المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • وثائق وتقارير
  • 1234

كتب برهوم جرايسي:

 احتد النقاش الاسرائيلي الداخلي في الايام الأخيرة حول النية لاخلاء المستوطنات من قطاع غزة، وبعض مناطق شمالي الضفة الغربية، خاصة بعد ان نجح رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، بتوسيع حكومته المنهارة، ليعيد لها الاغلبية المحدودة، بضم حزب "العمل" و"يهدوت هتوراة" الى حكومته (اقرأ مقالا منفصلا عن هذا الموضوع في مكان آخر). كما أن من اسباب احتداد هذا النقاش هو اعلان شارون عن نيته اقرار اجراءات اخلاء المستوطنات في الشهر الحالي بدلا من شهر آذار/ مارس القادم، ليكون هناك متسع من الوقت امام المستوطنين لتنظيم انفسهم وتسجيل ابنائهم في المدارس الجديدة قبل بدء السنة الدراسية القادمة في شهر ايلول/ سبتمبر القادم، حسب ادعاءات شارون.

 

حتى الآن كان مركز التمرد على قرار الاخلاء في داخل جمهور المستوطنين بالاساس، على مختلف انتماءاتهم وتياراتهم، الى جانب هذا فقد كان حديث حول احتمال رفض عدد من الجنود الاسرائيليين للأوامر العسكرية التي ستصدر لاخلاء المستوطنات، ولكن مع احتداد النقاش بات واضحا ان هناك قطاعا واسعا بين الجنود سيرفضون الأوامر ولن يشاركوا في عمليات اخلاء المستوطنات.

وتفجرت قضية احتمال رفض الاوامر في الجيش الاسرائيلي من جديد في اعقاب رسالة وجهها عشرات ضباط جيش الاحتلال في الضفة الغربية الى قائد وحدتهم عبروا فيها عن رفضهم لأوامر اخلاء المستوطنات، وقد استدعت هذه الرسالة حالة استنفار في القيادات العليا في الجيش والحكومة، وعلى مستوى رئيس الحكومة ووزير الأمن شاؤول موفاز ورئيس الاركان موشيه يعلون، ولاحقا تراجع بعضهم، فيما اعلن موفاز ويعلون عن نيتهما طرد الضباط الرافضين من الخدمة في الجيش الاسرائيلي، وهو ما حصل فعلا.

حتى الآن لا توجد معطيات حول حجم هذه الظاهرة. ويقول المراسل العسكري لصحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، في مقال له في الصحيفة: "مرحليا لا توجد معطيات ميدانية كافية لتحدد توقعات رفض الأوامر، وقد استمع قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاسرائيلي موشيه كابلينسكي هذا الاسبوع (الماضي) إلى تقارير من الضباط الميدانيين حول هذه الظاهرة، ونشأ لديه انطباع بأن الظاهرة هي قليلة نسبيا، إلا ان قائد كتيبة الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة تلقى في نفس اليوم تقريرا مناقضا من القادة الميدانيين".

ويضيف هارئيل قائلا "إن الصورة عند جنود الاحتياط أكثر ضبابية، فالجيش الاسرائيلي ينوي استدعاء عشرات فرق الاحتياط لاستبدال الوحدات النظامية في الضفة الغربية، لأن الوحدات النظامية ستكون مشغولة باخلاء المستوطنات في قطاع غزة، فهل سيمتثل جنود الاحتياط لهذه المهمة من اجل تسهيل عملية الاخلاء؟ من الصعب التخمين".

 

بين رفض ورفض

 

حتى الآن عرفت اسرائيل نوعا واحدا من رفض الخدمة العسكرية، وهو رفض الخدمة اطلاقا في الجيش من منطلقات ضميرية ورفض المشاركة في الحروب والاحتلال، وايضا لدى قلة قليلة التي ترفض مبدأ العسكرة. كما ان هناك مجموعات كبيرة رفضت الخدمة العسكرية في جميع المناطق المحتلة منذ العام 1967، ولبنان في حينه، وتعاملت اسرائيل بقوة وبحزم مع هؤلاء الجنود، وكانت تحكم عليهم احكاما قاسية بالسجن، ومن ابرزهم في الأشهر الأخيرة خمسة شبان يهود قبعوا في السجن لمدة عامين على مراحل، الى ان قرر الجيش الاستغناء عن خدمتهم.

كما ان هناك رفض الخدمة الواسع بين الشبان العرب الدروز الذين يعانون من قانون الخدمة الالزامية.

ولكن في هذه المرحلة بالامكان القول ان اسرائيل تتجه لأول مرة في تاريخها الى اخلاء مستوطنات في ارض محتلة بهذا الحجم، لأن هذه ليست المرة الاولى التي يتم فيها اخلاء مستوطنات، فهناك مستوطنات صحراء سيناء المصرية، واكبرها مستوطنة يميت. ويتضح في هذه الايام انه حتى في تلك المرحلة، في العام 1981، كانت حالات فردية لرفض اوامر اخلاء يميت، وظهر هذا في رسالة بعث بها في حينه العقيد ايفي ايتام (اليوم رئيس المفدال وعضو الكنيست) الى رئيس الاركان في حينه رفائيل ايتان وابلغه فيها عدم مقدرته المشاركة في اخلاء المستوطنات.

وعلى الرغم من حدة التصريحات الرسمية على المستويين العسكري والسياسي، إلا ان المراقبين الاسرائيليين يؤكدون انه لا توجد حتى الآن اجراءات حازمة كما كان الحال مع الرفض من الجهة الأخرى.

ويقول هارئيل في مقاله: "في حين ان يعلون يصر على ان يكافح بحدة كل مظاهر الرفض، فقد اختار هذا الاسبوع (الماضي) ان يبدي تسامحا مفاجئا تجاه الحاخام الأكبر للجيش الاسرائيلي العميد يسرائيل فايس، الذي أكد في مقابلة مع القناة الأولى للتلفزيون الاسرائيلي انه مستعد لخلع بزته العسكرية إذا امره بذلك الحاخام شبيرا (كبير حاخاميي اليمين المتشدد)... وقد اختار يعلون اقوال المديح لفايس بدلا من انتقاده، وانضم اليه وزير الدفاع موفاز". وكان فايس يقصد بذلك رفضا مبطنا لأوامر اخلاء المستوطنات، مع انه كان في الماضي قد رفض ظاهرة رفض الخدمة ورفض الأوامر لاخلاء المستوطنات.

ولربما الصورة الأمثل للتمايز في التعامل بين نوعي الرفض عرضته الصحفية ليلي غليلي في تقرير لها في صحيفة "هآرتس"، الاحد الأخير، الذي جاء فيه: "في يوم الخميس الماضي، وقف عدد من طلاب المعاهد الدينية اليهودية عند مدخل محطة الباصات المركزية في القدس، وجمعوا تواقيع جنود على عريضة لرفض المشاركة في اخلاء المستوطنات. وتوجه الى تلك الطاولة الجندي تلو الآخر ببزاتهم العسكرية ووقعوا على العريضة. "ماذا سيفعلون لي؟" قال جندي نظامي بعد ان وقع على العريضة واضاف اسمه وعنوانا للاتصال به، وقال، "على الاغلب سيودعون بعضنا في السجن ليكونوا عبرة"، وقال الناشطون الذين يجمعون التواقيع انهم جمعوا حتى الآن 8 آلاف توقيع وسينشرونها حين يصلون الى جمع عشرات آلاف التواقيع".

وتضيف غليلي في تقريرها، "في المقابل فقد وزع جامعو التواقيع كراسة صغيرة في دعوة لرفض الخدمة، وجاء فيها، "راية سوداء ترفرف من فوق اوامر اخلاء المستوطنات، فأوامر كهذه ممنوع التجاوب معها"، وتشبه الكراسة كراسة اصدرتها حركة "يوجد حد" (اليسارية الداعية لرفض الخدمة في جيش الاحتلال)".

وتقول غليلي: "ولكن ثمة فارقًا كبيرًا بين الحالتين وهو فارق واضح للعيان، فطوال وقت جمع التواقيع، وقف مقابل تلك الطاولة افراد شرطة يحرسون المحطة ولم يحركوا ساكنا، فالتجاهل المقصود هو امر مناقض بشدة، فلو ان جامعي التواقيع كانوا من حركة "يوجد حد" لكان افراد الشرطة سيتعاملون بسرعة لتفريقهم وتفريق الحركات الأخرى (اليسارية) مثل حركة شجاعة للرفض".

وتضيف غليلي: "على الرغم من ان كلا الجهتين تدعوان للرفض، إلا انه يتم اعتبار حركات اليسار على انها نابذة ورافضة لدولة اسرائيل، في حين ان الرافضين من اليمين يتم احتسابهم على انهم محبو اسرائيل، ولربما هذا هو موطن فشل الحركات اليسارية التي لم تعرف كيف تتغلغل في وعي الجمهور، بأنهم هم ايضا يعملون من اجل الحفاظ على البيت (اسرائيل) وعلى طابع الدولة".

وتصدر اصوات في اليمين الاسرائيلي تدعي انها ترفض ظاهرة رفض الأوامر العسكرية، لتتهم الحركات اليسارية بأنها هي التي فرضت سابقة رفض الخدمة العسكرية والتمرد على اوامر الجيش، رغم ان هذه الاصوات نفسها تبدي تهادنا مع اصوات اليمين الداعية لرفض اوامر اخلاء المستوطنات.

 

يخضعون لتأثير المستوطنين والحاخامات

 

قبل عدة اشهر ظهرت الشرارة الأولى لظاهرة رفض الأوامر العسكرية لإخلاء المستوطنات، ولكن سرعان ما جرى اخمادها في هجوم اعلامي مكثف. وهناك الكثير من العوامل التي تسهم في اتساع هذه الظاهرة، ولكن العاملين الاكبرين نجدهما بين قادة المستوطنين الذين لم يتوقفوا عن اطلاق التصريحات الواضحة لرفض الأوامر، وايضا من قبل رجال دين يهود، خاصة من أولئك الذين يتم اعتبارهم "مرجعيات" لأوساط معينة في اليمين المتطرف والعنصري. والى جانب هذين العاملين فإن هذه الظاهرة تتغذى ايضا من الحوار السياسي الساخن، خاصة في داخل الكنيست الاسرائيلي، ويحظى الرافضون بتعاطف واسع من جهات اليمين، على الرغم من تصريحات رفض هذه الظاهرة.

ولا يمكن فصل الظاهرة أيضًا عن ظاهرة تنامي العنف في رفض جمهور المستوطنين لاخلاء المستوطنات، وتكثيف اجهزة المخابرات الاسرائيلية، على مختلف انواعها، وبالاساس جهاز المخابرات العامة "الشاباك"، تقاريرها حول استعدادات قوى اليمين العنصري والارهابي "لمقاومة" عمليات الاخلاء.

فقد كشفت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية في الاسبوع الماضي، عن ان مجموعات كبيرة من شبيبة المستوطنين الارهابية قد انتقلت من الضفة الغربية الى قطاع غزة، وتركزت هناك في مستوطنات صغيرة استعدادا لمواجهة الجنود الاسرائيليين وقوى الأمن حين تبدأ عمليات الاخلاء المفترضة، ويطلق على هذه المجموعات اسم "شبيبة التلال".

وتقوم "شبيبة التلال" هذه بنشاطات ارهابية في الضفة الغربية ومن ابرزها الاعتداء على الفلسطينيين وقتل عدد منهم وتدمير اراضيهم الزراعية وكروم الزيتون، واحتلال اراضي واقامة بؤر استيطانية عليها، دون قرار من حكومة الاحتلال.

ومن المفارقات ان هذه الشبيبة، أخذت اسمها "شبيبة التلال" من مشروع اريئيل شارون الاستيطاني الكبير في منتصف التسعينيات، حين حرض المستوطنين على احتلال التلال في الضفة الغربية واقامة مستوطنات عليها، من اجل مواجهة اتفاقات اوسلو، وقد حظيت "شبيبة التلال" في السنوات الأخيرة "برعاية دافئة" من ساسة بارزين في اسرائيل.

وتجري شبيبة التلال تمرينات ومناورات في مستوطنات قطاع غزة لمواجهة جنود الاحتلال عند عمليات الاخلاء، وقد انضمت الى هذه الشبيبة مجموعة من الشابات من مستوطنات منطقة نابلس، ويقوم الناشط الارهابي باروخ مارزل بالتنسيق بين التنظيمات اليهودية الارهابية.

ويقول التقرير ان هذه "الشبيبة" ترفض حتى برنامج "مقاومة الاخلاء" الذي وضعه قادة المستوطنين في قطاع غزة، وهم يسعون الى وضع "برنامج بديل"، ينفذون فيه عدة نشاطات في مركزها، إن لم يكن في كلها، العنف.

وجاء في التقرير الصحفي المذكور، ان جنود الاحتلال في مدينة الخليل المحتلة لاحظوا ان الاشتباكات بينهم وبين هذه الشبيبة اليهودية قد انخفضت في الأسابيع الأخيرة، وتبين ان هذا التراجع في هذه النشاطات يعود لانتقال هذه المجموعة الى قطاع غزة، كما ابلغت قيادات ميدانية لجيش الاحتلال عن مثل هذه الحالة في منطقة نابلس، حيث تتجمع هناك أخطر المجموعات الارهابية بين المستوطنين، في عدة مستوطنات.

وكانت تقارير سابقة قد أكدت ان الارهابيين اليهود يستعدون لعمليات ارهابية ضد الفلسطينيين، ايضا ضد الحرم القدسي الشريف والمسجد الاقصى المبارك، في سبيل تصعيد الوضع الامني وارغام الحكومة على تأجيل عمليات اخلاء المستوطنات.

وأكد رئيس جهاز المخابرات العامة الاسرائيلية، الشاباك، آفي ديختر، امام اللجنة البرلمانية الاسرائيلية للشؤون الامنية والخارجية على ان الارهابيين اليهود لم يتنازلوا بعد عن فكرة الاعتداء على المسجد الاقصى المبارك في القدس المحتلة، وأن هذا يعد تأكيدا لأنباء سابقة قالت ان الارهابيين اليهود يخططون للاعتداء على المسجد الاقصى من اجل دفع المنطقة الى تصعيد امني كبير يمنع حكومة اسرائيل من تنفيذ خطة الفصل الداعية للانسحاب من قطاع غزة وبعض مناطق شمالي الضفة الغربية. وكانت انباء سابقة قد اكدت ان الارهابيين يخططون للاعتداء على المسجد الاقصى بعدة وسائل، ومن بينها اسقاط طائرة شراعية مفخخة على المسجد المبارك، الذي تدعو حركات ارهابية يهودية الى نسفه "من اجل اعادة بناء هيكل سليمان" المزعوم مكانه.

من ناحية أخرى فقد اعلن ديختر في الاجتماع المذكور ان المستوطنين الارهابيين يخططون لاستخدام الاسلحة النارية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي خلال عملية الانسحاب المفترض من قطاع غزة. وقال ديختر ان المتطرفين اليهود ينوون بث اشاعات عند البدء بعمليات الانسحاب مفادها ان الجيش الاسرائيلي بدأ يطلق النار على المستوطنين الذين يرفضون اخلاء المستوطنات، وهذا كمبرر لاستخدام الاسلحة النارية ضد جنود الاحتلال.

 

 محمد بركة: العنف في إسرائيل جزء من ثقافة الاحتلال

 

أكد عضو الكنيست محمد بركة، رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، في حديث لـ "المشهد الاسرائيلي"، انه لا يمكن المقارنة بين رفض الخدمة العسكرية من منطلق رفض المشاركة في قمع الشعب الفلسطيني والاحتلال والحرب، وبين أولئك الذين يرفضون اوامر اخلاء المستوطنات. فالرفض الأول هو من منطلقات انسانية وسلامية، أما الرفض الثاني فهو اصرار على الاحتلال والاستيطان وقمع الشعب الفلسطيني، لذلك فإن المقارنة بين الأمرين هو أمر تعسفي يهدف الى حجب الحقيقة وخلط الاوراق. واضاف قائلا، إن ظهور الاصوات التي تدمج بين الامرين يعود الى ان اسرائيل دولة تعتمد العسكرة، وهناك قيمة قصوى للخدمة العسكرية.

واشار بركة الى ان الاصوات الرسمية التي نسمعها اليوم ضد ظاهرة رفض الأوامر العسكرية لاخلاء المستوطنات، نجد انها تخرج من نفس المعسكر الذي يريد الابقاء على الاحتلال والاستيطان، ولهذا فإن المؤسسة الرسمية تتعامل مع رافضي الأوامر بقفازات حريرية، من خلال الخطابات السياسية والمواعظ، بعكس التعامل الذي يطبق مع رافضي الخدمة العسكرية من منطلقات سلامية وانسانية.

وحول تنامي العنف بين المستوطنين، قال النائب بركة إن هؤلاء المستوطنين ينطبق عليهم المثل القائل، "تمرد المسخ على خالقه"، فالمستوطنون هم ابناء شرعيون للاحتلال والاستيطان والعنف الاحتلالي، هذه السياسة التي فرضتها حكومات اسرائيل والحكومة الحالية برئاسة اريئيل شارون، وكنا وما زلنا نقول انه لا يمكن للعنف الذي يبدأ ضد الفلسطينيين أن ينتهي عندهم، فثقافة العنف والاحتلال تنتشر في جميع النواحي داخل اسرائيل، بدءا من اشتراط الخدمة العسكرية للحصول على الحقوق والضمانات الاجتماعية، ووصولا الى العنف الممارس بقوة ضد الفلسطينيين.

وقال بركة إن العنف في داخل اسرائيل بدأ يأخذ اشكالا مختلفة، ولكن مصدره واحد، ولا يمكن زواله إلا بزوال سياسة الحرب والاحتلال، فعملية التجاذب الجارية بين اطراف اليمين، تلك التي في داخل الحكومة أو في خارجها، انما تدور حول كيفية تكريس الاحتلال والاستيطان في الاراضي الفلسطينية، وليس كما يظهر وكأنه هناك من يريد الانسحاب من قطاع غزة، وهناك من يرفض ذلك.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات