منذ هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تشهد الجامعات الغربية تصاعداً غير مسبوق في حملات المقاطعة الأكاديمية ضد إسرائيل، تجاوزت حدود الاحتجاجات الطلابية لتصبح سياسات مؤسسية في جامعات أوروبية وأميركية. تشمل هذه الحملات رفض التعاون البحثي، واستبعاد الأكاديميين الإسرائيليين، ووقف الاستثمارات. في هذا السياق، يأتي هذا المقال لتحليل أبعاد المقاطعة الأكاديمية، وتحوّلها إلى ظاهرة شبه بنيوية، واستعراض أبرز المبادرات الإسرائيلية لمواجهتها، وفي مقدمتها مشروع "درع الأكاديميين" الإسرائيلي.
(1)
رغم أن هجوم حماس خلق تعاطفاً دولياً مؤقتاً مع إسرائيل، فإن موجة من الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل اجتاحت الجامعات الغربية بعد أيام فقط. ذروة هذه الأنشطة كانت في نيسان وأيار 2024، واضطرت بعض الجامعات لاستدعاء الشرطة لضبط الأمن. مطالب المقاطعة شملت وقف التعاون البحثي مع المؤسسات الإسرائيلية، ومنع مشاركة الأكاديميين الإسرائيليين في المؤتمرات، وقطع بعض برامج التبادل الطلابي، ومنع الاستثمار في الشركات المرتبطة بإسرائيل خاصة في قطاع الدفاع.
(2)
تشير التقارير الصادرة عن "رابطة رؤساء الجامعات الإسرائيلية" إلى تصاعد كبير في وتيرة المقاطعة الأكاديمية ضد إسرائيل منذ أكتوبر 2023، حيث تم تسجيل نحو 500 حادثة مقاطعة، بزيادة نسبتها 66% عن الفترة التي تلت اندلاع الحرب على غزة. وقد تلقت الرابطة 300 شكوى خلال السنة الأولى، و200 شكوى إضافية حتى شباط 2025، ما دفعها إلى تشكيل فريق عمل متخصص وتعيين مسؤولين في كل جامعة لمتابعة هذا الملف. أبرز أشكال المقاطعة شملت وقف التعاون الأكاديمي من قبل مؤسسات في الولايات المتحدة، بلجيكا، إسبانيا، إنكلترا، هولندا، إيطاليا وكندا، في حين تراجعت بشكل حاد علاقات التعاون مع جامعات في إسبانيا، بلجيكا وهولندا. كما رُفضت مقالات لباحثين إسرائيليين في مجلات علمية دولية، وامتنع باحثون أجانب عن مراجعتها أو العمل مع الإسرائيليين خشية المساس بتمويلهم. إضافة إلى ذلك، أُلغيَت دعوات إلى مؤتمرات دولية، وتعرضت فعاليات بمشاركة إسرائيلية إلى احتجاجات طلابية.
(3)
نجحت حركة المقاطعة في جانبين مهمين: الأول توسيع قاعدة المؤيدين، وخصوصاً بين الشباب الذين يُنظر إليهم كقادة المستقبل. الثاني هو انتشار "المقاطعة الصامتة"، حيث تُرفض أوراق بحثية أو طلبات منح من باحثين إسرائيليين من دون حتى أي مبرر علمي، وتُستبعد طلبات قبول في برامج الدكتوراه أو الزمالات الطبية. غالباً ما يتم ذلك بحجة غير معلنة (أي أنها تأتي بنية المقاطعة لكنها تتذرع بمعايير أخرى مبهمة). في أوروبا، تبنت نحو 30 جامعة قرارات مؤيدة للمقاطعة، غالباً في جامعات من الصف الثاني (Tier 2 Universities)، وأحياناً تحت غطاء "الأخلاقيات". وتنظر إسرائيل الى الأمر بجدية، وترى أن الخطر يكمن في إمكانية انتشار هذه الممارسات إلى جامعات الصف الأول (Tier 1 Universities). وتشير جامعات الصف الأول إلى مؤسسات تعليم عالٍ ذات مكانة عالمية مرموقة، تمتاز بإنتاج بحثي كبير، تمويل ضخم، كادر أكاديمي متميز، وشراكات دولية واسعة، وغالباً ما تتصدر التصنيفات العالمية مثل QS أو THE، وتُعد مرجعاً في تطوير المعرفة والابتكار، مثل هارفارد، وأوكسفورد، وMIT، وستانفورد. في المقابل، تُعد جامعات الصف الثاني مؤسسات أكاديمية ذات جودة تعليمية وبحثية جيدة، لكنها تفتقر إلى نفس الموارد أو التأثير العالمي، وغالباً ما تخدم جمهوراً محلياً أو إقليمياً، وتبرُز في مجالات محددة من دون أن تكون شاملة أو رائدة على المستوى الدولي.
رغم هذه الاستجابة في الجامعات الأوروبية، فإن الجامعات الأميركية المرموقة لم تستجب بشكل رسمي لمطالب المقاطعة، ورفضت مؤسسات كبرى مثل "ستانفورد" و"براون" سحب استثماراتها. بل إن بعض الأكاديميين الأميركيين زاروا إسرائيل تضامناً معها، وأطلقت برامج دعم مثل "كالانيوت" في MIT لجذب باحثين إسرائيليين. وواجهت جامعات دعاوى قانونية أجبرتها على تنظيم الاحتجاجات وفق قواعد جديدة.
(4)
ورغم أن المقاطعة بدأت بشكل أساس كمبادرات طلابية، فإنها باتت تصدر الآن من هيئات التدريس والمؤسسات الأكاديمية نفسها، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة. التقرير وثّق عدة حالات، من أبرزها قرار جامعة "غينت" البلجيكية بقطع علاقاتها مع الجامعات الإسرائيلية وسعيها للتأثير على المفوضية الأوروبية، وكذلك تعليق اتحاد طلاب الطب العالمي تعاونه مع الجمعية الإسرائيلية. كما واجهت محاولات مقاطعة أخرى تدخلات قانونية ودبلوماسية إسرائيلية لإفشالها، مثل تدخل السفير الإسرائيلي في الهند لإعادة دعوة أكاديمي إسرائيلي أُلغيت مشاركته في مؤتمر هناك. وباختصار، المقاطعة لم تعد مجرد مواقف فردية، بل أصبحت ممنهجة ومؤسساتية، وتشكل خطراً بنيوياً على موقع إسرائيل الأكاديمي عالمياً.
المقاطعة تؤثر بشكل أكبر في العلوم الاجتماعية والإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية والهندسة. وقد أشعل قرار "رابطة أساتذة الجامعات الأميركية" (AAUP) بإزالة معارضتها المبدئية للمقاطعة الأكاديمية القلق، لأنه يشير إلى شرعنة هذه الممارسات في صفوف الأكاديميين الأميركيين. حتى الآن، لم تظهر مؤشرات تراجع كبيرة في إنتاجية البحث العلمي الإسرائيلي، أو عدد الجوائز والمؤتمرات، أو ترتيب الجامعات. لكن إذا استمرت المقاطعة الصريحة والصامتة، فقد تتأثر مؤشرات الأداء، خاصة في قطاع التكنولوجيا العالية (الهايتك) الذي يعتمد على الأبحاث المشتركة وخريجي الجامعات الإسرائيلية. كما قد تتضرر فرص الطلاب، ومكانة النظام الصحي المرتبط بالأبحاث الطبية والتعليم الطبي المتقدم.
(5)
تصدّت الحكومة الإسرائيلية ووزارتا الخارجية والشتات، ورؤساء الجامعات، لمحاولات المقاطعة عبر الضغط الدبلوماسي، والتواصل مع نظرائهم في العالم، والتعاون مع منظمات مكافحة معاداة السامية. في نحو ثلث الحالات الموثقة، حدث تدخل مضاد أثمر عن نتائج لصالح إسرائيل.
أحد أهم الردود الإسرائيلية لتصاعد المقاطعة الأكاديمية هو مشروع "درع الأكاديميين" (Scholar Shield Project)، وهو مبادرة أطلقها معهد نئمان للدراسات السياسية الوطنية في إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، بهدف رصد وتحليل ومواجهة ظاهرة المقاطعة الأكاديمية المتصاعدة ضد إسرائيل، خاصة في الجامعات الغربية.
بدأ المشروع نشاطه الفعلي في حزيران 2024 من خلال توزيع استبيان شامل على آلاف الأكاديميين الإسرائيليين، يطلب منهم الإبلاغ عن حالات مقاطعة واجهوها منذ اندلاع الحرب. وقد أسفرت الموجة الأولى من هذا الاستبيان عن مئات الشهادات التي تم تحليلها بعناية، فيما يجري تنفيذ موجة ثانية من جمع البيانات في مطلع العام 2025. تضمنت الحالات الموثقة رفض أوراق بحثية ومنح دراسية بدون مراجعة أكاديمية حقيقية، ورفض طلبات قبول في برامج دكتوراه وزمالات طبية، واستبعاد أكاديميين إسرائيليين من مؤتمرات دولية، وكلها أثارت شكوكاً حول دوافع سياسية كامنة.
اتسمت ردود الأكاديميين الإسرائيليين على المشروع بالحذر والقلق؛ فقد طلب نحو ربع المشاركين عدم الكشف عن هوياتهم خوفاً من التعرض للمضايقة أو العقوبات المهنية. كما أبدى الكثير منهم خشيتهم من الأجواء العدائية المتزايدة داخل الجامعات الغربية، والتي تدفع بعض المحررين أو مسؤولي القبول لاتخاذ قرارات متحيزة ضد أي انتماء أكاديمي إسرائيلي.
رغم هذا، أظهر المشروع أن بعض حالات المقاطعة واجهت تحركاً مضاداً من جانب الجامعات الإسرائيلية أو من الأكاديميين أنفسهم، وفي نحو نصف تلك الحالات كان التدخل فعّالاً وأسهم في تخفيف الأضرار. كما كشف المشروع أن المقاطعة الصامتة هي الأخطر من حيث الانتشار، خاصة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، مقارنة بالمجالات التقنية والعلمية التي لا تزال أقل تأثراً نسبياً.
يُمثل مشروع "درع الأكاديميين" أول محاولة إسرائيلية منظمة لرصد المقاطعة الأكاديمية بشكل ممنهج، وتحويلها إلى بيانات قابلة للتحليل والقياس، مما يمنح صانعي القرار أدوات لمعالجة الظاهرة عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية والمؤسسية. وهو بذلك لا يقتصر على دور توثيقي بل يسعى إلى بناء استراتيجية وطنية لمواجهة العزلة الأكاديمية المتنامية التي تهدد البحث العلمي والاقتصاد ومكانة إسرائيل الدولية.