المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا تخرج الحملة العسكرية، التي جرّدتها إسرائيل ضد قطاع غزة، عن السياق العام للمحاولات الإسرائيلية الدؤوبة، الرامية إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وفرض الإملاءات السياسية عليه، بوسائل القسر العسكرية.

فمنذ أن اندلعت الانتفاضة قبل أكثر من أربعة أعوام، كردّ على تهرّب إسرائيل من استحقاقات عملية التسوية، وعلى محاولاتها فرض الاحتلال بالأمر الواقع، اعتمدت إسرائيل الطريق الأمني، المتمثل بالمواجهة العنيفة لقصم ظهر الانتفاضة، ورفعت شعارات من مثل: "دعوا الجيش يعمل.. دعوا الجيش ينتصر"؛ "لا مفاوضات في ظل الإرهاب"؛ "إسرائيل تدافع عن وجودها وبقائها"؛ "إسرائيل تخوض حرب استقلالها الثانية" (الأولى عن البريطانيين بحسب الادعاءات الإسرائيلية)!

وطوال المرحلة الماضية تمت ترجمة هذه الشعارات بإطلاق يد القوى الأمنية الإسرائيلية بأعمال القتل والتدمير ضد الشعب الفلسطيني. وبحسب الإحصائيات الإسرائيلية فإن الجيش الإسرائيلي أطلق حوالي 700 ألف رصاصة وقذيفة في الضفة الغربية و300 ألف في غزة، وذلك في الأسابيع الأولى فقط للانتفاضة، أي قبل انتهاج الفلسطينيين لخط المقاومة المسلحة.‍ وبرأي المحلل الإسرائيلي بن كاسبيت فإن هذه الكمية الهائلة تدل على ما حدث على الأرض.. وثمة من يعتقد في الوسط السياسي والعسكري الإسرائيلي بأن الرد العسكري الشديد، في الأسابيع الأولى للانتفاضة، هو الذي دفع الوضع نحو التدهور.

جدير بنا التذكير أنه في الشهر الأول للانتفاضة استشهد برصاص وقذائف الجيش الإسرائيلي حوالي 131 فلسطينيا وفي الشهر الثاني استشهد 116 فلسطينيا، في حين أن الفلسطينيين كانوا، في حينها، يعتمدون الحجارة والمظاهرات للتعبير عن غضبهم وتبرمهم من الاحتلال. وبالمقارنة فقد تكبدت إسرائيل عددا قليلا جدا من الخسائر البشرية، بالقياس للخسائر البشرية الفادحة التي تكبدها الفلسطينيون، في الأسابيع الأولى للانتفاضة، والنسبة كانت 1: 20 ثم 2: 40. وفي بداية اكتوبر، مثلا، كانت الإحصائية 75 شهيدا فلسطينيا مقابل أربعة قتلى إسرائيليين فقط (بن كاسبيت، معاريف 6/9/2002)

معلوم أن إسرائيل لم تتح المجال للتهدئة مع الفلسطينيين على الإطلاق، ولم تفسح لهم الفرصة لمراجعة أوضاعهم، وعملت على سد الأفق السياسي تماما أمامهم. دليل ذلك أنه في كل مرة كان الفلسطينيون يلوحون بالتهدئة أو بالهدنة، كانت إسرائيل تتعمد القيام بعمليات القصف العشوائي وتدمير البيوت وتدبير المجازر واغتيال القياديين. حدث ذلك في مطلع العام 2002، حينما قامت باغتيال الشهيد رائد الكرمي (14/1/2002) من قادة كتائب شهداء الأقصى (فتح)، وحدث ذلك في أواخر العام 2003 حينما اغتالت الشهيد صلاح شحادة (حماس)، وحدث ذلك حين جردت حملة لاغتيال قادة حركة حماس، بدءا من أواخر العام 2003 إلى أبريل 2004، ومنهم الشيخ أحمد ياسين. ودليل ذلك، أيضا، أن عمليات الفلسطينيين تراجعت وبشكل ملموس خلال الفترة الماضية، وبينما بلغت خسائر الإسرائيليين حوالي 97 قتيلا، خلال العام 2004 (حتى أواخر سبتمبر) بلغت خسائر الفلسطينيين في تلك الفترة حوالي 700 شهيد. وبالإجمال فقد بلغت خسائر الفلسطينيين البشرية، نتيجة العنف الإسرائيلي خلال أربعة أعوام من الانتفاضة، حوالي 3600 شهيد، و42 ألف جريح، وحوالي 27 ألفا دخلوا المعتقلات والسجون الإسرائيلية، وبقي منهم الآن حوالي 7500؛ هذا إضافة إلى تدمير حوالي 60 ألف منزل، من دون الحديث عن الخسائر الاقتصادية الباهظة، التي أفقرت الفلسطينيين ودمرت اقتصادهم.

كذلك فمن المعلوم أن حملة العنف والتدمير هذه، جرى التأسيس لها في عهد الحكومة العمالية التي كان يرأسها ايهود باراك، الذي خرج على العالم بادعاءات أن الفلسطينيين لم يعودوا شركاء في عملية التسوية، وأن القيادة الفلسطينية، غير مؤهلة للتسوية، كونها تخلت عن طريق المفاوضات واتجهت للضغط على إسرائيل بالانتفاضة والعنف، وأن إسرائيل لا ترضخ للضغط ولا تمنح "جوائز" في ظل إطلاق النار‍‍! وعلى أساس ذلك جاء أريئيل شارون إلى رئاسة الحكومة وهو يلوح ب "خطة المئة يوم" لإجهاض الانتفاضة، وبناء على هذه الشعارات، أيضا، تم إطلاق حملة "السور الواقي" (مارس 2002) والطريق الحازم (أواخر 2002)، اللتين جرّدتا في ظل حكومة حزبي الليكود والعمل برئاسة شارون (السابقة).

من كل ذلك يمكن ملاحظة أن إسرائيل تصرّفت مع الفلسطينيين بطريقة ثأرية وتدميرية، إذ أن تعاطيها معهم لا يوحي بأنه كان ثمة نوع من مشروع تسوية معهم. ما يؤكد أن إسرائيل، بعقليتها الاستعمارية العنصرية، لم تكن أصلا مقتنعة بعملية التسوية، التي تفترض نوعا من التكافؤ والاعتراف بالآخر، بقدر ما إنها كانت تعمل وفق قناعة مفادها، أن ما يجري هو مجرد عملية إخضاع سياسي، سيصبح في نهايته الفلسطينيون أكثر طواعية للاملاءات الإسرائيلية.

ولعل هذا الانطباع يفسر ردة فعل إسرائيل العنيفة ضد الفلسطينيين، بحيث بدت كأنها أخذت على حين غرة، بخروج هؤلاء عن الصورة النمطية التي رسمتها لهم بمخيلتها؛ فبعد أن ظنت أنها تمكنت من ترويضهم بعملية التسوية، خرجوا عليها ليس فقط بالانتفاضة، وإنما بمقاومة مسلحة، لم تشهد مثيلا لها من قبل.

على أية حال فكما فوجئت إسرائيل بخروج الفلسطينيين عن "النص"، الذي رسمته لهم بمخيلتها، يبدو أنها فوجئت، إلى حد ما، بصمودهم، وبعدم قدرتها على المضي في الطريق الأمني لوحده، في ظل التطورات والتجاذبات السياسية، المحيطة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي والتحولات الجارية في الشرق الأوسط، ما جعلها تخرج بخطة الفصل الأحادي الجانب، المتعلقة بالانسحاب من قطاع غزة وبعض مستوطنات الضفة، والتي تتوخّى منها تحقيق عدة أهداف دفعة واحدة، أهمها: 1 ـ التخلص من العبء الديمغرافي الذي يشكله قطاع غزة الذي يقطن فيه 1.5 مليون نسمة من الفلسطينيين، في حوالي 60 بالمئة من مساحة القطاع، وقدرها 360 كلم مربع؛ 2 ـ الإيحاء بالتعاطي مع عملية التسوية لتحسين صورة إسرائيل على الصعيد الخارجي، بعد أن باتت تظهر على شكل دولة استعمارية عنصرية تمارس القوة لإخضاع الفلسطينيين لاحتلالها؛ 3 ـ التساوق إلى حد ما مع توجهات الإدارة الأميركية في المنطقة، لاسيما على ضوء المصاعب التي باتت تواجهها هذه الإدارة في العراق؛ 4 ـ تعزيز مركز إسرائيل في الضفة الغربية، عبر تشريع وجود الكتل الاستيطانية وجدار الفصل العنصري، وذلك بهدف تصعيب قيام دولة فلسطينية قادرة على الحياة فيها؛ 5 ـ تحقيق خطة الفصل عن الفلسطينيين للتخلص من مخاطر الدولة "ثنائية القومية"، تحت شعار: "نحن هنا هم هناك".

على ذلك فإنه لا يمكن اعتبار الحملة العسكرية الإسرائيلية، التي أطلق عليها "أيام الندم"، والتي نتج عنها في يومين فقط (30/9 و1/10)، تدمير عشرات المنازل وقتل حوالي 50 من الفلسطينيين، مجرد رد روتيني على مقتل طفلين في بلدة "سديروت" الإسرائيلية (شمالي قطاع غزة)، إذ أن إسرائيل ظلت طوال الأعوام الماضية تعيث خرابا وتدميرا في غزة، من رفح إلى بيت حانون إلى خانيونس إلى جباليا، برغم أنه لم يخرج من هذه الأماكن أي منفذ لعملية استشهادية، وبرغم من أن الخسائر البشرية الإسرائيلية في قطاع غزة جد ضئيلة.

وعليه فإن إسرائيل، وفي هذه الآونة بالضبط، التي تحاول فيها الظهور بمظهر من يريد الانسحاب من قطاع غزة، إنما تستهدف من وراء هجومها على القطاع، تحقيق عدة أهداف، لعل أهمها: أولا، الاستمرار في حملة "تأديب" الشعب الفلسطيني لإخضاعه ووأد مقاومته؛ ثانيا، محاولة إيجاد منطقة عازلة بمقدار 9 كلم لحماية البلدات الإسرائيلية المتاخمة للقطاع من أية هجمات صاروخية من قبل الفلسطينيين بعد انسحابها منه؛ ثالثا، استغلال الظروف الدولية والإقليمية الراهنة لجهة انشغال الإدارة الأميركية، والعالم، بالانتخابات الأميركية والوضع في العراق والحرب على الإرهاب؛ رابعا، التمهيد لخطة الانسحاب من القطاع، عبر توجيه رسالتين: أولاهما، للإسرائيليين (ولاسيما اليمين المتطرف) ومفادها أنها تنسحب منتصرة، بعد أن دمرت البنى التحتية للمقاومة؛ وثانيتهما، للفلسطينيين، لمنعهم من الظهور بمظهر المنتصر، على ما جرى إبان انسحابها من جنوبي لبنان (صيف عام 2000).

في كل الأحوال فإن إسرائيل قد تنجح بحملتها في الإمعان بالتدمير والتقتيل، ضد الفلسطينيين، ولكنها لن تستطع فرض املاءاتها السياسية عليهم، بدليل كل التجارب السابقة. ويبقى أن الحل السياسي هو الإطار المناسب لحقن الدماء ولإخراج الطرفين من دوامة العنف والدمار المتبادل، ولكن ذلك يحتاج إلى تدخل دولي مناسب، وإلى معطيات عربية مفقودة، في هذه الظروف العصيبة.

المصطلحات المستخدمة:

باراك, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات