المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أكدت معطيات دائرة الاحصاء المركزية الاسرائيلية حول الهجرة اليهودية الى اسرائيل، في تقرير لها صدر خلال شهر شباط الجاري، على ان موجات الهجرة الكبرى الى اسرائيل، التي حافظت على "المعدل الديمغرافي" الذي تسعى له اسرائيل والوكالة الصهيونية، أصبحت من أفعال الماضي. ولا شك ان معطيات العام الجاري ستثبت هذا الاستنتاج أكثر، خاصة وان موجات الهجرة الكبرى تحتاج الى قاعدة مهاجرين خصبة، وإلى تحضير لا يقل عن عامين. وهذان الأمران ليسا ملموسين لا حاليا ولا في الافق، فالتجمع الأكبر لهذه التربة كان في دول الاتحاد السوفياتي السابق، حيث استفادت اسرائيل من تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعد تفكك الاتحاد، وحاليا لم يعد في هذه الدول تجمعات ضخمة تبدي استعدادها للهجرة الى اسرائيل.

لقد سجلت الهجرة اليهودية الى اسرائيل (يهودية من حيث المبدأ) في العام الماضي 2004 اقل بقليل من 21 الف مهاجر، وهذا يشكل تراجعا كبيرا للعام الثالث على التولي، مقارنة عما كان عليه منذ مطلع سنوات التسعين وحتى العام 2000. وتقول الدائرة ان هذا العدد هو الاقل منذ العام 1989، وان معدل السنوات الثلاث الاخيرة للهجرة اليهودية الى اسرائيل يشابه اعداد المهاجرين في سنوات الثمانين، حين تراوح معدل المهاجرين سنويا بين 9 آلاف الى 20 الف مهاجر.

وحسب معطيات دائرة الاحصاء الاسرائيلية، فإن اسرائيل شهدت موجتي هجرة ضخمتين، مقارنة مع سنوات أخرى، وكانت الأولى ما بين العام 1948 والعام 1951، والثانية بين الاعوام 1990 و2000، بينما كانت اضعف هجرة بين سنوات 1980 و1989.

وتفيد معطيات الدائرة ذاتها انه ما بين العام 1948 والعام 1951 هاجر الى اسرائيل حوالي 688 الف مهاجر (المعطيات لا تتطرق إلى سنوات الأربعين)، وبين العام 1952 والعام 1959 هاجر الى اسرائيل حوالي 272 الف مهاجر، وفي كل سنوات الستين 374 الف مهاجر، وفي سنوات السبعين 346 الف مهاجر، وانخفضت الهجرة بشكل حاد في كل سنوات الثمانين الى حوالي 154 الف مهاجر.

اما في سنوات التسعين، اي من العام 1990 وحتى العام 1999 ، فقد هاجر الى اسرائيل 956 الف مهاجر، واكبر هذه الهجرات كان في العام 1990 حين وصل الى اسرائيل حوالي 200 الف مهاجر، وفي العام التالي 176 الف مهاجر، ولاحقا كان المعدل في حدود 74 الف مهاجر. وكان أولى علائم الانخفاض في الهجرة في العام 2000 حين انخفضت الهجرة الى 60 الف مهاجر.

في العام 2001 وصل الى اسرائيل اكثر بقليل من 43 الف مهاجر وانخفض العدد في العام 2002 الى اكثر من 33 الفا، وفي العام 2003 الى 23 الفا، والعام الماضي 2004 الى اقل بقليل من 21 الفا.

مخططات الوكالة الصهيونية والهجرة النوعية

في مقدمة هذا التقرير ذكر انها "هجرة يهودية من حيث المبدأ"، والمعنى المقصود ان الوكالة الصهيونية ومعها اسرائيل الرسمية بحثتا في العالم عن اليهود الذين بامكانهم ان يساهموا في "بناء اسرائيل" في المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية. وبطبيعة الحال فإنه حين تم التوجه الى دول الاتحاد السوفياتي جرى البحث بالاساس عن اعداد اليهود الضخمة، ومن ثم العلم والثقافة في جميع مجالاتها، وما يثبت هذا ان اسرائيل اهملت يهودا في مناطق فقيرة في العالم وبشكل خاص في اثيوبيا التي سنأتي عليها لاحقا، ولا يختلف اثنان حول ان اليهود السوفيات تركوا بصمات كبيرة على الحياة الثقافية والرياضية والفنية في اسرائيل.

بعد وصول مئات آلاف المهاجرين الى اسرائيل في سنوات التسعين، ظهرت بقوة المشكلة المزمنة في اسرائيل، وهي "من هو يهودي"، وتبين ان مئات الآلاف من الذين حضروا الى اسرائيل من دول الاتحاد السوفياتي، هم ليسوا يهودا بأي شكل من الاشكال، وهناك من يراهن على ان نسبتهم كانت حوالي الثلث، ولكن لا توجد ارقام دقيقة، كما ان هناك نسبة كبيرة لمن لم تعترف بيهوديتهم المؤسسة الدينية، وسوية فإن نسبة من هم ليسوا يهودا كانت حوالي النصف، وتقول اسرائيل ان مجمل الذين لم يعلنوا عن ديانتهم فيها في العام 2004 وصل الى 3% من مجمل السكان، اي حوالي 210 الآف نسمة، وغالبية هؤلاء من المهاجرين الروس والدول السوفياتية السابقة.

لقد سعت الوكالة الصهيونية في السنوات الاخيرة الى جلب اكثر ما يمكن من اليهود سنويا، بشكل يحافظ على نسبة 80% لليهود في اسرائيل، كحد ادنى، إذ تريد الوكالة بشكل خاص سد الفجوة في الولادات بين اليهود والعرب، علما ان نسبة الولادات العربية في العام 2003، على سبيل المثال، كانت 29% من مجمل الولادات في اسرائيل، وهو امر عالجه "المشهد الاسرائيلي" في عدد سابق.

وحسب تقرير دائرة الاحصاء، فإن المهاجرين اليهود الى اسرائيل في العام الماضي شكلوا 9% من مجمل الزيادة السكانية، في حين ان المهاجرين كانوا يشكلون في سنوات التسعين ما نسبته 75% الى 80% من الزيادة السكانية، وهو ما حافظ على نسبة اليهود في اسرائيل امام العرب، ولكن على المدى البعيد فإن هذه الهجرة لن تخدم "الهدف الصهيوني"، هذا إذا انتبهنا الى نسبة الولادات من جهة، وإلى نسبة من هم حتى جيل 14 عاما من المهاجرين من جهة أخرى، إذ ان نسبة الاطفال المهاجرين في العام الماضي كانت 23%، فيما كان الذين عمرهم من 45 عاما وما فوق حوالي 25% (نسبة تقريبية)، ونسبة من هم في عمر 65 عاما وما فوق 10%.

لقد توجهت اسرائيل الى حيث توجد تربة خصبة لليهود الذين يريدون ترك اوطانهم، في دول الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، ولكن مع مرور السنوات وحالة الاستقرار هناك، وعدم الاستقرار هنا في اسرائيل، فإن معدلات الهجرة بدأت بالتراجع بوتائر عالية، ناهيك عن ان نسبة جدية من الذين هاجروا الى اسرائيل غادروها بعد فترة قصيرة. وعلى الرغم من عدم وجود معطيات دقيقة في هذا المجال، إلا ان هناك من يعتقد ان نسبة الذي غادروا كانت في حدود 15%، واكبر نسبة للمغادرين هم من أولئك الذين هاجروا في سنوات التسعين، وغياب الارقام الدقيقة هنا، ناجم عن ان غالبية المغادرين ما زالوا يحتفظون بالجنسية الاسرائيلية الى جانب الجنسيات الأخرى.

وفي العام الماضي، ولأول مرة منذ بدء الهجرة الكبرى من روسيا وجمهورياتها، كانت نسبة المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق اقل من 50% ووصلت الى حضيض جديد، إذ كان 53% (11 الفا) من المهاجرين في العام الماضي قد هاجروا من اوروبا، في حين ان 12% هاجروا من الجمهوريات الاسيوية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، و19% من افريقيا (اثيوبيا بالاساس وجنوب افريقيا) و16% من الولايات المتحدة واستراليا، وهي معدلات تشابه معدلات العام 2003.

بطبيعة الحال لم يكن بامكان اسرائيل، وحتى الآن، اقناع مئات ألوف يهود اوروبا، وملايين يهود الولايات المتحدة بالهجرة الى اسرائيل نظرا للفوارق الضخمة في المستوى المعيشي لصالح اوروبا، ويصل سنويا الى اسرائيل بضعة آلاف قليلة جدا من يهود اوروبا والولايات المتحدة، ولكن هناك شك في ما إذا كانت هذه الهجرة الاوروبية الاميركية تساوي اعداد الذين يغادرونها سنويا.

من جهة أخرى فإننا لم نشهد حماسة زائدة في اسرائيل لجلب يهود اثيوبيا، الذين تحمست لاستقدامهم في موجتين، الأولى في مطلع سنوات الثمانين، "حملة موشيه"، التي كان من الذين دعموها سرا، الرئيس السوداني جعفر النميري، والثانية في مطلع سنوات التسعين، وكانت اسرائيل منتبهة جدا الى الوضع الاقتصادي الاجتماعي الحضيضي لهؤلاء المهاجرين، الذين ما ان وصلوا الى اسرائيل حتى واجهوا معاملة عنصرية واسعة وشديدة على مختلف المستويات، إن كان من حيث الاستقبال واماكن تجميعهم، ومن ثم في الشارع الاسرائيلي نفسه.

امام هذا الوضع رفضت اسرائيل على مدى سنوات طوال استقدام مجموعة تضم عشرات الآلاف من ذوي الاصول اليهودية الذين يطلق عليهم اسم الفلاشمورا، وعلى الرغم من حملة الاحتجاج الواسعة التي شنها اليهود الاثيوبيون، الذين ادعوا ان هؤلاء افراد عائلاتهم، وان هناك عائلات انقسمت الى نصفين. وقبل اسبوعين اتخذت حكومة اسرائيل قرارا مبدئيا، يقضي باستقدام هؤلاء الفلاشمورا، الذين يقدر عددهم بحوالي 70 ألفا، حتى العام 2007، ولا يمكن الفصل بين هذا القرار وبين معطيات الهجرة الى اسرائيل، التي وضعت المؤسسة الرسمية امام اسئلة صعبة من ناحيتها، حول مستقبل الغالبية اليهودية في اسرائيل، في السنوات القادمة.

انعدام المحفزات

لكي يكون بامكان اسرائيل استقدام " مليوني مهاجر آخر" من اليهود، كما يحلم حكام اسرائيل، فيجب ان يكون هناك دافع لهم في اوطانهم، وايضا محفزات لهم في اسرائيل، ولكن عدم الاستقرار الامني والاوضاع الاقتصادية في اسرائيل في ظل السياسة التي يتبعها بنيامين نتنياهو لا تحفزان الهجرة، أضف الى ذلك مساحة البلاد ومواردها الطبيعية، خاصة المياه، على المدى البعيد وعدم استطاعتها استيعاب اعداد هائلة، اكثر من نسب التزايد الطبيعي.

التجمع الاكبر لليهود في العالم، هو في الولايات المتحدة، أكثر من خمسة ملايين، الذي يتقارب مع عدد اليهود في اسرائيل، والتجمع الثاني، لأكثر من نصف مليون، موجود في فرنسا، عدا عن ذلك فإن اعداد اليهود في العالم، وفق آخر احصائيات ظهرت في العام الماضي، قد تراجعت الى 13 مليون نسمة، ويقول خبراء ان هذا بسبب الاختلاط في الزواج، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية وايضا في دول اوروبية.

وحسب المعطيات هذه ففي اسرائيل اليوم اكثر من 5,3 مليون يهودي، وهناك عدد مماثل في الولايات المتحدة، ونصف مليون في فرنسا و600 الف في دول الاتحاد الاوروبي، و450 الفا في دول الاتحاد السوفياتي السابق، و400 الف في امريكا اللاتينية و350 الفا في كندا.

وهذه التوزيعة قد تعطي تفسيرا آخر من ناحية المحفزات، يؤكد ان اسرائيل ستكون عاجزة عن اقناع ملايين يهود العالم بالوصول اليها.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات