كتب أنطوان شلحت:
بعد مطالعة معظم ردود الفعل الاسرائيلية المكتوبة على رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، التي انطلقت حتى قبل إعلان نبأ الوفاة، يصعب على المرء التحرّر من إنطباعين متصلين:
الأول: أن أكثر ما أزعج الاسرائيليين، بل وأقضّ مضاجعهم، في شخص الراحل الكبير هو رفضه المتواصل وإصراره المثابر على عدم المماشاة مع الإملاءات الإسرائيلية لعملية التسوية مع الفلسطينيين، خصوصًا بعد أن انطلقت في طريق المفاوضات، التي لم تكن مشقوقة من قبل أوسلو.
الثاني: إختزال جميع السيناريوهات الفلسطينية المتوقعة بعد رحيل عرفات في سيناريو واحد ووحيد (هو السيناريو المشتهى إشتهاءً كاملاً من طرف إسرائيل)- محو إرث عرفات السالف. وهو ما يعني، على صلة بما تقدّم، مماشاة الإملاءات الاسرائيلية للتسوية من الآن فصاعدًا.
وبدون مبالغة ينسحب هذان الانطباعان على الغالبية الساحقة جدًا من ردود فعل الساسة والمعلقين الاسرائيليين، من اليمين والوسط وحتى اليسار الصهيوني. وفي شأن الانطباع الثاني بلغ الأمر، لدى أحد الساسة الاسرائيليين الأكاديميين، البروفيسور شلومو أفنيري، حدّ تشبيه عرفات بـ..هتلر و"التمني" على الفلسطينيين أن "يتحرروا من إرثه حسبما أفلح الشعب الألماني في التحرر من إرث هتلر"! ("يديعوت أحرونوت"، 14/11/2004).
مع ذلك فلم يخل الأمر من بعض ردود الفعل الاستثنائية، التي نعرض لها هنا بنظرة طائر.
حتى بزة عرفات العسكرية لم تسلم من ردود الفعل الاسرائيلية الحاقدة على هذا القائد الوطني والرمز التاريخي الكبير، كما أشار إلى ذلك ردّ فعل إستثنائي صدر عن دورون روزنبلوم في "هآرتس" (12/11/2004). ويشيد ش. أفنيري، في مقاله المذكور، بالمقارنة التي عقدها يوسي بيلين، ضمن مقابلة مع "لو موند"، ما بين عرفات والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لجهة أن كليهما وعد شعبه بالخلاص لكنه "منحه نظامًا رمزه كامن في البزة العسكرية، التي لم يقدر أي منهما على خلعها حتى ولو للحظة واحدة".
في هذا الصدد بالتحديد تكفي العودة إلى روزنبلوم الذي يؤكد في مقاله السالف أن من يسكن في بيت من زجاج من الأجدر به ألا يرمي الآخرين بحجارته، فمعظم أولئك (من الاسرائيليين) الذين أشاروا باستعلاء إلى "العسكرية" الكامنة في شخص عرفات وفي أدائه القيادي، لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهم يرتدون البزة العسكرية، وإذا لم تكن بزة مادية فهي ذهنية، من "أمان" - الاستخبارات العسكرية والمعارضة الرئيسية وحتى رئيس الحكومة نفسه. ويضيف: ربما كانت البزات العسكرية للقيادة الإسرائيلية أكثر هندامًا، أو تم إستبدالها بأخرى مدنية، ولكن هذه القيادة لم تتجاوز القوة العسكرية في نضجها ولم تكف للحظة عن التفكير بمصطلحات أمنية تجاه القضية الفلسطينية و"تجاه مسألة وجودنا عامة".
وفيما يؤكد هذا المعلق أيضًا أنه عما قريب سيتضح أيضًا أنه يوجد تحت عباءته (عرفات) العسكرية صف من الشخصيات التي تتحدث بطلاقة وذات مواهب دبلوماسية مؤثرة ومن الممكن أن تجند تأييد العالم بسهولة بل وأن تطرح أجندة أخرى، فهو يشير إلى أن إسرائيل باقية، حتى إشعار آخر، مع الضابط إيهود باراك كبديل للضابط أريئيل شارون، ومع الضابط متان فيلنائي كبديل للضابط باراك، ومع الضابط عمرام متسناع كخليفة ضائع لباراك، ومع الضابط عامي أيالون كـ"مضاد مدني" لكل هؤلاء.
لقد جددت ردود الفعل الاسرائيلية على موت عرفات، في مجملها، التوكيد أن "السلام" بحسب مقاسه الاسرائيلي الراسخ هو سلام فارغ من أي مضمون جوهري، حين ينأى بنفسه أو حين ينأى به قائد مثل ياسر عرفات عن غاياته الاسرائيلية التقليدية. وبمقدار ما إن هذا "السلام" يناسب اليمين الاسرائيلي فإنه غير منتف تمامًا في رؤية اليسار الصهيوني- ذلك اليسار الذي سبق لباحث إسرائيلي ما أن أخذ عليه ما أسماه "مفهومه المسيحاني العلماني للسلام". فلقد تغاضى هذا اليسار عن حقيقة أن غالبية السلام منذ أوسلو بقيت في الأدراج دون تطبيق عملي، وأن الاحتلال استمر كما لو أنه لم يحدث شيء يذكر، وأن أية مستوطنة كولونيالية إسرائيلية لم تتحرك من مكانها، وأن العنف الفلسطيني، نتيجة لذلك، لم يتوقف. وهكذا كان الواقع الاسرائيلي نفسه عقبة في الطريق الى الشرق الأوسط الجديد والى الثمار الكبيرة التي وعد بها. وهذا الواقع كان العقبة أمام الوصول إلى الشوط الأخير.
ويعتقد الباحث نفسه أن المسؤولية عن المناخ المسيحاني، الذي تطور بعد (إتفاق) أوسلو، يتحملها مباشرة شمعون بيريس، الرئيس الحالي لحزب "العمل" (نشر بيريس بعد رحيل عرفات مقالاً غسل فيه يديه من المسؤولية عن إخفاق عملية التسوية حين وصف الراحل بأنه فتح أبواب التاريخ لكنه لم يمض إلى "الشوط الأخير") ويوسي بيلين. وهو يؤكد أن بيريس هو ذلك الذي بلور، بصورة عامدة، وعيًا استحواذيًا الى ناحية أن السلام أصبح قائمًا. وقد ذهب بيلين في عقبيه. ويضيف أن المسيحانية التي تتطلب مسيحًا كاريزميًا هي جزء من التفكير الديني. أما المسيحانية العلمانية فانها لا تستوجب مسيحًا شخصانيًا، اذ أن المسيح في هذه الحالة هو السلام. وأعاد إلى الأذهان، في هذا الخصوص، احدى المقابلات مع شمعون بيريس، حيث تحدث في سياقها عن الحاجة والضرورة الى الدفاع عن جسد السلام. "كما لو أن السلام هو شخصية بشرية تتجول في الشوارع"، قال.
وإلى أن يستفيق هذا اليسار من غيبيته أو غيبوبته، فإن التحذير المتكرر تجاه الحكومة اليمينية على لسان المعلقين البارزين هو من مغبة الوقوع في وهم قبول القيادة الفلسطينية الجديدة بشروط شارون لاستئناف المسيرة السلمية، مؤكدين ان الكرة الآن في الملعب الاسرائيلي أساساً، وانه من غير الجائز مطالبة الفلسطينيين بـ"وقف الارهاب" من دون ان تقلع الحكومة الحالية عن تعنتها، كما كانت الحال أيام عرفات.
ومهما تكن عناصر هذا التحذير، فإن المعلق العسكري في "يديعوت احرونوت"، أليكس فيشمان، يرى أنه من السابق لأوانه الحديث عن عهد جديد وأن بلوغ عهد كهذا يتطلب من اسرائيل تعاوناً مع الفلسطينيين والاميركيين والاوروبيين وإبدائها صبراً وعدم تفويت هدنة او الوقوع في فخ الوهم الذاتي بأن فجراً قد بزغ. ويتابع فيشمان ان التوقعات الاسرائيلية بحدوث تغيير جوهري بعد موت عرفات ليس سوى ضرب من السذاجة لأن القيادة الجديدة لن تغيّر حتى حرفاً واحداً من إرث عرفات بل ستتمسك بكل الاهداف القومية التي حددها.