المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الحريق وصل إلى أعلى القمة القضائية

شهد جهاز تطبيق القانون في إسرائيل، في الثلاثين من شهر تشرين الأول عام 2002 ، حادثة مربكة بصورة خاصة، بعد أن قامت الوحدة القطرية للتحقيق في الغش والاحتيال بالتحقيق- تحت التحذير- ولمدة ست ساعات، مع قاضي المحكمة العليا المتقاعد تسفي طال، من نخب وصفوة جهاز القضاء. وكانت المدعية العامة للدولة، عيدنا أربيل، قد أمرت بالتحقيق الجنائي معه بعد أن اتهمه مراقب الدولة، القاضي إليعيزر غولدبرغ، وهو زميل القاضي طال في المحكمة العليا إلى ما قبل فترة وجيزة من ذلك التاريخ، في تقريره السنوي، باستغلال صلاحياته الرسمية بشكل سيء. وحسب معطيات مراقب الدولة، قام القاضي طال باستغلال صلاحيته كرئيس للجنة التركات لكي يحوّل مبالغ شاذة بحجم إجمالي يقدّر بملايين الشواقل، أورثها موتى لمالية الدولة، إلى جمعيات كانت تنشط فيها زوجته ومستشاره، وفي إحدى الحالات نشط حتى هو نفسه.

وخلال نشر تلك المعطيات- قبل نصف سنة من استدعاء القاضي طال إلى الشرطة كمتهم- أثار الأمر توتراً شديداً. وفي الواقع، لمزيد الأسف، لم تكن هذه المرة الأولى التي يشتبه فيها بشخص من الصف الأول بشكل عام، وحتى "رأس حربة" في جهاز تطبيق القانون بشكل خاص، بسلوك يشوبه الفساد لأول وهلة. فقد تم التحقيق مع رؤساء حكومة، وحتى مع احد رؤساء الدولة، بشبهات مماثلة بل أكثر خطورة. وفي عام 1994 اضطر المفتش العام للشرطة آنذاك، رافي بيلد، لاعتزال منصبه في أعقاب الاشتباه فيه بالحصول على منافع شخصية. وعملياً عندما يكون المتهم قاضياً- وبالذات في المحكمة العليا- فهذا متهم من درجة أخرى. الكاتب- الحقوقي ماتي غولان عبر بالطبع عن أحاسيس الكثيرين عندما كتب يقول: "إن أفعال طال، والملايين التي جعلها تتدفق إلى الجمعيات التي أدارها أقرباؤه، لا تشكل مساً بشخصيته وسمعته نفسه فحسب. فالإثم الكبير الذي لا يقل عن هذا، وربما أكثر، هو المس القاسي الذي ألحقه طال بأعماله هذه بالمؤسسة القضائية العليا في الدولة، وبزملائه القضاة. إلى حين وقوع هذا الحادث كان من المتعارف عليه أن هؤلاء هم المقياس للنزاهة الشخصية والعامة. وقد تسبب تسفي طال، بأعماله، في زعزعة هذه الثقة".

ولكن ليس فقط مجرد الاشتباه فيه وماضيه على كرسي القضاء العالي والمرموق- غير المسبوق- كان مربكاً ومثيراً، إنما أيضاً التفسيرات والتبريرات التي قدّمها المتهم لأفعاله. فقد ادعى القاضي تسفي طال، للدفاع عن نفسه، أن أهداف الجمعيات التي حوّل إليها أموال التركات هي أهداف خيرية وجديرة، وأن قرار اللجنة برئاسته لتخصيص مبالغ شاذة جداً (ضعفا المبلغ الذي طلبته هي نفسها وستة عشر أضعاف توصية وزارة الرفاه!) للجمعية الدينية- القومية التي كانت زوجته تنشط في إدارتها جاء لخدمة تلك الأهداف. أي أنه، حسب قوله، قام بتخصيص المبالغ الشاذة (دون أن يكلف نفسه عناء تقديم تقرير حول صلة زوجته بالجمعية المحظوظة) ليس بهدف أن يصبح غنياً هو نفسه إنما لكي يخدم هدفاً سامياً وحيوياً. لا يوجد سبب للتشكك في صدق هذه التفسيرات. لم يشك أحد في أن قرشاً واحداً من ملايين الشواقل تلك قد وصل إلى جيب القاضي طال أو جيب زوجته. بل على العكس: أكد المحققون ادعاءه بأنه تصرف بحسن نية من اجل تطوير الجمعية، التي عانت ضائقة اقتصادية قاسية، وبأن عائلته لم تكسب من ذلك أي شيء. كما أن النائبة العامة للدولة تبنّت هذا الادعاء، وحتى إنها قررت في نهاية المطاف إغلاق ملف التحقيق وعدم اتخاذ إجراءات جنائية ضد القاضي. ومع هذا، رغم إغلاق الملف الجنائي، فإن ما يبعث على الكآبة أن قاضي المحكمة العليا المتقاعد ينفي (أو يفضل أن ينكر) أن هدفاً سامياً في نظره أيضاً (أو نظر زوجته) لا يمكن أن يطهر دنس الشذوذ عن معايير الإدارة السليمة وتفضيل الجمعيات التي لأقربائه ومقربيه صلة بها على حساب جمعيات محتاجة أخرى، وذات أهداف سامية لا تقل عن تلك.

قبل نحو خمسين سنة من التحقيق الجنائي مع طال في الشرطة حذر مراقب الدولة الأول، د. زيغفريد موزيس، من انه "يوجد عندنا عامل يشكل تهديداً بصورة خطيرة على النزاهة والحفاظ عليها في عدد ليس بقليل من الحالات: وهو وجهة النظر المقبولة في أوساط عدة بأن العمل المحظور بصورة عامة مسموح هو عندما يتم القيام به من اجل هدف يعتبر في نظر من قام به بأنه هام من الناحية الوطنية أو الأيديولوجية... وإذا كنا نريد النزاهة والاستقامة في كل مجالات عملنا، فعلينا أن نصل إلى وضع يجب أن يعرف فيه كل واحد في الدولة: أن الرأي العام يرى في أعمال كهذه، دون استثناء، بأنها أعمال محظورة قطعياً... في الحياة العامة كنا سنقلل بشكل كبير احتمالات الصراع ضد المس بالنزاهة لو منحنا من يخالف القانون الحق في تخليص نفسه، على قاعدة تبريراته هو، من التعليمات القائمة، ولو حددنا توجهنا وفق دوافع من يخالف القانون- دون ذكر أن التجربة علمتنا أن الإنسان ينتقل أحياناً من القيام بعمل محظور ليس من منطلقات أنانية إلى أعمال محظورة لفائدته الذاتية".

لو كان يعرف د. موزيس انه سيجد بعد خمسين عاماً أنه مازال هناك قاضي عليا متقاعد في إسرائيل سيتبنى لأول وهلة "وجهة النظر المقبولة" بأن الشذوذ عن معايير الإدارة السليمة "مسموح عندما يتم القيام به من اجل هدف يبدو له انه هام من الناحية الوطنية والأيديولوجية"، و"يستثني نفسه، على قاعدة تبريراته هو، من التعليمات القائمة"، لكان قد فقد الرجاء من قيام مجتمع سليم هنا في يوم من الأيام. وعملياً، إذا وصل الحريق إلى أعلى القمة القضائية، فما هو الاحتمال بأن "يعرف كل واحد في الدولة أن الرأي العام يرى في أعمال كهذه، دون استثناء، أعمالا محظورة قطعياً"؟.

ونظرياً، كان في سقوط القاضي المتقاعد طال من المكانة الرفيعة على كرسي المحكمة العليا إلى الهاوية السحيقة في غرفة التحقيقات الجنائية ليس فقط ما هو سلبي، بل فيه شيء من الإيجابية. من المؤكد أنه لمن الخطير والمؤسف والمقلق أن ينزلق إنسان في مكانته إلى هذا الحد، لكن الأمر كان بالطبع سيصبح خطيراً ومقلقاً أضعافًا مضاعفة فيما لو كانت مكانته العالية وماضيه المجيد قد منحاه حصانة ضد التحقيق. إن استدعاءه- كواحد من الناس- إلى مقر التحقيقات كان إذن تطبيقاً مشجعاً لأول وهلة، لقيمة التساوي والمساواة أمام القانون.

بيد انه لمزيد الأسف، من الصعب أن ننسب فضل هذا التطبيق لصالح القيمين على تطبيق القانون في مكتب المستشار القضائي للحكومة والنيابة العامة في الدولة. بل على العكس، فحسب الشهادة العلنية للوزير المسؤول عنهما آنذاك، مئير شطريت، فإن هاتين المؤسستين لم تعربا عن التزامهما بالمساواة أمام القانون، وليس هذا فحسب، بل ساهمتا في الإخلال به عندما أهملتا وعلى مدى أشهر عديدة معالجة الشكوى ضد المتهم المنحاز، وبعد ذلك حوّلوها لفحص مراقب الدولة، بدل أن يحولوها مباشرة إلى تحقيق الشرطة. وفقط بعد أن رأتا أن توصيات مراقب الدولة لم تبق لهما أي خيار بدأ التحقيق الجنائي، بعد أكثر من أربع سنوات من تخصيص الأموال المختلف عليها. وقد أثار هذا السلوك شكوكاً كبيرة بشأن قدرة ورغبة سلطات تطبيق القانون في تنفيذ القانون ضد القاضي الموقر.

وهناك حالة مسايرة مماثلة للقيمين على تطبيق القانون تخلص فيها سلف القاضي المتقاعد طال في رئاسة لجنة التركات من تهديد القانون، وكان هو أيضا من الشخصيات المرموقة في السلطة القضائية. البروفيسور في الحقوق (والوزير سابقاً) أفنر- حاي شاكي اتهم هو أيضا بتحويل أموال تركات بشكل غير قانوني إلى جمعيات محببة عليه وعلى أقربائه ومقربيه. وبرغم عدم انعدام الأدلة على ذلك، قرر المستشار القضائي للحكومة إغلاق الملف الجنائي ضد البروفيسور شاكي. وكانت المحكمة العليا قد وجهت انتقادات قاتلة ضد هذا القرار. فقد أكدت أن هناك مصلحة عامة حاسمة في تقديمه للمحاكمة فـ "بدل الانشغال في موضوع المنصب الرفيع جداً، ننشغل بأعمال تتعلق بتوزيع أموال العامة". بل أضافت المحكمة العليا وحذرت من أن الامتناع عن تنفيذ القانون الجنائي في حالة كهذه قد يؤدي إلى "استيعاب رسالة سلبية يوجد وفقها تبرير لعدم المبالاة والسلبية فيما يتعلق بأعمال كهذه عندما تنفذ من قبل أعلى مستوى...". بيد أن هذه التوبيخات قد أسمعت متأخرا جداً. وعندما اضطر المستشار القضائي- بأمر من المحكمة العليا- أن يفتح مجدداً الملف ضد البروفيسور شاكي اتّضح انه في غضون ذلك تقادمت المخالفات. أي، بانغلاقهم أمام القيم تسبب رؤساء النيابة العامة في وضع الوزير- البروفيسور فوق القانون.

وفي القضية نفسها ذكر قضاة العليا للمستشار القضائي للحكومة أن "وظيفة سلطات النيابة العامة هي بلورة معايير سلوك جديرة واقتلاع السلوك الفاسد من الجذور". غير أن هذه الكلمات الحازمة بقيت أيضًا في إطار البلاغة الجوفاء. وكما ذكر، حتى عندما اتهم القاضي المتقاعد تسفي طال بتكرار الأعمال الباطلة التي قام بها البروفيسور شاكي عاد وأبدى رؤساء النيابة العامة "اللامبالاة والسلبية" نفسها، وانجروا لفتح تحقيق جنائي فقط بعد تأخير ملموس.

شكوك حول قدرة النيابة العامة ورغبتها في القبام بواجبها

لم تكن هذه بالطبع المرة الوحيدة التي أثارت فيها النيابة العامة شكوكاً وترددات صعبة بشأن قدرتها ورغبتها في القيام بواجبها، "بلورة معايير سلوك جديرة واجتثاث السلوك الباطل من الجذور" في القمة. وكذلك عندما اتهم رجال جمهور من المستوى الأول، وعلى رأسهم رئيس الدولة السابق عيزر فايتسمان ورئيس الحكومة سابقاً بنيامين نتنياهو، ليس "فقط" بالشذوذ عن الإدارة السليمة إنما بالحصول على منافع شخصية وعائلية بمقدار مئات آلاف الشواقل، أثرت جيوبهم الذاتية والعائلية، قرر المستشار القضائي (رغم نتائج تحقيقات الشرطة وتوصياتها) عدم تقديمهم إلى المحاكمة، واكتفى بالتوبيخ على "القبح" في أفعالهم وعلى أن الحديث يدور عن "أفعال مشينة".

هذا التسامح تجاه نبلاء البلاد ونقبائها لم يجلب فقط تآكل معايير القمة السلطوية والخدمة العامة كلها، بل أدى أيضاً إلى زعزعة الثقة في جودة اعتبارات سلطات تطبيق القانون نفسها ونزاهة اعتباراتها. فهذا التآكل والزعزعة قاتلان لسلطة القانون. وكما حذر الرئيس السابق للمحكمة العليا مئير شمغار، عندما شغل منصب المستشار القضائي للحكومة في عام 1971: "لا يتم تطبيق القانون فقط من أجل معاقبة مخالفي القانون، إنما من أجل منع ارتكاب مخالفات إضافية، ولا يمكن منع تجاوز القانون عندما يفقد الجمهور ثقته بطرق عمل السلطات التي تطبق القانون".

لم يكتف شمغار في حينه بالمطالبة فحسب، بل طبّق الأمر أيضاً. هو وخلفه على كرسي المستشار القضائي للحكومة، البروفيسور اهرون باراك، عملا بإصرار على منع التآكل النموذجي للمعايير وعلى منع زعزعة الثقة بالمساواة أمام القانون. وبخلاف قطبي لقمة النيابة العامة اليوم، لم يكتفيا قط بالتأنيب البلاغي بل أصرّا على تطبيق القانون الجنائي حتى في حالات حدودية (مثل، الحصول على رزم هدايا للأعياد)، وبالأساس مع ذوي السلطة والنفوذ. هذه السياسة الحازمة- التي حظيت بوصف فيه بعض الإشكالية "إمتحان بوزغلو"- تم التعبير عنها دراماتيكياً بشكل خاص، في قرار المستشار القضائي باراك، في نيسان 1977، اتخاذ إجراءات جنائية بسبب حساب دولارات غير مسموح بها كانت بحوزة رئيس الحكومة آنذاك، إسحق رابين، وعقيلته في الولايات المتحدة.

هناك هوة من القيم بين هذا الإصرار، من قبل سنوات جيل كامل، لتنفيذ القانون الجنائي تجاه رئيس الحكومة على مخالفة قد تكون فنية، وبين امتناع النيابة اليوم عن تطبيق القانون الجنائي على أعمال فساد واضحة قام بها ذوو النفوذ. وفي هذه الهوة تتحطم الأخلاقيات العامة في إسرائيل. وعليه، ليس فقط حساسية النيابة للقيم تغيرت من النقيض إلى النقيض منذ قضية حساب الدولارات التابع لرابين، بل أيضاً الحساسية الأخلاقية لرجال القمة وللإعلام والجمهور كله.

عندما قرر المستشار القضائي باراك أن ينفذ القانون ضد رئيس الحكومة رابين، في نيسان 1977، عشية انتخابات مصيرية، كان واضحاً للجميع، وكذلك لرئيس الحكومة نفسه، أن عليه أن يعتزل فوراً قيادة الحزب والدولة. هو لم ينتظر المحكمة العليا لتريه تقاطع الطرق، كما انه لم يحاول أن يدعي أن مخالفته تخلو من وصمة العار. وهكذا فسر ذلك هو نفسه: "لأنني ارتكبت مخالفة، وإن كانت فنية، فأنا مجبر أن أتصرف وفق تربيتي وتقاليدي و"عقيدتي" التي اؤمن بها، وأن ادفع ثمنها."

واتخذ رابين طريقة مماثلة آنذاك فيما يتعلق بأصدقائه أيضا في القيادة الذين اتهموا بقضايا جنائية. وطلب منهم أيضا أن يدفعوا ثمن تجاوزهم للقانون. وهكذا قال لهم: "محاربة الفساد هي إجراء طويل وصعب، لكننا سنبدأ بها بالخطوة الأولى والضرورية- مساواة تامة أمام القانون. الكشف التام دون هوادة، عن كل سلوك يشذ عن معايير النزاهة والاستقامة، دون تغطية على من اشتبه فيه بارتكاب مخالفات بحجة أن له حقوقاً مميزة في الماضي، ومنصباً هاماً في الحاضر وبرامج كبيرة في المستقبل. الجميع متساوون- ومن ينحرف سيحاكم".

كلمات كالمهاميز، ولكن لم يتصرف اسحق رابين وفق أقواله تلك بعد خمس عشرة سنة، عندما طالبه المستشار القضائي بإقالة الوزير ارييه درعي في أعقاب اتهامه بالحصول على رشوة. ورغم خطورة التهم حارب رابين كالأسد ضد إقالة درعي، وكانت هناك حاجة لتدخل المحكمة العليا من اجل إبعاد الوزير الذي فسد عن منصبه. رابين 1992 تنكر أيضاً لنهج رابين من 1977 ، عندما حارب ضد نزع حصانة نائب الوزير آنذاك رفائيل بنحاسي لكي يحبط عملية تقديمه للمحاكمة بجرم خداع مراقب الدولة. "عفن سياسي"- هكذا وصف وزير القضاء آنذاك، البروفيسور دافيد ليبائي، محاولة رئيس الحكومة رابين وضع شريكه في الائتلاف فوق القانون.

ولكن ليس فقط معايير رئيس الحكومة تآكلت بشكل عجيب، إنما أيضاً معايير الجمهور بأكمله ومعايير بعض مبلوري رأيه في الإعلام. ذلك الصحفي نفسه (دان مرجليت- المحرر) الذي كشف وندد بحساب الدولارات غير القانوني التابع لإسحق رابين وزوجته، والذي أدى إلى سقوط رئيس الحكومة في عام 1977، اعتبر بعد اثنتين وعشرين سنة من بين كاتبي المقالات الذين يحتجون على "ملاحقة" رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من قبل الشرطة عندما "صممت" الأخيرة على التحقيق معه ومع زوجته حول المنافع التي حصلا عليها عندما كان رئيساً للحكومة.

عندما "أصرّت" سلطات القانون على تنفيذ القانون مع الزوجين رابين وبقية فاسدي القمة السياسية عشية انتخابات 1977، وبذلك قربوا بالطبع سقوطه وسقوط حزبه من السلطة، لم يخطر ببال احد أن يتهم هذه السلطات بمحاولة باطلة لتخريب عملية الانتخابات. وبينما في السنوات الأخيرة، عندما ظهرت شبهات جنائية ضد رئيس الحكومة نتنياهو، وبعد ذلك ضد رئيس الحكومة أريئيل شارون، سمعنا من يدعي انه ليس من الشرعي أن يؤدي التحقيق الجنائي إلى الإطاحة برئيس الحكومة أو يؤثر على مصيره في صندوق الاقتراع. حتى أن ابن رئيس الحكومة شارون، جلعاد، استعمل هذا الادعاء لكي يبرر رفضه التعاون في التحقيقات حول شبهات الرشوة والاحتيال ضد أبيه. وحسب قوله، يهدف التحقيق إلى إسقاط رئيس حكومة منتخب بطرق غير ديمقراطية. وهذا الادعاء حصل لأول وهلة على تأييد مؤسساتي عندما وجه المستشار القضائي للحكومة، أوامره بعدم تلخيص تحقيقات جنائية لرجال جمهور مرشحين للكنيست (ومن بينهم رئيس الحكومة شارون) وعدم تقديمهم للمحاكمة في فترة المعركة الانتخابية في أواخر سنة 2002، لكي لا يتم التأثير سلبياً على احتمالات استمرارهم في حكمنا. وكان في ذلك تعبير لاغتراب صارخ ليس فقط عن المعايير السليمة وقيم المساواة أمام القانون، بل أيضاً عن جوهر الانتخابات في الديمقراطية. فالانتخابات ليست- كما يعرضها الإعلام أحيانا- مسابقة ملكات جمال أو مصارعة في حلبة وحل، وحتى ليست معركة استعراضية بين العاملين في العلاقات العامة وكاتبي النصوص الدعائية. هي إجراء انتخاب قائد ومهندس طريق. قائد كهذا- أكدت المحكمة العليا- يجب أن يبث "استقامة وصدقًا". وإذا حامت علامة استفهام حول الاستقامة والصدق لمرشح للقيادة، فمن حق الجمهور أن يلغى هذا المرشح، أو لا سمح الله، يصادق عليه- بواسطة استنفاد التحقيق- وبالذات قبل الانتخابات وليس بعدها.

"انتخاب حر"، حسبما فسرته المحكمة العليا قبل أكثر من أربعين سنة "هو خيار موزون ومعلوم. أفعالك تبعدك وأفعالك تدنيك- هذا هو حساب النفس للسلطة في كل دولة ديمقراطية، في حين أن النظام الاستبدادي، الذي يقف فوق الانتقاد، معني بمحاولة التغطية على الأفعال السيئة لسلطاته." وما هو الميل السائد لنزع الشرعية عن التحقيقات مع رجال جمهور عشية انتخابات إن لم يكن بذل جهود عديمة الحياء "للتغطية والتستر على الأفعال السيئة لسلطات الحكم"؟.

"قضية درعي": المثل المحزن جدا لوضع سيادة القانون في اسرائيل

لكن التعبير الأكثر بروزا للتآكل النموذجي هو أن هناك العديدين من الجمهور لا يهمهم بتاتاً التستر على الأفعال السيئة لقيادييهم (أو الذين يطمحون أن يكونوا قيادييهم)، والأنكى من ذلك أيضاً لا تهمهم تلك الأفعال السيئة نفسها. يمكن الانطباع انه في اسرائيل سنوات الألفين- خلافاً لإسرائيل سنة 1977- الأفعال السيئة، وحتى الفاسدة والجنائية بشكل جليّ، لم تمس بعد بتأييد الناخبين للمسؤولين عنها. ربما حتى على العكس: كما هو معروف، فإن كشف الشبهات الجنائية ضد رئيس الحكومة شارون وعائلته عشية انتخابات 2003 لم يحل دون مضاعفة قوة حزبه في الكنيست. ظاهرة مماثلة حدثت أيضا في المعركة الانتخابية عام 1999: إدانة رئيس كتلة شاس، ارييه درعي، بتلقي رشوة عشية الانتخابات أدى كما هو معروف إلى تعزيز قوة كتلته بشكل دراماتيكي، رغم (وفي الحقيقة بسبب) أن الكتلة لم تنفض نفسها منه ومن جرائمه. وبالطبع، بالذات بعد أن ابتعدت عنه بعد الانتخابات بدأ الانخفاض في قوتها. أضف إلى ذلك: بعد أن أدين في المحكمة العليا وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وندد به قضاته وكأنه لوّث نظام الحكم الاسرائيلي بـ "مستوى حضاري متدن من الرشوة، تتميز به دول متخلفة وأنظمة فاسدة"، وبينما هو سجين جنائي مع رخصة، اتسم المجرم درعي باعتباره ثروة انتخابية عشية انتخابات 2003. كانت الصحف مليئة- حتى في الأيام التي شهدت الكثير من عمليات الإرهاب وضائقة اقتصادية واجتماعية قاسية- بالتحليلات والتخمينات حول المستقبل السياسي للمجرم. الجميع سألوا على من سيسكب هذه المرة صدقاته السياسية أو من سيحرم منها، من منطلق أن هذا الإحسان هو المفتاح السحري لقلوب مئات آلاف الناخبين. حتى الصحفيون تقاطروا عليه وتمنوا استنطاقه. وقد حظي بـ "تغطية صحفية خارجة عن المألوف، غير متناسبة، وبدرجة ما غير أخلاقية أيضا". ما العجب، والحالة هذه، انه فور انتهاء سنوات السجن التي فرضت عليه (السنة الأخيرة منها قضاها خارج السجن) احتل صدارة العناوين بإعلانه أنه سيعود إلى السياسة، حتى أن هذا الإعلان جعله يحظى بتقرير رئيسي فيه الكثير من الإطراء في الملحق الأسبوعي القيّم في صحيفة "هآرتس"؟. إن هذا السجود للسياسي الذي أدين بالفساد الخطير كان دون أدنى شك شهادة فقر- قيمي وأخلاقي- للجهاز السياسي والإعلامي كله.

وفعلاً، قضية درعي، على كل امتداداتها وتقلباتها وتفرعاتها المعقدة، هي المثل المحزن جدا لوضع سيادة القانون في اسرائيل، وبالأساس للتدهور السريع في المنحدر الذي ينتهي، لا سمح الله، بالتحطم. في الواقع يمكن أن نسمع من خلالها "أغنية البجع (مرثية) لإسرائيل كدولة قانون. من ناحية التحقيق مع ارييه درعي حول مخالفات الرشوة والاحتيال التي نسبت إليه ونجاح الشرطة والنيابة في إثباتها في المحكمة ووضعه وراء القضبان، كان يمكن أن يعتبر هذا أفضل أوقات سلطات تطبيق القانون في اسرائيل. فإن الامتحان النهائي لسلطة القانون هو في قدرة هذه السلطات في التعامل أيضاً- وبالأساس- مع المشتبه فيهم ذوي النفوذ والقوة- القوة المادية والقوة الاقتصادية، وبالأساس قوة السلطة. صحيح أن جهاز تطبيق القانون جابه، كما ذكرنا، عدداً ليس بالقليل من أمثال هؤلاء المشتبه فيهم- بمن فيهم رؤساء حكومة، وحتى رئيس دولة- ولكن يبدو انه لم يكن هناك مشتبه فيه بمخالفات جنائية تمتع بقوة نفوذ كانت مرعبة كقوة الوزير ارييه درعي، عندما بدأ التحقيق ضده. صحيح انه لم يكن رئيس حكومة، ولكنه اعتبر حينها كمن يعيّن ويسقط كما يشاء رؤساء الحكومة. وأكثر من ذلك: من المؤكد انه لم يكن هناك أي مشتبه فيه مثل درعي، بحيث استغلت زمرته ومؤيدوه قوته دون عوائق ، ليس فقط كي يجرم، إنما أيضا لكي يخلصوه من سطوة القانون. وحقيقة أن مكيدتهم لم تنجح تبدو إذاً كإنجاز كبير لسلطات القانون والقضاء.

ويترك الإنجاز انطباعاً مضاعفاً لأنه في قضية ملف درعي بذلت جهود غير مسبوقة من حيث خطورتها لتشويش التحقيق والدعوى والمحاكمة نفسها. وانعكست الخطورة أيضا- وبالأساس- في الطبيعة المخططة والمنهجية وبالأخص المنظمة، لهذه الجهود.

بين الفينة والأخرى يثار في اسرائيل الجدل في مسألة فيما إذا كانت هناك جريمة منظمة. جهود التشويش التي هدفت إلى إحباط استنفاد القانون مع درعي لا تبقي بعد، كما يظهر، مكاناً لعلامة استفهام، لأنهم بعثوا منذ البداية روائح عصاباتية واضحة إلى درجة أن المستوى القضائي الأعلى من الجميع لاحظها. في سنوات السبعين كانت الشكوك ما زالت تساور مئير شمغار، المستشار القضائي للحكومة حينها، بشأن ممارسة ظواهر مافيوزية في اسرائيل. لكن بعد عشرين عاماً، عندما عرف القاضي شمغار- هذه المرة كرئيس للمحكمة العليا- أن المخلصين للوزير درعي لم يشمئزوا من التنصت على المفتش العام للشرطة يعقوب تيرنير، واستخدام ثمار التنصت لكي يسوّدوا سمعته وكأنه يدير التحقيق مع الوزير من منطلقات عنصرية، لم يتردد هو في تصنيف نشاطهم كـ "تتبع بسوء نية للتحقيقات الجنائية" وكـ "زعرنة منظمة ومحكمة، والتي إن لم تجتث وهي في عنفوانها، ستصبح الظواهر التي كشفت قبل سنوات في الولايات المتحدة متكررة ومقبولة لدينا أيضا".

مؤيدو درعي لم يكتفوا بتتبع هادىء. احد المقربين من درعي هدد محققي الشرطة بأنهم سيدفعون ثمناً غالياً: "في اللحظة التي يقرر فيها نظام الحكم بأن هذا [التحقيق] لا يصب في مصلحته، فكل واحد [من المحققين] سيكون بوليس الكتيبة في وحدة أخرى". وحسب قول قضاته، فإن النضال من اجل إنقاذ الوزير، الذي فسد، من أنياب القانون كان "حملة واسعة النطاق" استندت إلى "صناعة أكاذيب محكمة ومخططة ومنسقة جيداً.. عن طريق مبعوثيه يوضح درعي قوته وشدة ساعده في أجهزة السلطة والمصير المر لمن يتجرؤون على الاعتداء عليه والتنكيل به". وفي الواقع حافظ درعي لعدة اشهر على الصمت خلال التحقيق معه، ولكن حسب قول القضاة، "من وراء ستار الصمت اختبأ نشاط كثيف... مشروع منظم جيداً، في البلاد وخارجها". الوزير المشتبه فيه أدار "حرباً ضد الشرطة خلال التحقيق وضد النيابة العامة خلال المحاكمة"، وهو ومؤيدوه وضعوا ما أمكن من "الألغام" أو "العراقيل" في طريق الإجراء الجنائي لكي "يحرفوه عن مساره... وبدا الإجراء الجنائي بأيديهم كلعبة كل شيء فيها مسموح للمتهمين، دون قيود كابحة".

كما أن درعي وزمرته في "شاس" استغلوا مشاعر الغبن الطائفي لكي ينزعوا الشرعية عن سلطات تطبيق القانون قبل انبعاث الرائحة المافيوزية لأفعالهم. وفي نهاية الأمر رسم د. اريئيل ريتهاوز للصيغة العبرية لرواية المافيا الإيطالية الكلاسيكية "البجعة" الغطاء الـ "ايديولوجي" لنشأة المافيا الصقلية، ومن الصعب عدم ملاحظة الشبه بين وصفه وبين الحملة الدعائية الطائفية ضد سلطات القانون التي أدارها أتباع درعي: المافيا في إيطاليا بنيت، يكتب د. ريتهاوز، من "تنمية الشعور بالنقص وجعله أسطورة بارانويا تقريباً، أسطورة تثير موجة تماهي فاسدة وحتى خطرة... الصقليون.. يشعرون بان الآخرين ينظرون إليهم نظرة احتقار ويحكمون عليهم وفق رمز قضائي وأخلاقي غريب عنهم، دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنهم تربوا في أحضان ثقافة أخرى. لذلك هم يفضلون تأييد المجرم، ويرفضون التصديق بتهمته، بل يتحدثون عن مؤامرة الشماليين ضد الجنوبيين".

لكن إلى الذروة (أو على الأصح: إلى أسفل حقارتهم) وصلت الميزات الشبيهة بالمافيا في قضية درعي في محاولة (نجحت لأول وهلة لمدة ستين ساعة!) الابتزاز بالتهديد من أجل تعيين مرشح مرغوب فيه لدى الوزير المتهم بقضية جنائية رئيساً للنيابة العامة في اسرائيل، وبهذا يمهد الطريق لإفسادها التام. البروفيسور مناحيم امير، الحائز على جائزة إسرائيل في علم الإجرام وباحث ذو سمعة عالمية في الإجرام المنظم، رسم ملامح القوة الأساسية لمنظمات إجرامية مثل المافيا في "العلاقات المبنية على قدرة إفساد جهاز القانون والقضاء".

وحسب قوله، الإجرام المنظم مبني على "استغلال عدم النجاعة والضعف والاستعداد لإفساد مؤسسات السلطة والمؤسسات المراقبة".

* خبير قضائي إسرائيلي. وهذا المقال مترجم من دراسة مطولة له أصدرها أخيرًا حول العلاقة بين مؤسسات الحكم الاسرائيلية والفساد والجريمة المنظمة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات