المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نص المقدمة التي صدّر بها الباحث نبيه بشير (سخنين/ الجليل) دراسته الرائدة التي حملت عنوان "حول تهويد المكان، المجلس الاقليمي مسغاف في الجليل- دراسة أولية لحالة". وقد ظهرت الدراسة أخيرًا عن منشورات "مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية" في حيفا


تعريف

ننشر هنا نص المقدمة التي صدّر بها الباحث نبيه بشير (سخنين/ الجليل) دراسته التي حملت عنوان "حول تهويد المكان، المجلس الاقليمي مسغاف في الجليل- دراسة أولية لحالة". وقد ظهرت الدراسة أخيرًا عن منشورات "مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية" في حيفا

(المحرر)

توطئة

يحكى أنه إبان تجوال رئيس الوزراء الإسرائيلي الاول دافيد بن غوريون في الجليل، إستشاط غضباً لرؤيته القرى العربية "تحتلّ المكان"، وعقّب قائلاً: "إنّ كل من يتجوّل في الجليل ينتابه شعور بأنه ليس جزءًا من إسرائيل". وفي سياق آخر جاء أنّه في احدى جلسات بن غوريون مع القيادة العامة لقوات الجيش الإسرائيلي، في عام 1948، إمتنع عن منح ترقية وأوسمة لضباط وجنود لأنهم "لم يتصرفوا بصورة مهنية"، وأضاف قائلاً: "فلو تصرفنا كأننا جيش واحد وليس كجيوش ... لكان باستطاعتنا إخلاء الجليل الأعلى، القدس والطريق اليها، الرملة واللد، وجنوب البلاد بصورة عامة، والنقب بصورة خاصة".

إنّ حقيقة وجود سكان عرب في الجليل بامكانها تجريد المكان من يهوديّته، وذلك على الرغم من فرض السيادة الإسرائيلية من خلال أنظمة وحكم عسكريين، والقانون الإسرائيلي، وقوة السلاح، والسيطرة التامة على حركة السكان العرب، والسيطرة على جهاز التربية والتعليم، وعلى سوق العمل، وعلى الحيّز المكانيّ بشكل تامّ. وقد استنهض هذا الوجود العربي المسؤولين في الدولة حديثة العهد إلى التفكير في السبل لوضع حدٍّ لهذا الوجود، عن طريق رسم خطط للترحيل أو النفي أو تشجيع الهجرة، أو - على أقل تقدير - التقليل منه، وهو ما استدعاهم إلى التخطيط لرسم الخطوط العريضة لمشروع "تهويد الجليل" (أو برنامج "المناطر"). ولكن، وقبل البدء بهذا المشروع، عرض بن غوريون فكرة تهدف إلى تهويد السكان العرب، كحلّ للمشكلة من أصلها، إلاّ أنّ معارضة شديدة قوّضت هذه الفكرة قبل طرحها للنقاش على الجمهور وعلى الشرائح الثقافية والفكرية في البلاد.



المجلس الإقليمي "مسغاف" كموضوع بحث

تنبع أهمية المجلس الإقليمي "مسغاف"، كموضوع بحث، من كونه يجسد العديد من القضايا: أهداف الإستيطان الصهيوني؛ فكرة المكان الصهيوني كفكرة مثالية وكفكرة مطبّقة على أرض الواقع؛ تعامل دولة إسرائيل مع حقيقة الوجود العربيّ في البلاد؛ الاستراتيجيات الجيوسياسية لدولة إسرائيل. كما يعكس موضوع البحث نوعية العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة وبين المؤسسات الصهيونية واليهودية غير الحكومية، من جهة، وبين المواطنين العرب في البلاد، من جهة أخرى. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ التحوّلات الحاصلة على صعيدي الثقافة والسلوك السياسيين، في إطار هذه المستوطنات بشكل خاص، تعكس العديد من التغييرات التي تجري على صعيد المجتمع والدولة في إسرائيل بشكل عامّ. والأهم من ذلك كلّه، أن الدراسة تتوقف عند مسألة نظرية بالغة الاهمية تتلخص في انه من غير الملائم التعامل مع الفرد والمجتمع ككينونات مجردة من الحيّز المكاني، كما تتعامل معهما غالبية النظريات الاجتماعية، وتقترح بالمقابل التعامل معهما ككيانات اجتماعية ذات ابعاد جغرافية، بمعنى ان للفرد كما للمجتمع ككل أبعادًا مكانية تؤثر بشكل كبير على هوياتهم وعلى سلوكياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية الخ ... .


يمرّ المجتمع الإسرائيلي في العقدين الاخيرين في عملية تحوّل على الصعيد الثقافي، تسودها بلوَرة أنماط مختلفة من التدين، إبتداءً من العودة إلى أنماط تقليدية او ارثوذكسية، حتى تبنّي عقائد روحانية دينية جديدة يعود مصدرها إلى حضارات شرق اسيوية ودمجها بتراث يهودي معاصر. ويعود أحد مصادر هذه العملية إلى ما يصفه الباحثون بظاهرة "ثقافة ما بعد الصهيونية"، او "ثقافة الصهيونية الجديدة"، والمقصود هو ظهور ثقافة تتعدى الأسس والعناصر الثقافية للصهيونية، ولا تلغيها بالضرورة، تؤثر في المزاج الثقافي العام في البلاد وتتأثر به. من المركّبات الاساسية في المنظومة الأيديولوجية والثقافية للصهيونية التي لا بدّ أنّ تتأثر من هذا التحوّل البراديمي (paradigmatic) الثقافي: مفهوم المكان، الذي بدوره يؤثر في مفهوم الإستيطان ومكانته في هذه المنظومة الثقافية الجديدة. ماذا يحدث عندما يؤثر هذا التحوّل في الأنماط الثقافية في المجتمع، بينما لا يؤثر في أنماط التفكير والعقائد الأيديولوجية في المؤسسات الحكومية وفي الدوائر الإستيطانية المختلفة؟. سنحاول من خلال هذه الدراسة أنّ نجيب عن هذا التساؤل، وذلك من خلال التطرق إلى حالة المجلس الاقليمي "مسغاف". وبإيجاز نقول ان حالة من التناغم والدمج بين اسلوب الدوائر الإستيطانية (الإستيطان) وبين اسلوب المستوطنين (الإستيطان)، وليس في المضمون (أهداف الإستيطان المختلفة)، تتكون في مثل هذه الحالة. ونقصد تكوّن صورة معينة تجمع بين مصلحة الطرفين (المستوطنون كأعضاء في المجتمع الإسرائيلي من جهة، والمؤسسات الحكومية والدوائر الإستيطانية المختلفة من جهة اخرى)، والناتج إنما هو واحد يجمع بين أهداف الطرفين، ولا يحدّ او يقمع أهداف احد الطرفين. إنّ أهداف العديد من المستوطنين اليهود في الجليل، بإستيطانهم هناك، غير مرتبطة بأهداف الدوائر الإستيطانية، بل هي غالباً أهداف مستقلة، نابعة من معتقدات ثقافية معينة، ولكنها تنخرط في أهداف الدوائر الإستيطانية في إسرائيل من حيث النتيجة. وعليه فإننا أمام دراسة تتّخذ من الحالة الإستيطانية في الجليل نافذة يمكن من خلالها الاجابة عن هذا السؤال، بالاضافة إلى أسئلة اخرى مغايرة، ولكنها مرتبطة به، سنأتي على ذكرها لاحقاً.

هوس التهويد

تعاني الدولة القومية الحديثة عموماً، بمختلف تياراتها ومشاربها الفكرية وأطيافها الأيديولوجية، هوسَ السيطرة على المكان وعدم تحمّلها ترك بقعة أرض دون فرض سيادتها عليها بشتى الاساليب والادوات. ولكن دولة إسرائيل تعاني، كما سنرى في سياق هذه الدراسة، هوسًا إضافيًّا، يتلخص في عملية "تهويد" البلاد، وسنتوقف باسهاب عند تحليل معانيه وافرازاته ومشاربه الفكرية المختلفة. ولتنفيذ هذا "التهويد"، الذي يعني، في فترة ما بعد اقامة الدولة، بايجاز شديد، الإستيطان في كل مكان يقيم فيه تجمُّع سكّانيّ عربيّ، وعلى ضوء الخصوصيات الدينية والثقافية الاخرى للمجتمع وللدولة في إسرائيل، تندفع الدولة بشكل مستمر في الإستيطان وفرض سلطانها واحقاق سيادتها عن طريق "قَوْنَنة الاشياء"، والمناطق، والعلامات، واللغة، والسلوك وما إلى ذلك. تنبع قوّة القَوْنَنة من كونها تتضمن سيادة الدولة، وتفرض ذاتها من خلال "لغة عالمية"، تسري على كل فرد في الدولة دون استثناء، وغالباً يتم وصف هذه اللغة باسم "تكنولوجيا"، بمعنى أن الدولة تفرض وتغيّر، على سبيل المثال، حدود التجمّعات السكانية، من خلال استعمالها لعملية التشريع القانوني، الأمر الذي يترك أثره أيضاً على صُعُد عدة اخرى (الهوية الاثنية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، إلخ...). وتعرض مؤسسات الدولة المختلفة هذا الفرض أو التغيير على أنّه نابع من إحتياجات تقنية محضة، ويتم التعبير عن ذلك في الخطاب القضائي الإسرائيلي الذي يعزّز هذا الفرض أو التغيير ويُشَرْعِنُه، ويعزّز "عالميته" وكونه مجرَّدًا من الدوافع "السياسية". وبسبب "عالمية" اللغة القانونية فإنه من العسير، حتى على الصعيد الفكري غير النقدي، مقاومة ومحاججة سلطان القانون وقوته، وخصوصاً عند حديثنا عن نخبة مكوّنة من تكنوقراطيّين (technocrats)، تلك الفئة المهنية من موظفين في دوائر رسمية ومهندسين ومحامين وآخرين، التي تمتثل للقانون وتعتبره المثل أو المعيار الأعلى والركيزة الوحيدة لخلق نظام، وللحفاظ عليه، ولتقويض أسس فوضوية في المجتمع، والأهم من ذلك، أنها تعتبره المرجعية أو المعيار الوحيد الذي تعمل من خلاله وعليه يقوم خطابها. أمّا في الحالة الإسرائيلية فإن القضية شائكة جداً، وذلك لأن دولة إسرائيل تحمل هدفاً أيديولوجيا يشمل جميع أبناء "الشعب اليهودي" أينما وُجدوا، ويستثني جميع "المواطنين" من غير اليهود، الامر الذي يخلق، بدون أدنى شك، واقعاً مركّبًا يشير إلى بعض الأسس العنصرية أو الاقصائية البنيوية في المنظومة الأيديولوجية السياسية التي تقوم عليها دولة إسرائيل. وتتعقد المسألة أكثر فأكثر عندما نكتشف أن مفهوم "القانون" السائد في العديد من شرائح المجتمع الإسرائيلي، كما هي الحال بين السياسيين ومتخذي القرار في الدوائر الإسرائيلية، يتّسم بالأداتية الامر الذي يجعل من القانون أداة لتنفيذ أهداف معينة وليس معياراً اخلاقياً يعكس قيماً ومعايير اجتماعية؛ ولكونه مجرد أداة فإنه يتم تغييره حين لا يلائم الأهداف الحالية.


جاء في معرض افتتاحية لدورة تدريبية لقوات الشرطة الإسرائيلية ما يلي: "أهلاً وسهلاً [بكم] إلى لعبة الحرب: "رياح العاصفة". نحن اليوم ضيوف مركز التأهيل الشرطي في المنطقة (التي نتواجد عليها الان [شفاعمرو])، كما أننا نستضيف فيه آخرين. [إنها المنطقة] التي تم احتلالها منذ 52 عاماً على يد الكتيبة السابعة وكتيبة "جولاني"، والتاريخ الدقيق هو 14/7/1948. وها نحن الان، وبعد مرور نحو 52 عامًا على ذلك، نجد أنفسنا منشغلين في القضايا ذاتها تقريباً، ليس احتلال البلاد وإنّما الحفاظ عليها". ما المقصود هنا بتعبير "الحفاظ على البلاد"، وكيف يمكن "الحفاظ على البلاد"، خصوصاً أننا في صدد الحديث عن دور الشرطة في المجتمع وفي الدولة؟ ولماذا هذا الهوس المسيطر على أفكار متخذي القرار السياسي والمؤسسات الصهيونية واليهودية الاخرى: السيطرة على المكان و"الحفاظ" عليه؟ إن أحد أهم أهداف هذه الدراسة الاولية هو الكشف عن بعض الخطوط العامّة للإجابة عن مثل هذه التساؤلات، ونقصد معنى "المكان" والسيطرة عليه، ومتى تتحول رقعة أرض إلى "مكان" في السياق الصهيوني. "الحفاظ على البلاد" إنّما يقصد من ورائه المحافظة عليها من "أعداء" الدولة والمجتمع، ألا وهم المواطنون العرب في الدولة، كما تأكّدَ لنا بعبارات صريحة في معرض بعض شهادات لافراد من الشرطة أمام "لجنة اور" للتحقيق في مظاهرات اكتوبر 2000. إنّ هذا المواطن- العدوّ، مهما كان موقفه الايديولوجي أو السياسي من الدولة ومن الصهيونية، هو هدف مباشر لهذه الدورة التدريبية الشرطية، وذلك لكون وجوده في المنطقة يهدد سيادة الدولة ويهودية المكان.


ينبثق موضوع الإستيطان ومواقع تنفيذه وتوقيته من الأيديولوجيا الجيوبوليتيكية والاستراتيجيات الإقليمية المتبعة في حقبة معينة. كما أن توقيت الشروع بتنفيذ "التهويد" مرتبط بعدة عوامل، كما يطلعنا الباحث باروخ كفنيس، منها: جدول الاعمال القومي، والمقصود تلك المواضيع التي تولى الأهمّيّةَ القصوى والطارئة في الدولة (إستيعاب المهاجرين وإقامة مساكن لهم في سنوات الخمسين)؛ الوضع الديموغرافي في البلاد بشكل عامّ، وفي مناطق محددة بشكل خاصّ؛ عوامل تتعلق بالحيّز الجغرافي المزمع تنفيذ الإستيطان عليه؛ حجم الدعم المادّيّ الخارجيّ والوضع الاقتصاديّ والقوى البشرية العاملة وقدرة المؤسسات على ترجمتها إلى فعل؛ وسيطرة "الأمّة" على الأراضي. لقد كان هدف الأيديولوجيا الجيوبوليتيكية الصهيونية منذ نشوء الصهيونية حتى 1948 يتلخّص في التحضير لخلق إقليم لإنشاء "بيت قوميّ" عليه، والاستراتيجيات التي اتُّبعت آنذاك كانت عبارة عن بناء مؤسسات "قومية" وشراء أراضٍ وإستيطان في مناطق حيوية واسعة، يضمن سيطرة كبيرة على الاقليم المخطط اقامة "البيت القومي" عليه، وتشجيع الهجرة إلى فلسطين وغيرها. في حين إختلفت الأيديولوجيا الجيوبوليتيكية وتبدلت الاستراتيجيات المتبعة بعد إنشاء الدولة فعليًّا، بحكم تغيّر الواقع والزمن والعوامل الداخلية والخارجية والسيادة السياسية والأولويات "القومية" والمواضيع الملحّة على جدول الاعمال القومي وما إلى ذلك. كذلك يمكننا التمييز بين فترة 1948 1967- وفترة 1967- 1976 وفترة اخرى 1976 – وحتى اليوم. فقد خلقت نتائج حرب حزيران 1967 واقعًا ديموغرافيًّا وإقليميا جديدًا أدّى إلى تحوّل كبير في جدول الاعمال القومي الإسرائيلي، وبالتالي أدّى إلى تحوّل عميق في الأيديولوجيات الجيوبوليتيكية والاستراتيجيات الإستيطانية والإقليمية. وكما سنرى فإن "يوم الأرض" خلق تحوّلاً عميقًا آخر أدّى - في نهاية الامر- إلى تعزيز الإستيطان في الجليل والشروع في تنفيذ أفكار عديدة لتشديد السيطرة والتحكم بواقع العرب في الدولة وبمصيرهم.

المطالب الآنية وجوهر الصراع

إن المطالبة العربية في البلاد بتوسيع مناطق النفوذ، والحدّ أو التوقف عن مصادرة الأراضي، والمطالبة بميزانيات وخدمات اضافية، لا يمكن لها أن تعالج الصراع القائم، وذلك لانها مطالب آنيّة وتتطرق إلى قشور الصراع ولا تمسّ جوهره بتاتًا. ولو تبنّينا الطرح المهَيْمِن في الأدبيات وفي أروقة الحكم المحلي العربي، والذي يقوم على أنّ "لبّ الصراع" هو صراع على الأرض أو على ملكية الأرض، لتوصّلنا إلى النتيجة ذاتها التي مفادها أنّه يجب رفع شعار المطالبة بمناطق نفوذ أوسع لتلبّي حاجة السكان العرب في جميع أنحاء البلاد، وزيادة في الميزانيات والخدمات. ولكن بناءً على طرحنا وتحليلنا في هذه الدراسة، المطلوب هو حلّ يقوم على فهم لغة الصراع بداية، لغة كلّ طرف على حدة، لحلّ الصراع من أساسه، بمعنى السعي نحو جذور الصراع وليس إلى عوارضه؛ وثانياً النظر الى ان الارض بحدّ ذاتها مهمة لتطور الفئة السكانية العربية في البلاد، ولكنها ايضاً تمس هويتهم وحيّزهم المكاني، الامر الذي يؤثر على سلوكهم على جميع الاصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية الخ... . إنّ غياب الأيديولوجيا الصهيونية من بنية الدولة الإسرائيلية وتخلّيها عن تحقيق أهدافها سيفتح الباب أمام إعادة ترتيب المجتمع والدولة في إسرائيل، بالاضافة إلى إعادة بلْوَرة المفاهيم المدنية والسياسية من جديد. ولا أدعي بهذا أنني ومن خلال هذه الدراسة سأقوم بعرض استراتيجيات لبلورة وبناء مؤسسات الدولة التي يمكن لها أن تنتج عن فضّ الصراع، ولكن الدراسة تشير إلى مصدر وبؤرة الصراع فقط، دون الدخول في مسائل معيارية(normative) حول كيفيّة وجوب أن تكون الدولة ما بعد الصراع.


أودّ أنّ أشير بإيجاز إلى سمات محدّدة للخطاب الذي تتبنّاه شريحة المهنيين التكنوقراطيين، الذين يعملون بصورة مباشرة وسطاء بين الدولة (بمؤسساتها المختلفة) وبين السكان، من مهندسين ومحامين ورؤساء سلطات محلية عربية وغيرهم، إضافة إلى ما جاء أعلاه. فبينما تُعتبر السلطات المحلية رسميًّا وقانونيًّا أجهزةً حكم محلية غير سياسية، تُعتبَر في أعين القائمين عليها العرب جهازًا سياسيًّا وإداريًّا في آن واحد. وتأتي هذه الفجوة بين التصوّرين أو التعريفين لخلق توتّر دائم بين الدوائر الحكوميّة وبين السلطات المحلّيّة. وبسبب هذا الدور السياسيّ، فإن مؤسسات المجتمع المدني غير قادرة وغير مخوّلة لأنّ تحتل دور السلطات المحلّيّة.


جاء في أحد المستندات الرسمية من سبتمبر/ أيلول 1959 (تحت تصنيف أمنيّ "سرّيّ جدًّا للمرسل اليه فقط" يحمل عنوان "توصيات لمعالجة شؤون الاقلية العربية في إسرائيل") أنّ هدف السلطات الإسرائيلية من إنشاء سلطات محلية في القرى العربية كان أولاً تحويل الصراع من صراع قومي بين العرب واليهود في الدولة إلى صراع بين العائلات في قراهم ومدنهم. وبهذا فإنها تقوّض أيضاً أية قوة سياسية عربية تتناقض وأهداف الدولة وأيديولوجيتها، كما تشغل السكان عن القضايا القومية والقطرية وتركز جلّ اهتمامها على السياسة المحلّيّة في القرية. بالاضافة إلى ذلك، تكمن أهمية السلطات المحلية في كونها قناة ووسيطًا بين الجمهور وبين السلطة ودوائرها المختلفة. وكي تقوم هذه السلطات بالمهامّ المنوطة بها، لا بدّ لها من إتقان دورها في تلبية مطالب أساسية للسلطة السياسية من جهة، وفي الحصول على الشرعية من جمهورها، من جهة أخرى. الأمر الذي يشير إلى تبعية هذه السلطات بشكل كبير جداً، وإلى وجوب سيطرة الذهنية البراغماتية عليها لتفي بمتطلبات المهام المنوطة بها. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها في أن تكون في مكان قيادي لجماهيرها. ويتضح ذلك جليًّا في ضوء غياب النقديّة في خطاب المهنيين في السلطات المحلية العربية، الامر المبرر في إطار الذهنية البراغماتية. وأقصد هنا بمفهوم "النقديّة" القدرةَ على الخروج من الاطار وعدم التقيد بمنطقه وبالمنظومة القانونية أو الادارية القائمة ونقدها من الخارج بناءً على أسس معيارية معينة. أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، توجّهي إلى أحد أعضاء بلدية سخنين بالسؤال حول "انجازات" البلدية أمام وزارة الامن وأمام سلطة المجلس الإقليمي "مسغاف" في مسألة إقامة معكسر للجيش الإسرائيلي محاذٍ جدًّا لسور مدرسة اعدادية في المدينة، حيث أجابني، وهو مهندس في مهنته، بأن البلدية "حققت إنجازاً كبيراً في إقناع ممثّلي وزارة الامن في تقليص المسافة بين حدود المعسكر وبين سور المدرسة من صفر أمتار إلى 250 مترًا" وبإقامة "سور حلو"(!). وعندما أعربت له عن دهشتي من حقيقة أنّه يطلق على هذا الامر "إنجازاً كبيراً"، أجابني بأنه هو والبلدية لم يتوقعوا أصلاً أن يُفلحوا في إقناع ممثّلي وزارة الامن بإبعاد حدود المعسكر ولو متراً واحداً، وبأنهم شرعوا قبل هذه المحادثات في بناء شريط معدنيّ "بشع"!


تأتي هذه الدراسة الاوليّة لتسلّط الضوء أيضًا على رسم بعض ملامح الخطاب والنشاط الإستيطانيين الصهيونيّين في العصر الحديث، إلى جانب الكشف عن العديد من ترسبات العهد القديم والاساطير الدينية والتاريخية اليهودية. ذلك أنّ توظيف مفاهيم ومنطلقات وتصوّرات ذات طابع أسطوري في مشروع أيديولوجي حديث، لا بدّ أنّ يترك أثره البالغ على سلوك وتصرف وتوجه القائمين على هذا المشروع، خاصّة أننا نشهد تعزّز أنماط من التديّن في المجتمع الإسرائيلي في العقدين الاخيرين. كما تكمن أهمية موضوع توظيف الديني في الخطاب الايديولوجي في تكوين هوية "محلية" للمستوطنين، تتضمن البعد المكاني، ممّا يدفع نحو تحويل المكان - على صعيد الوعي وعلى الصعيد الموضوعي - إلى "مكان يهودي".


إنّ الصهيونية، بمركباتها وعناصرها المكوّنة، هي المنظومة الأيديولوجية التي تنبثق منها العديد من محاور الصراع العربي الإسرائيلي، بصورة عامة، وهي المحاور ذاتها التي تقوم في صلب الصراع بين دولة إسرائيل وبين المواطنين العرب داخل الدولة. الصهيونية، أُسوة بالأيديولوجيات الاخرى، هي بُنية لمنظومة فكرية مترابطة تهدف إلى تنفيذ مشروع محدد، وتتكون من عدة عناصر وأسس مختلفة ولكنها متناغمة. من بين تلك العناصر والأسس والمفاهيم المكوّنة للأيديولوجيا الصهيونية والتي نُعنَى بها في هذه الدراسة: "أرض إسرائيل"، "خلاص الأرض"، "المكان"، "تهويد المكان"، "دولة إسرائيل كدولة يهودية". وسنحاول من خلال هذه الدراسة أنّ نوّضح لماذا نعتقد أنّ لبّ الصراع العربي الإسرائيلي يكمن في خصائص ومكونات الأيديولوجيا الصهيونية، كونها تُعتبَر الأيديولوجيا الرسمية لدولة إسرائيل، بمعنى أنّ الدولة حاملة راية الأيديولوجيا الصهيونية وتسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع، وكأن الأيديولوجيا تحوّلت إلى هدف قائم بحدّ ذاته. إنّ المفاهيم والعناصر التي إخترناها من مجمل العناصر والمفاهيم المركبة للأيديولوجية الصهيونية لها علاقة وثيقة ومباشرة بموضوع الأرض والإستيطان، وهو - بدون ادنى شك- احد المحاور الرئيسية للأيديولوجيا الصهيونية.


كما سيتبين لنا من خلال الدراسة أنّ "المكان" الذي لا يسيطر عليه فرد يهودي او أية هيئة او مؤسسة يهودية، ولا يعيش عليه يهود كأغلبية، وبالتالي كأصحاب السيادة عليه، لا يعتبر "مكانًا يهوديًّا"، وعلى الرغم من فرض سيادة الدولة اليهودية عليه يفتقد سمة اليهودية. ويرتبط ذلك ايضاً بموضوع الصراع على إحقاق "الحق التاريخي" لليهود في فلسطين. بكلمات اخرى: إنّ السيطرة اليهودية على مكان تأتي ايضاً كتجسيد للحق اليهودي على البلاد، ولا ينطبق ذلك على سيطرة يهودية على مكان خارج حدود "أرض إسرائيل". فعلى سبيل المثال، لا تمنح سيطرة فرد أو طائفة يهود على أرض في بلاد الجرمان اليهود كشعب أو كمجموعة إثنيّة أو كأفرادٍ الحقَّ عليها أو على أيّ جزء منها. ولكن الامر مغاير عند حديثنا عن "أرض إسرائيل" بحكم "التاريخ اليهودي" في البلاد، وبحكم "الوعد الالهي" الذي ورد ذكره في الكتب اليهودية المقدسة؛ ولا يتّضح هذا من خلال النصوص الصهيونية والإسرائيلية فحسب، وإنما أيضًا من خلال السواد الأعظم من الأبحاث والدراسات في شتى حقول الدراسة الاكاديمية (علم الآثار؛ التاريخ؛ الجغرافيا؛ علم الاجتماع؛ العلوم السياسيّة؛ "العلوم اليهوديّة" (مَدَعي يَهَدُوت)؛ تاريخ شعب إسرائيل؛ الفنون؛ الإقتصاد؛ القانون؛ وغيرها) في الأكاديميات الإسرائيلية.


تضم هذه الدراسة العديد من الطروحات المكملة الواحدة للأخرى، منها أطروحات ذات طابع نظري، وأخرى ذات طابع خاص بالحالة الإسرائيلية، وهي كالتالي:

1) من العسير جداً فهم عملية الإستيطان الصهيوني بشكل عميق دون العودة إلى مفاهيم يهودية مركزية وإدراكها، على صعيد تأويلاتها المختلفة في الفكر الصهيوني، مثل مفهومي المكان و"تهويد المكان" وأهميتهما في النسق الديني اليهودي.

2) إنّ النشاط الإستيطاني الصهيوني الحكومي لدولة إسرائيل ولدوائر الإستيطان الاخرى المختلفة يعكس الخطاب الإقصائي الإثني القائم في صلب الأيديولوجيا الصهيونية، على مختلف تأويلاتها المختلفة، المنسجمة بعضها ببعض أحياناً والمتعارضة أحياناً اخرى، بحيث تحوّلت الصهيونية إلى معيار أوليّ بديهي (a priori) يتم النظر إلى العالم وإلى الديناميكيات التي تحصل فيه من خلاله.

3) إذا تمعنّا في مكانة العرب الفلسطينيين في دولة إسرائيل عبر الخطاب والنشاط الإستيطانيين لدولة إسرائيل ولدوائرها الإستيطانية غير الحكومية المختلفة يمكننا القول إنهم بمثابة رعايا الدولة لا يشاركون الدولة في حيّزها ومداها الجغرافيين، فهم يعتبرون أفراداً وجماعات لا حيّز لهم، أشخاصاً مجردين من أبعادهم الحيّزية الجغرافية والتاريخية.

4) إنّ تطوراً بالغاً يحصل على صعيد المجتمع الإسرائيلي عموماً، وعلى صعيد التوجه الثقافي السياسي للمستوطنين في الجليل بشكل خاص. يندمج هذا التطور مع التوجه العام في إسرائيل الذي يجوب تخوم النصوص والتلال بحثاً عن جذور ثقافية اولية (دينية تاريخية) للمشروع الصهيوني ولشرعنة الوجود الصهيوني في البلاد. من شأن هذا التطور الأخير أّن يؤدي إلى تقارب بين التوجهات العامة للمستوطنين وبين تيارات سياسية يمينية ذات بعد ديني. وبالتالي سيؤدي هذا التطوّر إلى عداء وتصادم شديدين بين التجمعين المتداخلين: المجتمع العربي الفلسطيني في الجليل، ومجتمع المستوطنين. تكمن رؤية نتائج "هبّة أكتوبر" في عام 2000، على صعيد العلاقات بين المجتمعين، كنقطة تجسد جانبًا من هذا التحوّل الذي يأتي في سياق التطوّر العدائي التصادمي.

5) يقوم الخطاب الإستيطاني الصهيوني في الجليل - وفي سائر أنحاء فلسطين التاريخية - في بعض وجوهه، على حقّ اليهودي (ولا يُشترط أنّ يكون مواطنًا في الدولة) في الإستيطان في حدود "أرض إسرائيل" (وهو مفهوم غامض على الصعيدين الديني والسياسي)، وعلى أنّ "بيت" اليهودي هو ذلك المكان الذي إختار هو بذاته الإقامة عليه، او إختارت له إحدى دوائر الإستيطان الصهيوني ذلك. في حين يتسم الخطاب العربي - كما يتجلى في خطاب قيادات المجتمع العربي الفلسطيني في البلاد على تنوعها - بكونه خطاباً محلياً يصبّ جلّ إهتمامه على حدود قرية او مدينة عربية معينة، وفي المطالبة بتوسيع هذه الحدود من دون أنّ يعتبروا "كل البلاد" بلاداً لهم يحق لهم الإقامة في حدودها. هنالك بعض المحاولات الفردية للخروج من هذا الخطاب المحلي الضيق (مثل قضية عائلة قعدان، على سبيل المثال)، بيد أنه لم يتمّ تبنّيها على صعيد القيادات القطرية والمحلية، بالاضافة إلى إحتماليّة كونه خطابًا يبتغي تحدّي الخطاب الليبرالي للدولة فقط.

6) لأسباب عديدة ومختلفة غاب البعدان التاريخي والحيّزي للفرد وللفئات البشرية المختلفة عن الفكر النظري. ذلك الفكر الذي يقوم في صلب النظريات الاجتماعية والسياسية المختلفة. وقد تطور هذا الفكر النظري بالأساس من خلال التيارين الليبرالي والاشتراكي، اللذين تجاهلا هذين البعدين. من جانب آخر فقد تأسس الخطاب القومي بشكل مركزي على هذين البعدين. لهذا فان الخطاب القومي غريب عن المنطلق الفكري النظري لمختلف هذه النظريات الاجتماعية والسياسية. وثمة حاجة ماسّة إلى إعادة هذين البعدين إلى هذا المنطلق الفكري النظري، ليتحقق نوع من التناغم، وليكون في الامكان مقارعة الخطاب القومي من خلال هذه النظريات الاجتماعية والسياسية.

7) وعليه فإنّ الإنطلاق من نظريات إجتماعية وسياسية، ليبرالية المصدر أو إشتراكيّته، لمقارعة الدولة الحديثة أو ما بعد الحديثة لتحسين ظروف الأقليات القومية فيها من الصعب جداً ان تبلغ أهدافها، وذلك لأن الأسس المعيارية والأيديولوجية للدولة هي أسس قومية تعتمد على محوري الزمان والمكان ("التاريخ اليهودي في البلاد"، و"أرض إسرائيل" في حالة الخطاب الصهيوني) لشرعنة سلوكياتها ومشروعها الإستيطاني وغيره، بينما تقوم النظريات الاجتماعية والسياسية على أسس معيارية تجرد الفرد والمجموعة من بعديهما التاريخي والمكاني. وعليه فإنهما إطاران مختلفان لا يلتقيان الا في نقطة واحدة، وهي استخدلم الدولة للخطابين الاجتماعي والسياسي أداة لخدمة المشروع القومي فقط. وهذا فعلاً ما نحن بصدده في البلاد، فالخطاب الليبرالي او الديموقراطي ليس سوى خطاب أداتي يأتي لخدمة المشروع الصهيوني، كنموذج لدولة تحمل أيديولوجيا معينة وغير حيادية في طابعها كحال معظم الدول في العالم. ولا يهدف هذا الخطاب الأداتي بالضرورة إلى تحسين شروط حياة المواطن بمعزل عن خلفيته الإثنية، ففي حالة تعارض المطلب الديموقراطي مع المطلب اليهودي أو الصهيوني تكون الغلبة للأخير في جميع الدوائر الحكومية والتمثيلية السياسية في البلاد، سواء أكان ذلك في الكنيست (كجهاز تمثيلي سياسي)، أو في الدوائر الحكومية (كجهاز تنفيذي)، أو في أجهزة القضاء المختلفة.

فصول الدراسة

سنتمحور في الفصل الاول في عرض الخلفية النظرية التي تستند إليها الدراسة، والاشارة إلى الخصوصيات الإسرائيلية التي تحدّ من الاستعانة بالادبيات النظرية المختلفة. ويأتي هذا الفصل ليسلط الضوء على العديد من المفاهيم والتعابير المنتشرة في الخطاب العام وفي الادبيات البحثية، ولكنها غالباً تعكس معاني مغايرة، الامر الذي يحدّ بطبيعة الحال من قدرتنا على فهم الواقع والكشف عن تركيباته وعناصره التكوينية والمهيمنة.


يعتبر الإستيطان أحد أهم العناصر في الأيديولوجية الصهيونية وفي أهدافها. وللكشف عن بعض سِماته، يأتي الفصل الثاني ليمدّنا بالبعد التاريخي للإستيطان الصهيوني في منطقة الجليل.

أمّا في الفصل الثالث، فسنتوقف عند عرض حيثيات إنشاء المجلس الإقليمي مسغاف وسياقات الشروع بإقامة المستوطنات اليهودية في منطقة الجليل كجزء من الجهد الصهيوني لتهويد البلاد.

يأتي الفصل الاخير ليكشف عن خصائص سياسية وأخرى ثقافية للمستوطنين في المستوطنات الخاضعة لسلطة المجلس الإقليمي مسغاف، وذلك بهدف الكشف عن سِمات الهُويّة التي يفترض أنّها تشكّل أحد أهداف هذا الإستيطان. ويهدف هذا الفصل كذلك إلى الكشف عن نوعية العلاقة بالسكان العرب في الجليل كجزء من الحيّز المكاني الذي من المفروض أنّ يعيش المستوطنون فيه. ولكن يتضح في نهاية الدراسة أنّ الجليل كحيّز مكانيّ يضمّ حيّزين إثنين منفصلين: الحيّز المكاني العربي والحيّز المكاني الصهيوني أو اليهودي. وإنّ كانت ثمّة علاقة بين هذين الحيّزين فإنّها غالباً ما تتّسم بالسطحيّة، وبجهد لخلق تبعيّة الطرف العربي للطرف الصهيوني.


بدأتُ الاهتمام بموضوع "مسغاف" بعد أنّ تنبهت إلى الإشارات في الطرقات، التي ترشد المسافرين إلى إتجاه "مسغاف"، وبعد أنّ لاحظتُ مدى إتّساع رقعة الأرض التي تقع في حدود سلطة "مسغاف"، والتي تمكن ملاحظتها أيضًا من خلال الاشارات التي تشير إلى نقطة الدخول إلى منطقة النفوذ أو السيادة. توجهت في أعقاب الإشارات المثبتة على الطرقات نحو "مسغاف"، وأنا أسكن في مدينة سخنين التي تبعد عن بناية المجلس الإقليمي "مسغاف" اقلّ من كيلومتر واحد. سألت بعض المشاة في المنطقة عن "مسغاف"، فأشاروا بإتجاه بناية قريبة "إنّ مسغاف هي تلك البناية". ظننت أنني لم أكن واضحًا في صياغة السؤال، او ربما لم يفهم السؤال، فكررته عليهم مرة اخرى، فأشاروا ثانيةً إلى البناية ذاتها بانها "مسغاف". إقتربت من واجهة البناية ولاحظت كتابة تعرِّف بالبناية: "المجلس الإقليمي مسغاف". دخلت البناية وتوجهت إلى إحدى الموظفات هناك بالسؤال حول "اين تقع مسغاف المدينة، لا المجلس؟" تيقنت من خلال نظرتها أنّ شيئاً ما في السؤال مبهم، وأجابتني مستغربة إنّ هذه البناية هي "مسغاف"! وأردفت قائلاً انني أتساءل حول المدينة أو البلدة "مسغاف" لا عن مجلسها او عن إدارتها. أجابتني إنّ "مسغاف هي ما تراه حولك"، إنها مجلس إقليمي، لا إسمٌ لمنطقة سكنية أو لمدينة. إنّما هي مجلس إداريّ فقط.

بعد أنّ شرعتُ في جمع المعلومات حول المستوطنات الخاضعة لسلطة المجلس الإقليمي "مسغاف"، لاحظت أنّ مصادر مختلفة، نشرت في سنين متقاربة، تطلعنا على معلومات متباينة، على صعيد العديد من أسماء المستوطنات وعددها، وتعداد سكانها؛ وأدركت، بعد فترة ليست قصيرة، أنّ المصادر دقيقة جدًّا، لكنها غير مُحَتْلَنة، حيث أنّ المعلومات حول هذه المستوطنات تتغير وتتبدل في أوقات قصيرة جدًّا، وهو ما يتطلب جهداً عظيمًا لمتابعته. هذا التسارع في مضمون "الصورة" إنّما يشير إلى تسارع في التحوّلات التقنيّة، ولكنه بالطبع لا ينفي بتاتاً الثبات في الأهداف من وراء هذا الإستيطان في الجليل، كما هو الامر في ما يتعلّق بالإستيطان في جميع أنحاء فلسطين التاريخية.


إن "مسغاف" المدينة التي بحثت عنها لم تكن قائمة، إنّها مجرد "بناية" تضم داخلها جهازًا بيروقراطيًّا، يسيطر على نحو 200 الف دونم من الأراضي في الجليل، بمعدّل 16.7 من الدونمات للفرد، بينما تبلغ مساحة منطقة نفوذ 22 بلدة عربية في الجليل، بتعداد سكّانيّ يبلغ 225 ألفًا، نحو 215 ألف دونم من الأراضي (بمعدّل أقل من دونم للفرد). إنّها، بعبارة اخرى، مبنى ينطوي على فكرة، يسعى متبنّوها إلى تحقيقها، وتتلخص بعبارة "تهويد الجليل"، ولبلوغ ذلك فإنّها تستعين بجهاز بيروقراطي. تمتد حدود سيادة هذا الجهاز البيروقراطي من الطرف الشرقي لمدينة عكا (من قريتَي الجديدة وكفر ياسيف) غرباً، حتى قريتَي المغار والرامة شرقاً، ومن القرى القريبة من الحدود اللبنانية شمالاً، حتى سهل البطوف جنوباً. كما يقدّم هذا الجهاز خدمات لسكان 28 مستوطنة تخضع لسلطته المحلية، بالاضافة إلى خمسة تجمعات سكنية بدوية تم الاعتراف بها في السنين القليلة الماضية: الضميدة، والكمانة، وعرب النعيم، ورأس العين، ووادي سلاّمة.


إعتمدت الدراسة على أدوات بحثية متنوعة، منها المتبعة في العلوم الاجتماعية ومنها في العلوم الإنسانية. فقد إعتمدت بالدرجة الاولى على مشاهدات ومقابلات شخصية، بالإضافة إلى قراءة أدبيات ونصوص مختلفة للمستوطنين ومستندات رسمية لدوائر حكومية أو شبه حكومية (الوكالة اليهودية). وقد تم اختيار المستوطنين عن طريق العلاقات، فكل مستوطن كان يعرّفني على آخر وهكذا. وتجدر الإشارة إلى أنّ عددًا كبيرًا ممّن توجّهت اليهم رفضوا عقد مقابلة رسمية، ولكن بعضهم كان مستعدًّا أنّ يجيب عن بعض الاسئلة دون تسجيل صوتيّ ودون ذكر الاسم. وقد اخترت في النهاية عدم ذكر الاشخاص الذين أجريتُ معهم مقابلات ممّن ليسوا ذوي وظائف رسمية في المجلس الإقليمي مسغاف.

اعتمدت كذلك في بعض الاحيان على التحليل النصيّ، النصّ الشفهي والنصّ الكتابي، كمحاولة للكشف عن مضامين اخرى يمكن لها أنّ تسلط ضوءًا مختلفًا على ما يمكن لنا كشفه من خلال الاستعانة بأدوات تحليلية أو بحثية اخرى.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات