تقف إسرائيل هذه الأيام أمام مفترق طرق هام على الصعيدين الداخلي والخارجي. فمن الوجهة الظاهرية استأنفت حكومة إيهود أولمرت العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي خلال عام 2008 وفق ما أعلن في أنابوليس. ومن الوجهة العملية تتعزز مساعي الاستيطان في الضفة الغربية ويتعاظم الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة.
ومما لا ريب فيه أن الحديث عن استئناف المفاوضات يفتح كوة في الأفق السياسي المغلق ولكن الإصرار على الاستيطان والحصار والتمييز يجعل من الأفق السياسي أصلا عديم القيمة. وإذ أضيف إلى ذلك واقع الحلبة الداخلية الإسرائيلية المعقد فإن الأفق السياسي يغدو مجرد تلاعب بالكلام ومجرد غطاء لتمرير الوقت وتكريس الأمر الواقع.
وليس صدفة أن مقتل الأفق السياسي تزامن قبل عشر سنوات مع بدء الحديث عن مشروع الاستيطان في جبل أبو غنيم في محيط القدس. والمفارقة أن استئناف العملية السياسية يتزامن مع إعلان حكومة أولمرت عن خطط توسيع الاستيطان في جبل أبو غنيم. والأدهى أن بدء الاستيطان في أبو غنيم وتعزيز هذا الاستيطان يتعارض حتى مع أوليات اتفاق أوسلو الذي قضى بتجميد الاستيطان فضلا عن تناقضه مع مبدأ العملية السياسية الذي يرفض فرض الوقائع على الأرض.
ومع ذلك من المهم فهم أن السياسة الإسرائيلية تجاه العرب والفلسطينيين لا تحكمها اعتبارات خارجية قدر ارتكازها إلى اعتبارات داخلية. وفي ظل الجنوح اليميني المتعاظم في الحلبة السياسية الإسرائيلية يصعب تخيل التقدم في هذا الوقت نحو تسوية سياسية معقولة. فحزب العمل الذي يعتبر عنصر الاعتدال الأبرز في حكومة أولمرت عاجز عن بلورة موقف موحد من العملية السياسية. كما أن زعيمه، إيهود باراك، يترأس الخط المتشدد الداعي هنا وهناك إلى تغليب الأمن على السياسة في كل ما يتعلق بالفلسطينيين.
ومن الجائز أن تركيبة حزب العمل القيادية الحالية والتي تتطلع ليس إلى تحقيق أهداف سياسية عليا بقدر تطلعها لتحقيق أغراض آنية ليست في وارد الدفع باتجاه تحقيق تسوية. بل إن عددا من قادة هذا الحزب، وفي مقدمتهم باراك نفسه، ركزوا في الآونة الأخيرة على فكرة أن الفلسطينيين غير ناضجين للتسوية لتبرير عزوفهم عن تأييدها بقوة.
وبالمقابل فإن الجناح المقابل في الحكومة وهو اليمين ممثلا بإسرائيل بيتنا وحركة شاس أفلح في إفراغ مؤتمر أنابوليس من كل محتوى حتى قبل عقده. ولا يبدو حتى اليوم أن هذا الجناح مستعد لتمرير أية خطوات تسهم في تعزيز التوجه نحو اتفاق سلمي مع الفلسطينيين. وقد كان هؤلاء أول من رفض تجهيز السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بمصفحات أو تسليح هذه المصفحات.
ويبدو الزعيم الروحي لحركة شاس الحاخام عوفاديا يوسف نقطة انطلاق للعديد من الجهات التي تحاول إضعاف أية فرصة للتسوية.
والواقع أن مفارقة الحكومة الإسرائيلية لا تكمن في "يمينها" أو "يسارها" فقط وإنما في وسطها أساسا. فالمشكلة الجوهرية تكمن في حزب كديما الذي بات أكثر من أي وقت مضى منقسما على نفسه ليس فقط إزاء قضايا السلام والحرب وإنما كذلك إزاء القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ويشهد على ذلك موقف عدد من وزراء الحزب وبينهم شاؤول موفاز من إضراب المعلمين ومن أداء وزيرة التعليم من حزب العمل يولي تامير.
وأيا يكن الحال فإن الصراع الداخلي في حكومة أولمرت ليس سوى أحد وجوه الصراع المتعاظم في المجتمع الإسرائيلي عموما وفي حلبته السياسية خصوصا. فالحال في المعارضة الإسرائيلية ليس أحسن كثيرا من حال الائتلاف الحكومي. إذ أن بنيامين نتنياهو لا يزال بعيدا عن كسب ثقة اليمين المتشدد الذي يحاول ابتزازه حتى قبل أن يعترف به زعيما. كما أن الصراعات داخل الليكود لم تحل ببوسة لحى بين نتنياهو وسيلفان شالوم.
وتكفي نظرة على تعاظم الفوارق بين الشرائح العليا والدنيا في المجتمع الإسرائيلي لتشهد على أن هناك نارا تتقد تحت الرماد. والمسألة ليست حكرا على المعلمين المضربين ولا حتى على بعض قطاعات الإنتاج. فقد تعاظم الاقتصاد الإسرائيلي من الناحية الرقمية وحقق إنجازات كبيرة لكن الأمر لم يفد الشرائح الدنيا التي باتت غير قادرة على العيش وتفضل الهجرة.
كما أن التقارير الأخيرة لمستوى حقوق الإنسان في إسرائيل أظهر حجم التنافر ليس فقط بين اليهود والعرب في الدولة العبرية وإنما كذلك بين الأغنياء والفقراء. وأشار التقرير إلى الفوارق الهائلة في الرواتب وفي حقوق العمل والأجور والخدمات الطبية والتعليمية.
وأمام تعاظم الفوارق يزداد التقاطب السياسي بعد فترة طويلة من الكمون. وما عودة اليمين السياسي إلى تظاهرات الاستيطان إلا بداية جهد لتسخين الأجواء ليس فقط خشية أن تفلح الحكومة في الاتفاق مع الفلسطينيين وإنما كذلك استعدادا لحسم المعركة في صناديق الاقتراع إذا جرى تقديم موعدها.
ويبدو اليوم أكثر من أي وقت آخر أنه بعد غياب "البعبع" الإيراني الذي طالما استخدمته إسرائيل داخليا وخارجيا تقف الحلبة الإسرائيلية أمام تغيير قريب. فإما إعادة خلط أوراق الائتلاف الحكومي وإما التقدم نحو انتخابات مبكرة لمنع تعاظم التقاطب.