المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما ان علمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بتدهور صحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حتى بادرت للاحتفال بموته. وأعلنت أنه سيفارق الحياة خلال بضع ساعات. ولكنها سرعان ما اضطرت إلى وقف تهورها والبحث في نتائج وفاة عرفات. وفجأة أخلت الفرحة مكانها للقلق. فما الذي سيحدث إذا توفى الله عرفات وهل إسرائيل مستعدة لذلك؟ وفورا تسارعت الأفكار وبدت إسرائيل الرسمية والإعلامية في موقع من يريد النأي بنفسه عن الظهور بمظهر الفرح أو الشامت.


وصار همّ الإسرائيليين التوضيح لكل من يريد أن يسمع بأنهم جميعاً، وخصوصاً أريئيل شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز، معنيون بتوفير كل ما يلزم وتسهيل أمر تلقي عرفات كل علاج ممكن. فإسرائيل لا تريد، رغم عدائها لعرفات، أن تظهر بمظهر من حال، مباشرة أو بشكل غير مباشر، دون علاجه. ولذلك أعلنت كل المصادر الإسرائيلية أن شارون وموفاز اتخذا قراراً أبلغاه لرئيس الحكومة الفلسطينية أحمد قريع (أبو علاء) باستعداد إسرائيل للاستجابة لكل ما يطلبه الفلسطينيون بهذا الشأن. وهكذا سمحوا لزوجة عرفات وابنته وطاقمين طبيين من الأردن ومصر بالوصول دون إبطاء. وأبلغا الأردن بجاهزية إسرائيل لتسهيل نقله إلى أي مكان في الأراضي الفلسطينية أو في الخارج. ورغم إصرار إسرائيل في الماضي على اشتراط كل خروج لعرفات من المقاطعة بعدم العودة إليها، فإنها تجاهلت الآن هذا الشرط، وصارت تتحدث فقط عن "الجانب الإنساني" في القضية.
ومن البديهي أن الخطوات الإسرائيلية سياسية من الدرجة الأولى، وهي تخلو من أي صفة إنسانية. ولعل محاولات التغطية الإعلامية الواسعة لـ"السخاء الإنساني" الإسرائيلي ترمي إلى تسجيل نقطة لدى الجمهور الفلسطيني تقلص حجم المسؤولية. ومع ذلك تدرك إسرائيل أن الفلسطينيين في كل الأحوال سيحمّلون إسرائيل المسؤولية المباشرة عن عيش عرفات في ظروف معيشية صعبة منذ فرض الحصار عليه قبل ثمانية وعشرين شهراً.
غير أن لجوء إسرائيل إلى هذه الخطوات لا يعود فقط إلى الخشية من الفلسطينيين بل كذلك إلى الخشية من الوضع الجديد الذي يفقد فيه شارون "فزاعة عرفات". فقد بنت إسرائيل سياستها على أساس انعدام الشريك الفلسطيني وصاغت وفق ذلك خطة الفصل، وأفلحت في نيل تأييد الولايات المتحدة لهذه السياسة والحصول على درجات متفاوتة من الدعم الدولي لها. ومن شبه المؤكد أن غياب عرفات في هذه اللحظة التاريخية بالذات يشكل إرباكاً وربما تقويضاً لواحد من أهم أعمدة السياسة الإسرائيلية. إذ ان غياب عرفات يشكل عودة اضطرارية إلى خريطة الطريق، وهذا ما يعيد خلط الأوراق في الساحة الإسرائيلية في هذا الظرف بالذات.
ويكتب المراسل العسكري لـ"معاريف" عمير راببورات أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعلّمت من خيبات الأمل السابقة عن وفاة وشيكة لعرفات فلم تهرع للتخطيط لليوم التالي لانصرافه. وكتب أنه في مداولات داخلية هذا الأسبوع قال شاؤول موفاز ورئيس الأركان موشيه يعلون انه "يجب الانتباه جيداً لما يجري في المقاطعة". ولكنهما لم يتطرقا لعرفات بوصفه مريضاً ميؤوساً من شفائه في هذه المرحلة. ومع ذلك أكثر المعلقون الإسرائيليون من الإشارة إلى أن "سخاء" إسرائيل في التعامل مع قضية عرفات يعود إلى الاقتناع بأن وضعه الصحي ميؤوس منه.

وتبدي مصادر عسكرية إسرائيلية أملها في وفاة عرفات، الأمر الذي يقود حسب رأيها إلى بزوغ قيادة فلسطينية جديدة. وحسب ضابط رفيع المستوى فإنه "فقط إذا توفي عرفات هناك أمل بقيادة جديدة حقيقية في صورة أبو مازن أو محمد دحلان، اللذين قد يكونان على استعداد للتنسيق مع إسرائيل في تنفيذ خطة الفصل، الأمر الذي هو أفضل بلا ريب من خطوة من طرف واحد". وأوضح الضابط الكبير بأن تفاقم وضع عرفات سيغير بكل الأحوال المخططات بشأن الفصل من حيث الأساس، ويفتح إمكانية الانسحاب في إطار اتفاق. وأجمل الضابط بأنه "يحتمل أن يتبين انه حتى لو كان وضع عرفات خطيراً، ولكنه سيبقى سنة أو سنتين، على قيد الحياة، فإنه من المجدي تأجيل الفصل بعض الشيء وانتظار موته".
غير أن الأشد إثارة للذهول في التصرف الإسرائيلي هو أن القادة الإسرائيليين الذين قرروا قبل عامين أن عرفات صار "غير ذي شأن"، تعاملوا ولو بشكل مباشر معه الآن بوصفه الأكثر شأناً. وكرّست وسائل الإعلام الإسرائيلية أغلب وقتها وصفحاتها لمتابعة أنباء تدهور صحة عرفات. واحتلت صورة عرفات وأنباء صحته ليس فقط الصفحات الأولى بل الكثير من الصفحات الداخلية التي تعاطت مع الحدث وكأنه الشأن الداخلي الأول. وليس صدفة أن المعلق السياسي لصحيفة "معاريف" بن كسبيت أشار إلى أن المنطقة من دون عرفات هي "شرق أوسط جديد" وأن وفاة عرفات قد تقتل خطة الفصل.
وفي نظره فإنه "إذا لم يكن هناك عرفات، فيحتمل أن يغدو هناك شريك. المنطق القابع خلف خطة الفصل سوف ينهار دفعة واحدة". ويقول كسبيت إن هناك أيضا سيناريوهات أقل تفاؤلا، أبرزها ميل الفلسطينيين "لاتهام إسرائيل بوفاة عرفات، أو على الأقل بخلق الظروف التي أدت إلى تدهور وضعه. وفي مثل هذا الوضع، قد تنشأ اضطرابات من شأنها أن تجر إسرائيل إلى رد شديد، من شأنه أن يجعل السيناريو المتفائل أعلاه خيالياً وإحاطة كل المنطقة بدخان سميك. ومرة أخرى، فإن الكثير جداً منوط بأريئيل شارون. فالعالم بأسره، إلى جانب ملايين الفلسطينيين، سينظرون ويسمعون أفعاله وأقواله في اليوم ذاته. يمكن لشارون أن يكون سخياً وغير وحشي، مشفقاً وغير متسرع. من غير المؤكد أن يغير هذا كثيراً، ولكن أحياناً يكفي فارق صغير".
وفي "معاريف" أيضا أشار معلق الشؤون العربية عميت كوهين إلى أن إسرائيل بعد غياب عرفات تخشى من فقدان السيطرة على الوضع الفلسطيني وأن يسود واحد من سيناريوهين: "في واحد منهما تتواصل الفوضى على مدى زمن طويل وتخرج عن نطاق السيطرة، تقسم المناطق الفلسطينية إلى كانتونات، مع اتصال واهن بينها؛ في السيناريو الثاني، وهو على ما يبدو أكثر واقعية، ستقوم مجموعة قيادية لا قائد واحد، تقود الفلسطينيين. في هذه المجموعة سيكون قادة ميدانيون لفتح، رؤساء أجهزة وسياسيون، مثل أبو مازن وأبو علاء".
وكتب المراسل السياسي في صحيفة "هآرتس" ألوف بن أن غياب الرئيس عرفات عن الساحة "سيحدث تغييراً جوهرياً في المحيط السياسي لإسرائيل، وكذا في الساحة السياسية الداخلية. والادعاء بأن "لا شريك"، الذي شكل أساس السياسة الخارجية الإسرائيلية في السنوات الأربع الأخيرة، وبرر رفض إجراء مفاوضات مع السلطة الفلسطينية، سيغيب معه".

ورأى بن أن "خطة الانسحاب من طرف واحد ستفقد المبرر المركزي لوجودها، وهو غياب الشريك الفلسطيني. وبعد يوم واحد فقط من مصادقة الكنيست على الخطة، والشرخ الدراماتيكي في قيادة الليكود، تغيرت الظروف دفعة واحدة". فغياب عرفات سيهدئ الليكود ويحرر العقدة التي أوقفت حتى الآن من وجهة نظر أميركية العملية السياسية. ويرى بن أنه "بتشجيع الأوروبيين، سيكون بوسع واشنطن استئناف دورها وقيادة الحوار بين إسرائيل وورثة عرفات، ولا سيما إذا كان جون كيري هو الذي سينتخب، بدل جورج بوش. وسيكون شارون مطالباً بالدخول فوراً في مفاوضات، إذا ما وقف في قيادة السلطة شخصيات معتدلة مثل أبو مازن، غير المصابين بالإرهاب".
وثمة معنى كبير للاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيسا الحكومة الفلسطينية والإسرائيلية حول صحة عرفات. فهذا الاتصال هو الاول بين "المقاطعة" ورئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ أكثر من ستة شهور. ورغم أن الإسرائيليين يقولون إن أبو علاء لم يطلب ولم يثر موضوع عودة عرفات بعد تلقي العلاج، غير أن المصادر الإسرائيلية أقرت بأن هذا الموضوع أثير حقاً في حديث هاتفي بين منسق السياسات الخارجية الأوروبية خافيير سولانا مع شارون، وأن شارون أبلغ سولانا أن إسرائيل لا تمانع في عودة عرفات إلى الأراضي المحتلة بعد العلاج.

المصطلحات المستخدمة:

موشيه يعلون, هآرتس, الكنيست, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات