المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الزيارة الى أرض البرتقال الحزين لا تغني عن قراءة كتاب "يافا عطر مدينة" للراحل هشام شرابي وسواه من الوثائق الخاصة بعروس فلسطين، مدينة يافا، لكنها تبقى اكثر اثارة وايلاما من ألف كتاب، لأن "الحكي مش زي الشوف"، كما يقول المثل الشعبي.

في الأسبوع الفائت نظمت "لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين" داخل إسرائيل جولة في مدينة يافا المهجرة ومحيطها شكلت درسا موجزا عن النكبة الفلسطينية برمتها. وقصة هذه المدينة التي بوسعها ان تملأ موسوعة تنسف بوضوح المزاعم الصهيونية التقليدية حول تطوير البلاد وتحويل "قفارها" و"مستنقعاتها" و"خرائبها" إلى جنات غناء. طيلة عقود بل قرون ظلت يافا تحتفظ بلقب "عروس البحر" رغم غيرة ومنافسة حيفا وعكا وغزة وسائر شقيقاتها من المدن الساحلية في فلسطين لا بفضل جمال موقعها الجامع بين البحر والتل بل بفضل ازدهارها الكبير في المجالين الاقتصادي والثقافي الى ان حلت عليها النكبة وحولتها الى حطام .

قبالة شطآن البحر المتوسط استهل المرشد الشاب يوسف عصفور حكايته عن المدينة التي انحسر سكانها من المائة والعشرين الف نسمة الى 3500 نسمة نصفهم وفدوا اليها من القرى المحيطة المهجرة (تعد المدينة اليوم 20 الف نسمة) بالاشارة الى انها كانت قد تعرضت الى نكبات منها تعرضها لموجة "التسونامي" عام 1056 فقتلت عشرة الاف من مواطنيها كما تقول امهات الكتب التاريخية. لكن آثار الخرائب والدمار المنتشرة في كل ناحية من المدينة اليوم هي نتيجة زلزال النكبة، "تسونامي" الصهيونية عام 48 ، التي هجرت سكانها عدا بضعة الاف تم حشرهم داخل جيتو في حي العجمي الذي أحيط حتى العام 1952 بالاسلاك الشائكة. وبعد التهجير وتحويل الاحياء من اصحاب الدار الى لاجئين لا زالت تعضهم الفاقة ويلوعهم الحرمان والاضطهاد لم ينج حتى الاموات الذين بقوا في باطن اراضيهم من يد العبث والتخريب. مقبرة عبد النبي التي قضمت معظم أراضيها في الستينيات لاقامة فندق الهيلتون على ترابها لا زالت تعاني بقية اضرحتها اليوم من تقادم الزمان وايادي التخريب وهي في حالة مريعة. على ترابها أقيمت فنادق وشقت طرقات وارتفع نصب تذكاري لسلاح الجو الاسرائيلي، فيما بدا لنا ان معظم الاضرحة فيها ربما لن تكون قائمة في الزيارة القادمة بسبب تداعيها. بعد تلاوة الفاتحة غادرناها بقلب ثقيل وبيدنا مفتاح معدني لبوابتها عثرنا عليه هناك صدفة فاحتفظنا به ذكرى نادرة. كما يفعل غيرنا مع مئات الآلاف من مفاتيح العودة التي لا زالت معلقة بصدور بيوت الفلسطينيين في كل اصقاع الدنيا.

بعد زيارتها كان مسجد حسن بيك في حي المنشية المحطة الاولى في الجولة التي تركزت في المدينة القديمة والميناء وشارع الحلوة. هذا المسجد الجميل، المبني على الطراز المعماري المملوكي والذي تعرض حتى الآن إلى أكثر من 20 عملية اعتداء ومحاولة احراق من قبل متطرفين يهود لا يحتملون شموخ مئذنته شاهدا بارزا على هوية المكان، تم افتتاحه للصلاة بعد نضال شاق خاضه من تبقى من فلسطينيي يافا لكنهم لا زالوا محرومين من رفع الآذان فيه. ومن حوله في حي المنشية الذي بنته العائلات الثرية في يافا قبل النكبة امثال عائلة بامية وبيدس لم يبق سوى بعض البيوت المستولى عليها من قبل اليهود ومصنع للصابون كانت تديره عائلة من نابلس، حول الى متحف لحركة "الايتسل" الارهابية.

بمحاذاة الساحل استهل الزائرون جولتهم في يافا القديمة التي يحظر على العرب السكن فيها بحجة تكريسها لاقامة الفنانين: منازل حجرية ضخمة ومتلاصقة تبرز في مقدمتها عمارة بطابقين كانت تعرف بمقهى المدفع وفيها أحيت أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب الحفلات الساهرة قبل ان يحول إلى كاباريه، فالمدينة امتازت بنشاطاتها الفنية والثقافية، وحتى العام 48 نشطت فيها 17 دار سينما ابرزها سينما الحمرا والملك فاروق وابوللو. وفي ارجائها انتشرت عشرات المدارس والنوادي وصدرت فيها أهم صحف فلسطين اليومية.

في ذاك اليوم المشمس اللطيف أثار الوافدون إلى يافا القديمة فضول المواطنين اليهود الذين خرجوا للتنزه وللسباحة في يوم عطلة نهاية الاسبوع فرمقوهم بنظرات الريبة والتوجس. الشارع المحاذي للساحل اكتظ بالمارة والمتنزهين الواقفين في طوابير طويلة بانتظار ركوب السفن المعدة للرحلات، تعيد صورة من وقفوا هنا في طوابير مشابهة قبل 56 عاما يوم رحلوا في رحلة الشتات ولم يعودوا بعد. المرشد عصفور افاد في لهجة غمرها الأسى أن يافا القديمة التي لا زالت آثار رقيها بادية للعيان قد باتت وكرا للمخدرات والدعارة لافتا الى أن الميناء الكبير أصبح مرسى لقوارب الذوات من اليهود فيما حشر الصيادون العرب وقواربهم في زاوية صغيرة منه في ظروف قاسية. وداخل ازقة يافا القديمة حيث حل " الفنانون" اليهود في منازل من طرد وهجر من العرب تجول الزائرون بوجوه متجهمة تفضح عجز أصحابها عن استيعاب هول المأساة.

"والله تكاد هذه الحجارة ان تنطق بالعربية بحثا عن اهل الدار الذين طال غيابهم"، قال جميل عرفات، احد المرشدين الدائمين في الجولات المنظمة من قبل لجنة المهجرين. وفي وسط ساحة كنيسة مار بطرس داخل البلدة القديمة حولت عمارة عمر الخيام الى متحف لصور ورسومات من المدينة استثنيت منها الحقبة العربية في تاريخ المدينة. وفي الركن الشمالي من الميدان بات مسجد علاء الدين مطعما وملهى ليليا وقبالته لا تزال "مصبنة دمياني" مهجورة، حجيراتها غدت أعشاشًا للغربان بجزئها الغربي فيما حولت بجزئها الشرقي الى "المسرح العربي العبري" . وفي الطريق نحو شارع الحلوة الذي استبدل باسم عبري (ييفت) كبقية شوارع المدينة ومؤسساتها يطل مسجد يافا الكبير بمئذنته المرتفعة، والذي حولت بعض جنباته الى مراكز تجارية والى جانبه لا يزال يقع "سبيل ابو نبوت" المعد لتوفير ماء الشفة للمارة وفي اعلاه تبرز الطغراء العثمانية محفورة بالرخام دليلا على بنائه من العهد التركي. من هناك اشار المرشد نحو مقر المكتبة التوفيقية لصاحبها توفيق السمهوري الذي وضع أول معجم عربي عبري وقد تحولت الى ناد ليلي هي الأخرى. وبطول شارع الحلوة اخذ المرشد يردد أسماء الأسواق والشوارع الفرعية المتفرعة منه كشارع النزهة الذي كانت المراكب تمنع من دخوله وخصص لتنزه المارة (وللنساء في يومين من الاسبوع) فسمي بالنزهة .

وعلى جانبي هذا الشارع الأهم في يافا انتشرت عشرات البيوت القصور المهجورة بمعظمها حتى اليوم وكانت تستخدم للسكن او تؤوي المؤسسات الثقافية والبلدية مثل مطبعة صحيفة فلسطين التابعة لعائلة العيسى والمستشفى الفرنسي والنادي الاسلامي المسيحي ومدارس الفرير والراهبات والارثوذوكسية والتيراسانطا حيث درست مجموعة من أعلام الثورة والثقافة الفلسطينيتين أمثال هشام شرابي وجورج حبش وصلاح خلف وإبراهيم أبو لغد وغيرهم. وبعد التوقف عند ساعة يافا الشهيرة التي بنيت تكريما للسلطان عبد الحميد الثاني انتهت الجولة بمعاينة غطاء معدني من بقايا شبكة الصرف الصحي من قبل النكبة وقد كتب عليه بالعربية والانجليزية "شركة السكب الفلسطينية- بلدية يافا".. غطاء متواضع لكنه يكشف شيئا عن حقيقة وهوية يافا.

وبعد الجولة القصيرة في يافا زارت المجموعة قرى الخيرية والسفارية والساقية واليازور والعباسية في الجهة الشرقية من قضاء يافا حيث اقيم مطار "بن غوريون" الدولي. وهناك لم تختلف حكاية المكان عن حكاية المدينة الأم حيث استوطنت البيوت وأهملت المقابر فيما حولت المساجد والمقامات الى كنس في أحسن الأحوال. وطيلة طريق الذهاب والاياب الى يافا كان فريد حاج يحيى، احد مرشدي الجولة، يلفت الى استبدال الاسماء العربية عن سبق الإصرار والترصد لكافة المواقع المحيطة بيافا فقال هل نعرف مثلا ان "كفار سابا" تقوم على أنقاض بلدة فلسطينية عرفت بذات الاسم ولا زالت مقبرتها ومدرسة البنين قائمتين فيها الى الآن. وهكذا حصل مع بيار عدس التي باتت "مجدوئيل" والمحمودية باتت "ليف هشارون" ونهر العوجا أصبح "اليركون"، وقرية ابن ابرق صارت "بني براك" واجليل تحولت الى "بي جليلوت" والشيخ مؤنس إلى "رمات تل ابيب"..الخ

وفي العباسية التي لم تهدم بيوتها الجميلة، وغدت بلدة "يهود"، يسكن اليوم يهود من أصل يمني حولوا مسجدها الكبير المبني في العام 1362 هجري إلى كنيس.

وعندما هم الزائرون بدخوله قام الحاخام اليمني "حاييم" بالحيلولة دونهم قائلا "لا يجوز دخولكم للكنيس بدون القبعات الدينية اليهودية" واكتفى بفتح الباب لمشاهدته فقط. "ولكن هذا مسجد فكيف تغتصبونه من اجل عبادة الله؟"، تساءل الحاج ابو خير الله من الناصرة، فأجابه الحاخام حاييم "كلها بيوت الله"..

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, ليلي, بني براك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات