يشير الكتاب إلى تغلغل الروح العسكرية في التعليم منذ مرحلة الطفولة المبكرة. فعن طريق ألعاب الأطفال وبرامج التسلية والأعياد تدخل مضامين وزوايا ذات صبغة عسكرتارية. وعلى ما يبدو فإن التعرض لهذه التأثيرات والمضامين يشكل جزءاً من الممارسات والتطبيقات الاجتماعية- الثقافية التي تُتبع كـ"تهيئة للحياة".
كتاب "العسكرة في التعليم" الذي تولت تحريره حاجيت غور [صدر في العام 2005 عن دار النشر بابل- تل أبيب، ويقع في 370 صفحة] هو عبارة عن مجموعة أبحاث ومقالات تم استعراض ملخصاتها في محاضرات ألقيت في المؤتمر الدولي "العسكرة والتعليم: نظرة انتقادية" الذي عقد في الجامعة العبرية في القدس وفي سمينار الكيبوتسات في تل أبيب في الفترة الواقعة بين 29 و 31 أيار 2001.
هذه المجموعة تشكل بالصدفة استمراراً للكتاب الذي يبحث في العلاقات المتبادلة بين المستوى المدني- السياسي وبين المستوى العسكري (إصدار وزارة الدفاع، 2005). فالكتابان على حد سواء يبحثان في تأثير وإسقاطات نزعة العسكرة على كل مجرى ومناحي الحياة الإسرائيلية. وفيما كُتِبَ الأول (كتاب "العلاقات المتبادلة...") بأقلام عدد من الخبراء العسكريين ورجالات الجيش، فقد تولى تأليف الكتاب الثاني، الذي نحن بصدده الآن، باحثون مدنيون، وبالتالي فإن العسكرة مطروحة هنا من منظورين مختلفين.
محررة الكتاب، حاجيت غور، عرضت في مقدمته المحددات الأساسية لماهية ظاهرة العسكرة، وجهاز التعليم و"الدمج" القائم بينهما. وقد طرحت ذلك بالأساس من وجهة نظر نسوية راديكالية وسط دمجها لهذه النظريات في فصول تتناول سيرة حياتها الخاصة.
المحاضرة الأساسية الأكثر شمولية وردت في مقال الباحثة بيتي ريردن التي كانت الضيفة المركزية في المؤتمر المذكور. والباحثة هي مؤسسة ومديرة مركز التربية على السلام في جامعة كولومبيا، وهي أيضاً من أهم المنظرين في هذا المجال.
تحلل ريردن في مقالها العلاقات بين الجنس وبين الروح (النزعة) العسكرية وهو ما يشكل خلاصة كتابها “Sexism and The War System” (Syracuse University Press, 1996) وفي تحليل مسهب لمفهوم "الجهاز الحربي" بمعناه السوسيولوجي- الفلسفي، كنظام اجتماعي تنافسي يقوم عليه المجتمع الغربي المعاصر، تشير ريردن إلى الهدف المركزي وهو: احتفاظ النخب بالسيطرة والرقابة عن طريق التهديد باستخدام القوة والترهيب وأحياناً حتى بالفرض والإكراه القسري، أي بالإرهاب والحرب (ص62). ومن هنا تصل الباحثة إلى الاستنتاج الحتمي ومؤداه أن الجيش هو التجسيد الصافي لبطريركية وعسكرتارية المجتمع وهو التعبير الكامل للنظام الأبوي كشكل صريح وسافر للسيطرة والسلطة.
المفهوم الثاني هو “Sexism”: وهو منظومة من القناعات والمعتقدات المؤسسة على فرضية مؤداها أن الفوارق الجسدية بين الجنسين مهمة جداً وأنها هي التي تؤثر وتحدد جميع الوظائف الاجتماعية والاقتصادية للرجال والنساء، ومن هنا تأتي السلوكيات الشوفينية للرجل (ص70).
وقد سعت الحركة النسوية إلى الطعن في هذه المسلمات والفرضيات وبالتالي فهي مجبرة تلقائياً على انتهاج موقف مناوئ للنزعة العسكرية.
وتُشير حاجيت غور في أبحاثها وتحرياتها حول ما يجري في روضات الأطفال إلى تغلغل الروح العسكرية في التعليم منذ مرحلة الطفولة المبكرة. فعن طريق ألعاب الأطفال وبرامج التسلية والأعياد تدخل مضامين وزوايا ذات صبغة عسكرتارية. وعلى ما يبدو فإن التعرض لهذه التأثيرات والمضامين في سن الطفولة المبكرة يشكل جزءاً من الممارسات والتطبيقات الاجتماعية- الثقافية التي تُتبع لدينا كـ"تهيئة للحياة".
هنريت دهان- كاليب، التي تترأس شعبة دراسات علم الجنوسة في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع، وهي باحثة بارزة في ظاهرة "الفهود السود" وأحداث (تمرد) وادي الصليب والعلاقات بين الجيش والدولة، تطرح ظاهرة تغلغل "الجنرالات" في جهاز التعليم، ولا سيما كمدراء وموجهين.
وبطبيعة الحال فإن الظاهرة أوسع بكثير، إذ خدم جنرالات كرؤساء للدولة (هرتسوغ، وايزمان) وكرؤساء حكومة (رابين، باراك وشارون) وكوزراء (قائمة طويلة...) وكرؤساء بلديات (قائمة طويلة أيضاً...). وتجد الباحثة تناقضات مبدئية- قيمية بين آداب مهنة التعليم (انفتاح فكري، حب استطلاع، عقلية نقدية وتشككية...) وبين آداب مهنة الجيش (انضباط، طاعة عمياء، نجاحات فورية ناهيكم بالطبع عن الميل للعنف الجسدي). الاستنتاج الذي لا مناص منه أمام الباحثة هو أن القائد العسكري غير مؤهل للعمل في التعليم (ص125).
هناك بحث مثير في نتائجه وخلاصاته عرضته غاليا زلمنسون- ليفي وهو تعاطي تلاميذ المدارس مع دراسة سفر يهوشع واحتلال البلاد (الصف الرابع الابتدائي). وعلى ما يبدو فإن كراسات التعليم المتعلقة بهذا الموضوع تتناول في شكل أساسي الجوانب العسكرية للاحتلال دون طرح المسائل المتعلقة بالأخلاق والقيم والعدل، ودون التطرق إلى قتل وإبادة السكان المدنيين، وكل ذلك باسم احتلال مدن ومناطق وتوسيع حدود "أرض الميعاد".
د. جورج تومارين، من قسم علم النفس في جامعة تل أبيب، والذي قام بتفحص طرق تدريس سفر يهوشع وجد أن التعليم غير النقدي يشكل "أداة في يد جهاز التربية والتعليم تُربي على عدم التسامح والتعصب القومي والآراء المسبقة".
مقال إستر يوغاف يتناول أيضاً مواد التعليم ومكانة كتب التاريخ وتدريس هذا المنهج "بين مقتضيات التراث والتاريخ الانتقادي".
تمار هاغر تفحصت تعابير وتجليات الحرب والسلام في أدب الأطفال الإسرائيلي في الثمانينيات والتسعينيات، وهو موضوع بُحث وعولج كثيراً (على سبيل المثال دان ياهف- "ما أروع هذه الحرب: نصوص ورموز عسكرية ظاهرة ومبطنة في الأدب الإسرائيلي"، دار "تموز" للنشر 2004. وصدرت ترجمته العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2005). بالإضافة إلى قائمة طويلة من الأبحاث والكتب والمقالات. أنظر: يوسي بن- باروخ ("عيتون 77")، إيهود بن عيزر ("شداموت") أوريئيل أوفك، حنان حيفر، حنه ياكير، أدير كوهن ("وجوه بشعة في المرآة"، رشفيم 1985)، نيلي لوتسكي ("التعليم") وغيرها...
سالينا مشيح تفحصت أيضاً في كتابها "الطفولة والقومية" (2000) الجوانب العسكرية- الشوفينية والتي لم تضع علامة استفهام حول أخلاقيات الحرب وحسب، بل وساهمت في تكريس هذه الأخلاقيات.
وهكذا يتحول أدب الأطفال من وسيلة للنضال ضد الحرب إلى وكيل ثقافي يؤازر ويعزز عملية العسكرة والموقف السياسي الرسمي الداعم والمساند لـ Warism (ص212).
أثناء عملية التهيئة العسكرية والارتباط بالجيش، والتي كتب عنها كل من أورنا ساسون- ليفي وغال ليفي، تنشأ وتتشكل فوارق اجتماعية بين وداخل المجموعات الطبقية والإثنية المختلفة في النظام الجمهوري.
فمسار الارتباط بالجيش يبدأ منذ روضة الأطفال (حاجيت غور) ويستمر لغاية التجنيد للخدمة العسكرية، وذلك من خلال مواد ومواضيع التعليم والدروس التربوية و"التهيئة لجيش الدفاع الإسرائيلي".
وقد تفحص الباحثون عن طريق مقابلات أجروها مع جنود دافعية هؤلاء للخدمة في وحدات قتالية ووحدات في الجبهة الخلفية، حيث اتضح أن قسماً من هؤلاء الجنود اختار مسار الخدمة بناء على "نظرة عمياء"، أي ليس من خلال قرار واضح وواع. أبناء الطبقة الدنيا والشرقيون اختاروا الخدمة في مكان "قريب من البيت" وذلك بسبب مشكلات عائلية واقتصادية وعدم تقبل الانضباط العسكري (ص232).
والحال، فإن مسارات التجنيد والوحدات المختارة تشجع إذن التقاطب الاجتماعي والاقتصادي. ويتكشف هنا أيضاً شعار "فرن الصهر" كشعار كاذب ومخادع، إذ أن "جيش الدفاع الإسرائيلي" يشكل عملياً أداة للفرز والتمايز الطبقي والجنوسي والثقافي (ص242).
أوري بن اليعيزر وغويس روبينس تفحصا أيضاً مكانة وأداء الجندية (الفتاة المجندة) في الجيش الإسرائيلي في ثلاث فترات مختلفة، ووجدا أن هناك عدم مساواة جنوسية وعسكرة ثقافية وليونة أو تخفيف تجاه المجندات فقط. بمعنى اقتصار تشغيلهن على تقديم خدمات غير عسكرية- قتالية. صحيح أن الحالة الإسرائيلية تشير إلى عدم الإقصاء التام (حيث يتبع نظام التجنيد الإلزامي)، لكنها تُشير أيضاً إلى تخفيف شبه كامل في مهن عسكرية مختلفة، حيث تخدم المجندات كفتيات في المجال الإلكتروني، ومرشدات اختزال في سلاح الجو، ومشغلات رادار وغيرها... وهو ما يخلق وضعاً وسطياً بين "مهام قتالية" وغير قتالية. ووجد الباحثان أداء المجندات (النساء) في سائر هذه المجالات كأداء يساهم في استنساخ العسكرة الثقافية (ص270).
ثمة أبحاث أخرى تعالج أنماط مراسم "يوم الذكرى" [المراسم السنوية التي يقيمها الجيش الإسرائيلي إحياء لذكرى قتلاه في الحروب والمعارك]، مثل أبحاث عدنا لومسكي- بدر وفيرد فينتسكي- سروسي، والإعلام المرئي الذي يتناول العسكرة، كبحث روني كنطور.
عموماً فإن الكتاب (مجموعة المقالات) يعرض أُطر التعليم المختلفة، وطرق التعليم والتهيئة والآداب وأشكال أداء الجيش، باعتبارها جميعاً "مؤسسات" تحفظ وترعى وتنمي النزعة العسكرية (العسكرة) في المجتمع الإسرائيلي.
[ترجمة "مدار"]
(*) د. دان ياهف أستاذ جامعي في كلية "بيت بيرل".