بقلم: حلمي موسى
أبدى رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون درجة عالية من "المرونة" تجاه الفلسطينيين فور تدهور صحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وزاد في "سخائه" إثر إعلان وفاة الرئيس عرفات. وربما أنه أوحى للكثيرين بأن الوضع بات قيد السيطرة، وأن مصالح إسرائيل باتت في أمان. وقد أعرب عن ذلك علناً بحديثه عن "انعطاف" تاريخي مقبل. ولكن "المرونة" و"السخاء" وإبداء الأمل كان مجرد تظاهرة شارونية تخدم أهدافاً متعددة ولكنها لا تخدم الراغبين في التوصّل الى تسوية.
ومن الجائز أن هذا التظاهر بالمرونة جاء تجاوباً مع موقف دولي، بعضه أميركي، ذهب "أبعد من اللازم" في التغني بـ"الفرصة" التي لاحت إثر وفاة الرئيس عرفات. ولا أحد ينسى ان شارون ذاته هو الذي تفاخر مراراً بالإنجاز الكبير الذي حققه والذي تمثل في "إقناع" الإدارة الأميركية أولاً وبعدها الكثير من "القوى الدولية والعربية" بأن الرئيس عرفات يشكل عقبة أمام التسوية. وليس مجرد عقبة، بل العقبة الرئيسية.
وهكذا فإن "زوال" هذه العقبة كان يعني "يوم فرح" لكل المستائين من جمود العملية السياسية. ولكن هذا التوصيف لا ينطبق على أريئيل شارون وحكومته. فجمود العملية السياسية كان هدفاً أساسياً لهذه الحكومة جرى التوصل اليه بوسائل مختلفة أبرزها إعلان الرئيس عرفات "عقبة". ولذلك يمكن الافتراض بأن "زوال" هذه العقبة لم يكن "يوم فرح" لشارون إلا من زاوية عاطفية محدّدة.
وإذا صحّ هذا التوصيف فإن شارون لا يمكن ان ينظر الى ما جرى في الساحة الفلسطينية إثر وفاة الرئيس عرفات نظرة ايجابية. فالموقف الشعبي والفصائلي الموحّد حول ضرورة انتقال السلطة بشكل نظامي، والميل الى الالتزام بالقواعد والقوانين، والاحتكام الى الحوار في حل النزاعات الداخلية، أمر لا يرضي شارون. ولكن ما لا يرضيه أكثر هو أن تحاول الأسرة الدولية، وبينها أميركا، العمل على أساس ان الوضع الجديد يقتضي من الحكومة الإسرائيلية تغيير نهجها في التعامل مع الفلسطينيين.
والنهج الإسرائيلي لم يكن مجرد موقف من عرفات، بل كان في الأصل موقفاً من الشعب الفلسطيني وحقوقه. ولذلك، ورغم الحديث الواسع عن "بوادر حسن نية" وعن إمكانية تغيير، فإن الواقع بقي، وعلى الأغلب سيبقى من دون تغيير. وهذا لا يعني حدوث انفراجات مؤقتة هنا او هناك، او اضطرار من جانب إسرائيل لإخفاء بعض سلوكياتها أو التخلّي عن حجج وذرائع من أجل اختلاق ذرائع وحجج جديدة.
وربما أن عودة إسرائيل عن "مرونتها" إلى نهجها القديم ستكون أسرع من كل التوقعات. فما إن أشار رئيس اللجنة التنفيذية الجديد لمنظمة التحرير، محمود عباس (أبو مازن)، الى حق العودة، حتى خرجت عليه الأبواق الرسمية الإسرائيلية بتصريحات الإدانة. ولا ريب في أن إسرائيل، إذا ما واصل أبو مازن الإعراب عن المواقف الرسمية الفلسطينية المعروفة، ستنتقل سريعاً من الإدانة إلى الحملات ضده.
ومن الجائز أن مشروع المسؤولين الإسرائيليين بالحديث عن شخصية أبو مازن وعجزه عن اتخاذ القرارات الحاسمة المناسبة يشكّل الأرضية لبدء الهجوم عليه. فهم يعرفون أن الشهور المقبلة لا تنطوي على أي نوع من الحركة السياسية التي قد تقفز عن خطة الفصل. وان أي اتصالات او مفاوضات ستدور فقط في دائرة "تنسيق" تنفيذ هذه الخطة، إن أفلح شارون في تمريرها داخل حكومته، وإن بقيت هذه الحكومة. ولذلك فإن الهجوم على أبو مازن سوف يكون قصراً على عدم قيامه بـ"محاربة الإرهاب" في مناطق السلطة. ولكن هذا الهجوم سوف يشتدّ إذا ما أفلح أبو مازن في دفع الأسرة الدولية الى العمل على تحريك التسوية، وإن جرى ذلك في ظل استمرار العمليات الفدائية الفلسطينية.
وفي إسرائيل يحاولون من خلال "التنسيق" الحصول على شرعية دولية لخطة الفصل تمنح إسرائيل القدرة على ادعاء "انتهاء الاحتلال" في قطاع غزة وشمالي الضفة. ومن الملاحظ ان شارون يحاول أيضاً اكتساب شرعية عربية لذلك من خلال سعيه لإقناع المصريين بأنهم إذا ما أقدموا على منع التهريب الى قطاع غزة فإنه يفكّر في إخلاء محور فيلادلفيا. ولكن مساعي شارون من أجل الحصول على هذه الشرعية لا تخفي واقع انه لم يتخلَّ عن فكرة ان خطة الفصل هي في الحقيقة محاولة لعرقلة التسوية.
وفي الوقت الذي تشكّل فيه الانتخابات الفلسطينية أداة لـ"حل الخلافات" ولتشريع "نهج سياسي" فإن هذه الأداة تفقد إسرائيل واحدة من أسلحتها ضد الفلسطينيين. والآن يمكن القول إن هذه الانتخابات صارت سلاحاً بأيدي الفلسطيني، ليس إعلامياً وحسب، وإنما على الصعيد السياسي أيضاً. فمطلب الانتخابات يعني خلق الشروط لإنجاحها، وفي مقدمة هذه الشروط انسحاب القوات الإسرائيلية من المدن والقرى وتسهيل الحركة والتنقّل. ورغم أن إسرائيل أعلنت أنها سوف "تسهّل" العملية الانتخابية إلا ان من المتوقع أن تضع عراقيل كثيرة أمامها.
عموماً، الشهور القادمة، ورغم الحديث عن "فرصة تاريخية" سوف تنقضي في ترتيب شؤون داخلية في الطرفين. إسرائيل ستنشغل إما بانتخابات جديدة او بصراعات تقود إلى تشكيل ائتلاف حكومي جديد. والفلسطينيون سينشغلون بترتيب أوضاعهم الداخلية. ومثلما ستدور المعركة العسكرية على نيران هادئة، فإن المعركة السياسية ستكون كذلك أيضاً.