استنزف الكثير من الكتّاب العرب جهدهم وهم يحاولون الاشادة بالأديب العراقي اليهودي الراحل سمير نقاش. وحاول بعضهم التركيز على مقدار حبه للعراق وللغة العربية وكأنها استثناء خاص به. وانسجم هؤلاء، من غير قصد، مع الرؤية الإسرائيلية التي حاولت اظهار نقاش بوصفه الاستثناء الذي يثبت القاعدة. ومع ذلك فإن نقاش كان في حياته ومماته لائحة اتهام طويلة ضد المجتمع العربي، وربما ضد ثقافته. فكيف يستطيع مثقف عربي ان يفسر كل هذا الحب والحنين لماض ولّى، كان فيه ليس نقاش وحده، إنما الكثير من أمثاله يشعرون بالانتماء لوطن وثقافة، في حين يدفع الحاضر آلافا مؤلفة من المثقفين العرب الى الكفر بهذا الانتماء؟.
والحقيقة انه من فرط ما نعيش من آلام، أسهمت إسرائيل بقسط وافر فيها، بتنا نعيش اللحظة وننسى سياقها. ولم نحاول البتة، ونحن نسمع يوميا أنباء التمييز الطائفي او مخاطر الاقتتال، ان نسأل أنفسنا السؤال الجوهري: لماذا تتحول أوروبا الى التنوع وندفن نحن تنوعنا؟ .
والى وقت قريب كانت أوروبا، وكل دولة فيها، عبارة عن صنف طائفي أو ديني او عرقي واحد. وكان يصعب العثور على تعدد أيا كان إلا في واحدة من اثنين: دول صغيرة تقع على مفترقات الطرق بين القوميات مثل سويسرا والدانمارك وامبراطوريات هائلة مثل روسيا. ومع ذلك كان الميل الغالب من أوروبا هو السعي للتوافق الداخلي حتى ولو كان ثمن ذلك التطهير العرقي، الذي كان آخره ما جرى في يوغسلافيا ومنذ أكثر من مئة وخمسين عاما تدور الجولة الأخيرة للصراع المذهبي في ايرلندا الشمالية.
ولكن الشرق عموما، والمنطقة العربية خصوصا كانت طوال التاريخ مرتعا لتنوع متعايش على مدى عصور. ولم يكن ذلك ليمنع بين الحين والآخر صراعات مذهبية سرعان ما كانت تخفت. ولكن هذا الشرق سمح بتعايش أديان سماوية مع أديان وثنية، بل أفسح المجال حتى لبقاء "عبدة الشيطان". وظل العراق وسوريا التاريخية على مر الأزمنة متحفا حقيقيا لتعددية يندر العثور على ما يشبهها.
وربما ان هذا ما خلق ما كان يعرف ب"سحر الشرق"، حيث ذلك المزيج من الثقافات القائمة على بعضها البعض في طبقات متكافلة. وكان الشرق هو الذي أعطى العالم "روحانياته" التوحيدية. ولكن هذا الشرق، بعد ان تعرض لاستعمار الغرب أخذ عنه أسوأ ما كان فيه، وهو الرغبة في التجانس. وهكذا بقدرة قادر صارت ثقافتنا تميل الى الانغلاق ولا تثري نفسها بالآخر البعيد، وترفض الاعتراف بالمختلف القريب.
وفجأة وجدنا ان الغرب صار يدعي ان حضارته "المادية" تقوم على أسس "القيم المسيحية واليهودية" مقابل "القيم الإسلامية". وكأن الإسلام غريب عن المسيحية واليهودية رغم انه بين الأديان من اعتبر نفسه امتدادا لكل الرسالات وتطويرا لها. وأسهم في ذلك أولا ذلك الاستعداد غير المبرر لاستبعاد الآخر. وهكذا ولأن الصهيونية حركة يهودية في الغرب ساعدنا، أحيانا بوعي وأحيانا بجهالة، على القاء جميع يهود الشرق في بوتقتها. والحقيقة ان الصهيونية كانت "ديانة يهودية جديدة"، وكانت في صلبها حركة غربية معادية للشرقيين.
ومهما يكن الحال، فإن يهودا عربا مثل سمير نقاش ظلوا، بدأبهم على التمسك بعروبتهم، مثل من يدق جدران الخزان، ولا من يجيب. والأدهى ان هناك في كل بلد عربي تواجد فيه اليهود من حاولوا ان يكونوا مثل نقاش وأكثر. وفي المغرب هناك المناضل القومي ابراهام تسرفاتي، وفي مصر المناضل هارون شحاته، وقد ظل حنين هؤلاء لأوطانهم قويا رغم كل ما تعرضوا له من تحريض واضطهاد. والواقع ان وجود هؤلاء كعرب يبقى في العروبة روحا سوف تفتقد غناها ان اختفوا.
لقد كان لدينا في الماضي شيء يدفع أجزاء منا، وان اختلفت عنا، الى التماثل والتعاطف والاسهام، وعندما نقرأ قصة سمير نقاش، المروية هنا، بشيء من التشفي وربما العداء، ندرك حجم ما فقدناه ليس كشخص، وإنما كرسالة كنا نحن عنوانها. لقد كان هذا الرجل منا، يحب فينا ما كان جيدا، وما صرنا نفتقده نحن أيضا. فالتسامح الذي كان قاعدة التعامل بين الأديان والاعراق والمذاهب في بلادنا أخلى مكانه لتعصب لا يدفع أحد سوانا ثمنه. وليس هناك أقوى تعبيرا من تصريح نقاش، طوال الوقت: "كنت يهوديا عراقيا في العراق، وأنا يهودي عراقي في إسرائيل".
فهل يمكن لنا كعرب ان نعود الى إعادة الحياة لروحنا القديمة من جديد باقرار التنوع وقبول الاختلاف، ان لم يكن من أجل الثراء الفكري، فعلى الأقل من أجل ان لا نزيد قوة أعدائنا. لقد وهب الحكام العرب إسرائيل في الماضي نصف قوتها من خلال التواطؤ لطرد اليهود من الدول العربية. واليوم ثمة من يخشى من وراء تفجير الكنائس والتمييز ضد المسيحيين ان نخسر من كانوا أول من دعا الى الوحدة العربية والحرية والاستقلال.