل إحداث عمليات تغيير عميقة. هذا ما قاموا به في لبنان وما يقومون به في مصر والسلطة الفلسطينية. وكما يبدو فإن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) هو أول رئيس في العالم العربي يُنتخب بنتيجة 63% وليس كما هو مألوف بنسبة 99.9%. ولا بد هنا من لفت الانتباه إلى نتائج الانتخابات في مصر وكيف أُعيد انتخاب الرئيس مبارك بعد مرور 24 عاماً على توليه لمنصبه.
هذا الانتقال من التغيير إلى عمليات التغيُّر يعني في ما يعنيه أن سياسة الولايات المتحدة كانت في الواقع سنة 2004 العامل المركزي الذي يصوغ صورة الأوضاع في المنطقة، حيث كان لتواجدها في تلك السنة، وحتى في السنة الحالية، تأثيره البالغ، غير أن السنة الأخيرة (2005) تميزت بوجود وزن بارز وكبير جداً للقوى الداخلية أيضاً.
أود أن أضيف إلى ما سبق ذكره حتى الآن عدة سيرورات لها صلة بالمنطقة:
1- ليس هناك "ائتلاف عسكري" ضد إسرائيل.
2- في المقابل هناك اتساع في تعاظم تهديد السلاح وهو أمر ينبغي له أن يثير القلق لدينا. وأنا أسمي ذلك "من القسام وحتى شهاب 3". أي من التهديد الصاروخي في منطقة قطاع غزة- وآمل أن ننجح في درء هذا التهديد في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية)- مروراً بصواريخ "حزب الله" وانتهاء بتهديد صواريخ شهاب3 في إيران.
3- الشرق الأوسط يشكل قنبلة موقوتة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. حيث تنضم سنوياً إلى سوق العمل في الشرق الأوسط أعداد غفيرة [أكثر من 3%] تفوق أي مكان آخر في العالم، ما يعني أن ثلاثة ملايين شخص فوق 19 عاماً يلتحقون سنوياً بسوق العمل في الشرق الأوسط، وهو ما يؤدي في النتيجة إلى نشوء "قنبلة موقوتة" اجتماعياً واقتصادياً وربما دينياً أيضاً في المنطقة.
4- التغييرات في المنطقة هي تغييرات تدريجية وليس ثورية (تحتاج إلى نَفَسْ طويل، ووقت وصبر من أجل فهمها والتعاطي معها).
5- تعاظم التحدي الذي يواجهه استقرار الأنظمة العربية (مصر، السعودية، سوريا وغيرها).
تشف محاولة إجمال أبعاد ومعاني المشهد الاستخباري بالنسبة لإسرائيل- بعد تفحص ميزان التهديدات والمخاطر من جهة وميزان الفرص من جهة أخرى- عن تعاظم اتجاه ينحو نحو تطور بيئة إستراتيجية مريحة أكثر لإسرائيل.
ومن وجهة نظري كرئيس لشعبة الاستخبارات العسكرية فإن الجهة التي يتعين عليها استغلال السيرورات الإيجابية، التي أعتقد أنها تحدث على مرأى من أعيننا والتي تفوق قوتها قوة السيرورات السلبية، هي جهة صانعي القرارات. فإذا استغل هؤلاء هذه السيرورات فسوف يكون ذلك في صالحنا، وإذا لم يفعلوا ذلك فقد يحدث العكس.
تقويم في نقاط
1- اتجاه نحو تعزيز الدولة القطرية وتغليب المصلحة الوطنية، يقابله ضعف وتراجع آخذ في الازدياد في المسؤولية الجماعية (القومية) العربية. هناك منافذ ومسارات مباشرة يمكن تطويرها والإفادة منها مقابل لبنان والأردن ومصر. فالمسألة الوطنية باتت تقلق المواطن في لبنان وسورية وفي الدول العربية الأخرى أكثر من الأحداث التي تحدث خارج دولتهم.
2- تفكك الجبهة الشمالية (لبنان، حزب الله وسوريا). سوريا فقدت لبنان، وهذا يعني من وجهة نظرنا أن هناك مصلحة مستقلة أخذت تنبثق من السياسة والاقتصاد في لبنان وسوريا، وحيث أن "حزب الله" جزء من هذه اللعبة، فإنه مضطر في هذه المرحلة لالتزام قدر أكبر من ضبط النفس.
3- يعاني "حزب الله" من ضائقة، سواء كمنظمة عسكرية أو كمنظمة جهادية. وهو مضطر للانصياع للقرارات جراء التطورات في الساحة الداخلية اللبنانية، وبسبب ما يقع عليه من مسؤولية، ولذلك فهو مطالب أيضاً بأن يقرر إذا ما كان يريد أن يكون حزباً سياسياً أم "حزب الله" بصيغته الحالية.
4- في ما يتعلق بالإرهاب، يمكن القول إنه بات ملاحقاً أكثر فأكثر وأنه يغير وجهه، لدى "القاعدة" و"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي". فضلاً عن ذلك نحن نلاحظ خلال العامين الأخيرين كبحاً لجماح إرهاب حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. وفي تقديري فإن حركة "حماس" تمر في فترة حرجة جداً من حيث القدرة لا من حيث الاستعداد والدافعية، لكن هذا لا يعني أن الحركة لا تستطيع تنفيذ هجوم إذا ما شاءت ذلك.
5- استمرار الضغط فيما يتعلق ببرنامج إيران الذري لم يؤد في الواقع إلى وقف أو تعطيل هذا البرنامج، لكنه نجح في تأجيله لسنتين على الأقل، وهذا نجاح. كذلك فقد نجحت جهود الإحباط السياسي في إحداث تغيير في كوريا الشمالية أيضاً.
6- تقدّم عملية الدمقرطة في المنطقة. هذه العملية لها وجه إيجابي ووجه سلبي، وأود التوكيد هنا على الوجه الإيجابي. أما فيما يتعلق بالمخاطر فلا بد لنا من أن نكون حساسين على هذا الصعيد، إذ لا يجوز للاتجاهات الإيجابية التي نرصدها أن تحجب عنا رؤية المخاطر المحدقة بنا أيضاً: فمنظمات الإرهاب ما زالت تحتفظ بقوة الردع. والتهدئة القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين في هذه الآونة إنما هي نتيجة مسؤولية كل من "جيش الدفاع الإسرائيلي" وأجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية وحركة "حماس" عنها، مع التأكيد على أن أيًا من أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، بمن في ذلك أبو مازن، لا يمتلك أي تأثير على هذه التهدئة. فهذا قرار مستقل لحركة "حماس" وهي التي تؤثر على قرار التهدئة وهذا هو بالتالي المشكل أو الجانب السلبي للأمر. بمعنى أنه إذا قررت منظمات حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله استئناف إطلاق النار فإن بوسعها أن تفعل ذلك متى شاءت. ومن هنا فإن هذه المنظمات ما زالت تمتلك حتى الآن قوة الردع والقدرة على ممارسة الإرهاب.
على صعيد الدول التي تحتفظ بتسويات مع إسرائيل، يتعين علينا أن نكون حذرين فيما يتعلق بالتهديد أو الخطر الذي يعزوه المسؤولون في الأردن لجدار الفصل وخطوة فك الارتباط. وأعتقد أن السلام مع الأردن- كما هو السلام مع مصر- يعتبر ذخراً استراتيجياً بالنسبة لإسرائيل، وبالتالي يتوجب علينا أن نبدي حذراً ويقظة إزاء المخاطر الموجهة نحو وضد هذين البلدين.
أخيراً فإن الخطورة الكامنة في استكمال برنامج إيران النووي، المدعوم بنظام محافظ ومتطرف أكثر من الماضي- والذي على ما يبدو لن ينجح المجتمع الدولي في إيقافه- تستوجب من إسرائيل الاستعداد استخبارياً وأمنياً وعسكرياً وسياسياً بشكل دائم ودؤوب، من أجل مواجهة فعّالة حيال هذا التهديد.
بعد عدّة لقاءات عقدتها مع مسؤولين كبار في أوروبا في مقدوري أن ألخّص زعمين وردا على ألسنتهم في سياق القضية الإيرانية:
الزعم الأول يقول- من غير الواضح لنا، سيدي رئيس "أمان"، لماذا ترعبنا بالتهديد النووي لأوروبا. فنحن نعيش تحت مظلة تهديد كهذا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أمّا الزعم الآخر فيقول- من الواضح في خاتمة المطاف أن حلّ المشكلة ستقومون به إما أنتم أو الأميركيين، إذن دعنا نترك هذا الموضوع جانبًا.
[ترجمة "مدار"]
(*) الكاتب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان"). هذه المقالة تستند إلى محاضرة ألقاها أخيرًا في مؤتمر حول "وضع الأمة" نظمه مركز "يافه" للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب.