المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مدخل

يعد جهاز القضاء المدني في إسرائيل جهازاً قوياً وهناك من يقول إنه أقوى من اللازم في مجالات معينة. فهو يأمر الجيش والمؤسسة الأمنية في شأن كيفية التصرف والسلوك، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم تحدث قط حالات "رفض لأوامر" أو عدم انصياع لأوامر وتعليمات المحكمة العليا حتى في الحالات التي قوبلت فيها هذه الأوامر بفتور وعدم إرتياح. فالوضع المتبع في أية دولة ديمقراطية يقضي بخضوع المستوى العسكري للمستوى المدني، وحتى في الأوقات التي تهدر فيها المدافع فإن الكتب والمراجع القانونية لا تصمت.

في السياق التالي سنتفحص رقابة المحكمة العليا، بصفتها محكمة عدل عليا، على الجيش الإسرائيلي، بمعنى إلى أي حد تتدخل المحكمة وما هي حدود التدخل المرغوبة.

لهذا الغرض سنسوق هنا عرضاً تاريخياً موجزاً، يحتوي على شواهد هامة في العلاقات بين المحكمة العليا وبين الجيش الإسرائيلي، ويتفحص الوضع الراهن بل ويحاول إعطاء تقدير بشأن رقابة المحكمة العليا على الجيش الإسرائيلي في المستقبل.

عرض تاريخي لرقابة المحكمة على الجيش الإسرائيلي:

عند تفحص تاريخ جهاز القضاء المدني في نشاطات وعمليات الجيش، يتبين أن الحديث يدور عن تاريخ قصير نسبياً، لكنه حافل بتطورات كثيرة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن المحكمة العليا لا تبادر إلى إجراء نقاش ومداولات تتناول مواضيع حساسة، وإنما تنظر في التماسات تقدم لها. الإلتماس الأول الذي قدم للمحكمة العليا، والذي دعا إلى تدخل جهاز القضاء في ما يجري داخل الجيش، كان في العام 1975.

تدخل في مواضيع أنشطة تنفيذية

في عام 1975 قدم السيد موطي إشكنازي إلتماساً للمحكمة العليا طلب فيه من المحكمة أن توعز للجيش الإسرائيلي بإجراء تحقيقات وتحريات تنفيذية واستخلاص العبر وذلك استناداً لتقرير لجنة "أغرانات" (التي حققت في ظروف وتداعيات حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973). غير أن رئيس المحكمة العليا في ذلك الوقت، القاضي مئير شمغار، رد الإلتماس معللاً ذلك بالتأكيد على وجود مسائل لا تقبل إخضاعها أو البت فيها قضائياً، وهو موقف لا يزال شمغار يتمسك به حتى الآن.

وجاء في ما كتبه شمغار في قراره:

"حسب رأيي فإن المواضيع المرتبطة بتنظيم الجيش وبنيته الهيكلية واستعداداته وتسلحه وعملياته غير قابلة للتداول القضائي، من حيث أنه ليس من الملائم خضوعها لأي نقاش أو بت من جانب هيئات القضاء.

وهذا ينطبق في شأن طرق وأساليب النقاش والبحث والبت والحسم في الجيش، وكذلك تدريب قواته وتوجيهها وتعبئتها. ليس من المنطقي أبداً وقطعياً أن تقوم سلطة قضائية بالنظر والبت في شأن الطريقة الأنجع من ناحية عسكرية مهنية، لإستخلاص العبر من عمليات تنفيذية، وأن تحل وجهة نظرها مكان وجهة نظر سلطات عسكرية. ] ... [ وعليه أعتقد أن مسألة التحقيقات التنفيذية هي مسألة غير قابلة نهائياً للتداول القضائي".

هذه القاعدة ظلت قائمة بعينها، ويمكن القول إن المحكمة لن تميل إلى التدخل في النشاطات التنفيذية بل ستبقي القرار بشأن وجهة النظر المهنية للجيش.

ولكن ما الذي يحدث في مواضيع إعتيادية أكثر، مثل موضوع التعيينات في الجيش؟.

تدخل في مسائل التعيينات في الجيش:

يعتبر موضوع التعيينات في الجيش من المواضيع الهامة والحساسة. فمن جهة لا شك في أن إحدى الصلاحيات الواضحة المخولة لرئيس الأركان هي صلاحية التعيينات. وحيث أن مسؤولية أداء وسير عمل الجيش ملقاة بالدرجة الأولى على كاهل رئيس الأركان – وهذا ما ثبت في الماضي – فإنه يجب تمكينه من اتخاذ القرار بشأن من يجب تعيينه وفي أي منصب.

من جهة أخرى فقد طرح الموضوع عدة مرات للبحث والنقاش أمام محكمة العدل العليا، وبالتالي فإنه لمن الجدير معرفة كيف تطورت نظرة المحكمة إلى هذا الموضوع.

في الحالة الأولى، سنة 1983، قدم التماس ضد تعيين عيدنا بئير في منصب رئيس دائرة البرامج في محطة إذاعة الجيش الإسرائيلي. هذا الإلتماس قدم من قبل لجنة المستخدمين في محطة الإذاعة العسكرية، ضد قرار رئيس هيئة الأركان، رفائيل إيتان، بتعيين "بئير" في هذا المنصب، وذلك بدعوى أنها غير مؤهلة وغير ملائمة لتولي المنصب. لا شك في أن الأمر يشكل اختباراً مثيراً، ذلك لأن الحديث يدور هنا، وعلى عكس ما يتعلق بساحة القتال، عن تعيين إداري. وقد كان قرار القاضي شمغار على النحو التالي:

"من ناحية عملية فإن المسألة الخلافية التي نقف بصددها تتلخص في قضية واحدة ووحيدة وهي: ما هي حدود صلاحيات الجيش عندما يقبل على إشغال منصب عسكري، في وحدة عسكرية، بواسطة شخص في الخدمة النظامية؟ هذا الموضوع لايمكن أن يكون فيه أو حوله أدنى شك، وهو أن شأناً من هذا القبيل يخضع كلياً لوجهة نظر السلطات العسكرية ذات العلاقة. فالمؤسسة العسكرية مبنية بموجب هرمية قيادية ] ... [ لهذا السبب نحن لسنا بوارد اتخاذ أو تمرير قرارات عسكرية مبدئية تحت طائلة قوارع النقد".

في الحالة الثانية، عام 1996، قدم التماس من جانب أهال ثكلى ضد قرار رئيس هيئة الأركان تعيين الكولونيل موني حوريب قائداً لمدرسة الضباط.

كان الجندي يناي شوشان قد قتل في نشاط تنفيذي بينما كان "حوريب" يتولى منصب قائد اللواء الذي انتمى "شوشان" لصفوفه، وقد توصلت النيابة العسكرية إلى استنتاج بوجوب تقديم "حوريب" للمحاكمة.

بعد عدة أيام من قرار النيابة العسكرية، أعلن رئيس الأركان عن قراره تعيين "حوريب" قائداً لمدرسة الضباط، وهو منصب رفيع ذو بعد تربوي وقيمي. حجة ذوي الجندي – القتيل – شوشان، كانت في مؤداها أن الضابط المذكور غير جدير بهذا التعيين، وأنه لا يعقل تعيين وترقية شخص يواجه المحاكمة بتهمة التسبب بموت جندي، لمثل هذا المنصب الرفيع. توصلت محكمة العدل العليا، في هيئتها المكونة من رئيس المحكمة أهارون باراك والقاضيين الياهو ماتسا واسحق زامير، إلى استنتاج بوجوب تفحص وجهة نظر واعتبارات رئيس الأركان. وكتب رئيس المحكمة باراك في قراره إن "وجهة نظر رئيس الأركان ليست مطلقة .. وأن رئيس الأركان، كأية سلطة عامة، هو قيّم عام، لا ناقة له ولا جمل".

وكان السؤال المطروح أمام المحكمة العليا: هل تعتبر وجهة نظر رئيس الأركان خارجة عن نطاق المعقول؟ هل يمكن القول إن وجهة النظر هذه شاذة وبعيدة عن التوازن المطلوب لدرجة أن أي رئيس أركان آخر ما كان ليتوصل إلى تلك النتيجة ذاتها؟.

لقد توصلت المحكمة إلى استنتاج مؤداه أن قرار رئيس الأركان لا يخرج عن المعقول ولا ينطوي على ما يبرر تدخل محكمة العدل العليا.

وجاء في ختام قرار الحكم: "كقضاة لن نحل وجهة نظرنا وحكمنا مكان وجهة نظره وحكمه ] ... [ لقد تصرف رئيس الأركان في نطاق المعقول". بمعنى أنه وخلافاً للرأي الحاسم الذي أعطاه القاضي شمغار في قضية عيدنا بئير بشأن عدم تدخل المحكمة العليا في قرار السلطات العسكرية، فإن القضاة يقررون في الحالة التي نحن بصددها بأن ثمة مجالاً لتفحص وجهة نظر وقرارات قادة الجيش. والإختبار أو المحك الذي ينبغي استخدامه هو "إختبار المعقولية"، ولو أن القضاة توصلوا إلى نتيجة بأن الحديث يدور بالفعل عن قرار يخرج عن المعقول، لكانوا - وهذا في نطاق صلاحياتهم- قد ألغوا القرار.


المثال الثالث حول إلتماس للمحكمة العليا في موضوع التعيينات داخل الجيش، يتعلق بالتماس نير غاليلي.

والأخير ضابط برتبة ميجر جنرال أقام علاقات حميمية مع موظفة من مرؤوساته، وبعد افتضاح أمر هذه العلاقة أوصى المدعي العسكري الرئيس بعدم ترقيته في الرتبة والمنصب لمدة ثلاث سنوات. قدّم الميجر غاليلي لمحاكمة إنضباطية إنتهت بالفعل بعدم ترقيته طوال الفترة المذكورة. وبعد إنقضاء المدة (3 سنوات) قرر رئيس الأركان تعيين "غاليلي" قائداًً لفرقة عسكرية وترقيته إلى رتبة جنرال، بحكم هذا المنصب، وصادق وزير الدفاع على التعيين. إلاّ انه جرى تقديم التماس للمحكمة ضد هذا التعيين، فقررت المحكمة العليا بهيئة مكونة من ثلاثة قضاة إلغاء التعيين.

وقد رفضت المحكمة مجمل اعتبارات رئيس الأركان، الذي ميّز بين سلوك "غاليلي" غير الأخلاقي وبين كونه قائداً جديراً بالمنصب، وأكدت المحكمة أن رئيس أركان منطقيا ما كان ليتخذ مثل هذا القرار. وكانت هذه هي المرة الأولى، والأخيرة حتى الآن، التي تدخلت فيها المحكمة العليا بشكل سافر في قرارات رئيس الأركان.

وجاء في نص قرار المحكمة:

"أكدنا في قرارنا على عدم ترقية المدعى عليه في الرتبة، ولم نر أنه يجب عدم ترقيته في المنصب، والسبب هو أن الرتبة ترمز إلى وضعية، والترقية في الرتبة هي بمثابة مكافأة أو شهادة تقدير، وهذا ما لا يستحقه المدعى عليه."

قرار المحكمة أفضى إلى نتيجة غريبة، فالمحكمة العليا قررت من جهة أنه يمكن تعيين المدعى عليه في المنصب، وأنه لا يجوز من جهة أخرى ترقيته إلى رتبة جنرال؟!

إن من عاش وعرف حياة وواقع الجيش يدرك أن كبار الضباط يتطلعون في الكثير من الحالات لترقيتهم في المنصب، دون أن يأبهوا بالرتبة التي تعتبر ثانوية. وقد تصرف الجيش هنا بحكمة واستقامة حيث قرر أنه إذا كان الميجر جنرال "غاليلي" غير جدير بالحصول على رتبة جنرال، فإنه غير أهل أيضاً لتبوؤ منصب قائد فرقة عسكرية.

يتعلق المثال الرابع بالتماس ضد تعيين المقدم "إيرز" في منصب قائد وحدة الكوماندوز البحرية 13، ففي هذه الحالة امتنعت المحكمة العليا عن التدخل، وتكرار القرار الذي اتخذته قبل ذلك بفترة قصيرة في الإلتماس المتعلق بغاليلي.

وكان المقدم "إيرز" محل اشتباه في الماضي بتحمل مسؤولية قتل محتجز فلسطيني وهو مكبل بالقيود، ومع ذلك فقد تقرر ترقيته.

رئيس المحكمة العليا، القاضي أهارون باراك، رفض الإلتماس ضد التعيين مؤكداً في قراره: "من المسلمات أن رئيس الأركان هو المستوى القيادي الأعلى في الجيش، وقد إئتمنته الدولة على أمنها. كقضاة نحن لا نحل وجهة نظرنا مكان وجهة نظره. ونحن لا نسأل فيما إذا كنا سنتصرف بالشكل الذي تصرف به، وإنما نسأل إذا ما كان رئيس أركان منطقي عاقل سيتصرف مثله. استناداً لهذه المعايير، اعتبرنا أن رئيس الأركان تصرف في نطاق المعقول".

والسؤال، ألا ينطوي هذا القرار على "توبة" عن الأيام التي سبقت قرار الحكم في موضوع غاليلي؟. هذا ما نترك الإجابة عليه للمستقبل.

يتحدث يهودا بن مئير، نائب وزير الخارجية الأسبق، عن مقابلة له مع اسحق رابين، روى فيها الأخير (رابين) أنه وخلال توليه لمنصب رئيس الأركان، ضغط عليه رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ليفي أشكول، من أجل تعيين عيزر وايزمان رئيساً لقسم العمليات في الجيش، وأنه (رابين) استجاب لهذه الرغبة.

تجدر الإشارة إلى أن رئيس الأركان مخول بالفعل بتبني موقف وزير الدفاع، لكنه غير ملزم بذلك ولا يحق للوزير أن يفرض التعيين عليه.

وفي هذا السياق يمكن طرح مثال لافت للنظر فيما يتعلق بصلاحية وزير الدفاع في أن يفرض تعييناً أو على الأدق أن ينهي تعييناً.

ففي فترة ولاية رئيس الأركان موشيه ليفي، كان له نائبان – دان شومرون، الذي ترك المنصب وبقي في هيئة الأركان، وأمير دروري الذي بقي نائباً لرئيس الأركان. وعندما تقرر تعيين دان شومرون رئيساً للأركان المقبل، صرّح أمير دروري في مقابلات أدلى بها لوسائل الإعلام أن تعيين دان شومرون رئيساً للأركان يلحق ضرراً بدولة إسرائيل أشد من ضرر المنظمات الفلسطينية المسلحة.

في أعقاب هذا التصريح الخطير والقاسي وصلت رسالة بإمضاء وزير الدفاع في ذلك الوقت، اسحق رابين، أمر فيها رئيس الأركان بإقالة نائبه أمير دروري خلال 24 ساعة، وفي مشاورات جرت في مكتب رئيس الأركان بشأن كيفية التصرف، قال رئيس الأركان بأنه غير معني بإقالة دروري، معتقداُ أنه ليس من صلاحية وزير الدفاع أن يقرر في شأن التعيينات بالجيش، وأن هذه الصلاحية مخولة لرئيس الأركان.

وجهة النظر التي قدمتها لرئيس الأركان، كمدع عسكري رئيسي، تمثلت في أنه (رئيس الأركان) غير ملزم بالإنصياع لمثل هذا الأمر، ذلك لأنه لا يلزمه طالما كان هو المستوى القيادي الأعلى في الجيش، وأنه هو المخول بالتعيين أو الإقالة (بالخضوع لمصادقة وزير الدفاع). ولكن الأمر يختلف في الحالات التي يقرر فيها وزير الدفاع طرح الموضوع للنقاش في الحكومة المخولة باتخاذ قرار بإقالة رئيس الأركان أو نائبه. فطالما أن الجيش يخضع لسلطة الحكومة، فإن الصلاحيات تعود لها.

دوف شافي، الذي عمل في ذلك الوقت مستشاراً قانونياً لوزير الدفاع، قدم وجهة نظر مغايرة، قضت بأن وزير الدفاع مخول بالفعل بإصدار أوامر بإقالة نائب رئيس الأركان. وهكذا نشأت أزمة دستورية عويصة بين رئيس الأركان ووزير الدفاع، والتي لم تصل لحسن الحظ إلى أروقة القضاء، إذ تم التوصل إلى تسوية للمشكلة. فبعد مناقشات طويلة اعتذر أمير دروري عن تصريحاته غير الموفقة وتراجع وزير الدفاع عن طلبه بإقالته.

مراقبة جهاز القضاء لنشاطات الجيش في المناطق (الفلسطينية)

تشكل المحكمة العليا "منارة" للمحافظة على حقوق الإنسان في المناطق. فهي تدافع عن حقوق السكان الفلسطينيين وتراقب أنشطة وعمليات الجيش الإسرائيلي في هذه المناطق.

لذا من الجدير أن نسوق عدداً من الأمثلة على قرارات المحكمة العليا في هذا الصدد.

في أثناء الإنتفاضة الأولى قضت المحكمة العليا بأنه لا يجوز هدم بيوت دون منح أصحابها حق الإعتراض قضائياً ... وقد تقرر في أعقاب هذا القرار منح المواطن الفلسطيني الذي يصدر أمر بهدم منزله، مهلة أربع وعشرين ساعة لعرض وجهة نظره أمام القائد العسكري ومهلة مماثلة من أجل تقديم التماس للمحكمة العليا.

مثال آخر، يتعلق بحكم المحكمة العليا سنة 2000 في شأن الإعتقالات الإدارية. وطبقاً لهذا القرار فإن الإعتقالات الإدارية مسموحة فقط لإعتبارات أمنية وليس لغرض احتجاز المعتقلين كـ "ورقة مساومة". وقد وضع هذا القرار مصاعب قيدت أجهزة الأمن، لكن الأخيرة انصاعت للقرار.

كذلك اضطرت المحكمة العليا للبت في مسألة حساسة أخرى وهي تحقيقات جهاز الأمن العام (مخابرات "الشاباك"). الإلتماس الأول، في هذا الشأن، قدم سنة 1994 غير أن المحكمة العليا لم تصدر قرارها في الموضوع سوى في العام 1999. ولم يكن ذلك ناتجًا عن تباطؤ أو تقاعس من جانب المحكمة وإنما لأنها إنتظرت أن تبت الحكومة في المسألة. ولكن بعدما جرى سن قانون جهاز "الشاباك" دون أن يتضمن أي ذكر لموضوع التحقيقات قررت المحكمة العليا تحريم اللجوء للتعذيب كوسيلة تحقيق. وبمعزل عن القرار نفسه، فإن من الجدير بالإشارة أنه ومنذ لحظة طرح الموضوع على المحكمة العليا، لا يتوقع أن تستطيع المحكمة تجاهل أي عمل غير قانوني أو أن تضفي الشرعية عليه.

توجهات مستقبلية في مراقبة جهاز القضاء للجيش الإسرائيلي:

يبدو، فيما يتعلق بالتوجهات المستقبلية لمسألة مراقبة جهاز القضاء للجيش، أن شيئاً جوهرياً لن يطرأ أو يتغير. فالمؤسسة العسكرية ترحب غالباً برقابة جهاز القضاء المدني. والسؤال المطروح للنقاش هو درجة كثافة التدخل ودرجة الرقابة.

ففي أوقات الحرب أو الصراع العنيف – كما هو الوضع حالياً – يتعين على المحكمة أن تتوخى ضبط النفس في سلوكها، وهي بالفعل تسلك هذا السلوك إلى حد بعيد. في الإنتفاضة الثانية، التي اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2000، دعيت المحكمة العليا للتعامل مع التماسات أثناء حالة القتال، وعلى الرغم من أن المحكمة ردت معظم هذه الإلتماسات، إلاّ انها قررت مع ذلك النظر فيها.

في الخطاب الذي ألقاه رئيس المحكمة العليا، أهارون باراك، في مؤتمر هرتسيليا سنة 1999، توقع "باراك" أن ينشأ توتر وخلاف بين المحاكم والقطاع الأهم في المجتمع الإسرائيلي – الجيش. وقال "باراك" إن التوتر بين الجهازين، العسكري والقضائي، سيتجه نحو المزيد من التفاقم والإحتدام بمقدار ما تواصل المحاكم إبداء رأيها وتزيد من تدخلها في مسائل تقع ضمن اختصاص الجيش. غير أن هناك رأياً يقول – وتلك هي بالضبط نقطة الخلاف – إن على المحكمة العليا الحد من تدخلها في المسائل التي تتدخل فيها.

فهناك حالات وأمثلة عديدة لم يكن ثمة ما يبرر تدخل المحكمة العليا فيها، مثل رأي الأقلية بالإيعاز للمدعي العسكري الرئيسي بالإستئناف على العقوبة في حادث "تسئليم ب" لأنها لم تكن عقوبة صارمة بدرجة كافية، أو تدخل المحكمة العليا في قضية "العفو" المتعلقة بـ رامي دوتان، والتي قررت فيها لجنة عسكرية، من خلال ما تمتعت به من استقلالية تامة (وكان ذلك في الواقع خلافاً لرأي وزير الدفاع)، إخلاء سبيل دوتان، إضافة إلى حالات تمت الإشارة إليها آنفاً.

أخيراً فإنه يجدر بنا أن نتفحص في هذه الأيام الوضع في الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001.

فالولايات المتحدة، والتي تعتبر حساسة تجاه موضوع حقوق الفرد وحرية التعبير في الدول الأخرى، تظهر توجهاً أكثر حزماً وصرامة فيما يتعلق بهذه الحقوق داخل حدودها. ومن المثير أن نتأمل في هذا الصدد قرارات المحاكم في الولايات المتحدة التي صدرت في الفترة الأخيرة.

على سبيل المثال قضية أحد المعتقلين (ياسر حمدي) المحتجزين في معسكر الإعتقال الأميركي في غوانتانامو – كوبا، حيث طلب الإلتماس بإحضار المعتقل للمثول أمام قاض أي (habeas corpus) . ظاهرياً يبدو ذلك طلباً مألوفاً ومنطقياً، غير أن محكمة الإستئناف الأميركية ردت الإلتماس بقولها إن الأمر يتعلق بحالة حرب وأن المعتقل هو (Combatant enemy) ، أي مقاتل من قوات العدو، ولذلك ليس للمعتقل الحق في مقابلة محام أو المثول أمام قاضٍ أو محكمة في الولايات المتحدة، وأن المحكمة غير مخولة بالنظر في ما يحدث خارج حدود الولايات المتحدة كما ليس من صلاحيتها بحث ظروف ومدة أو استمرار اعتقاله. واللافت أن القضاة إقتبسوا، من أجل تدعيم وإسناد هذا الموقف، قرار حكم صدر في العام 1950، خلال الحرب الكورية، حيث سأل القضاة أثناء تلك القضية، هل من المنطق إزعاج قائد عسكري منهمك في القتال خارج البلاد، وإحضاره إلى الدولة (الولايات المتحدة) كي يدافع عن نفسه أمام المحكمة؟! وكان الرد سلبياً.

هذه المفارقة لا يمكن أن تغيب عن الأنظار الإسرائيلية، لا سيما في ضوء إحتجاجات الماضي التي قدمها السفراء الأميركيون الذين كانوا يحتجون مراراً وتكراراً ضد سياسة الطرد التي اتبعتها إسرائيل (ضد الفلسطينيين).

أختم بأقوال رئيس المحكمة العليا المتقاعد مئير شمغار الذي صرح مؤخراً في مقابلة صحافية بأن "هناك أمور لا تقبل المحاكمة".


من هنا فإن رقابة المحكمة العليا تعتبر في منتهى الأهمية، ولكن كل شيء يظل نسبياً وفي حدود.

(*) قاض متقاعد أشغل في السابق منصب المدعي العام العسكري الرئيسي. المقالة أعلاه جزء من محاضرات ألقيت خلال يوم دراسي في معهد "يافه" للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب حول ماهية العلاقات بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. وستصدر قريبًا الترجمة العربية الكاملة لمحاضرات هذا اليوم الدراسي عن "مدار".

المصطلحات المستخدمة:

باراك, نائب وزير

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات