معركة انتخاب رئيس الدولة الجديد انتهت لكن غبار الفضائح لم يهدأ
شبهات أخلاقية وجنائية تعيد مؤسسة الرئاسة في إسرائيل إلى مركز الاهتمام!
*سبعة أشخاص أعلنوا ترشحهم لمنصب الرئيس العاشر لدولة إسرائيل. اثنان اضطرا إلى الانسحاب جراء شبهات مختلفة، سواء بالتحرش الجنسي أو تلقي الرشاوى. اثنان انتقلا إلى الجولة الثانية، أحدهما متورط في شبهات بارتكاب مخالفات غير أخلاقية، وربما جنائية!*
كتب سليم سلامة:
انتخب الكنيست الإسرائيلي، يوم الثلاثاء العاشر من حزيران الجاري، عضو الكنيست ورئيس الكنيست السابق رؤوفين ريفلين، رئيسا عاشرا لدولة إسرائيل، بعد تفوقه على منافسه عضو الكنيست مئير شطريت في الجولة الثانية (63 صوتا مقابل 53) في ختام معركة حامية الوطيس ومتعددة الجبهات تخللها سيل من المناورات والمؤامرات التي أدت إلى حصول تردٍّ كبير في مدى احترام الجمهور الإسرائيلي عموما لمؤسسة الرئاسة، التي تتميز بالرمزية على نحو أساس، وهو ما عكسه عدد غير قليل من استطلاعات الرأي التي أجريت عشية وغداة عملية التصويت التي جرت في الكنيست لاختيار أحد المرشحين لهذا المنصب.
ولئن كانت المناورات والمؤامرات التي سبقت يوم التصويت وعملية الانتخاب، حتى إعلان نتائجها النهائية الرسمية فوز ريفلين، قابلة للطيّ والنسيان من منطلق اعتبارها "جزءا من اللعبة السياسية" ("الديمقراطية")، فإن ما تزامنت معه عملية التصويت وإعلان النتائج من شبهات تحوم حول تورط أحد المرشحين الأساسيين لمنصب رئيس الدولة (العاشر) في فضائح أخلاقية، قد تنطوي أيضا على مخالفات جنائية ـ فضلا عن اضطرار اثنين آخرين إلى الانسحاب في مرحلة سابقة ـ يشكل غيمة سوداء متلبدة تنضاف إلى "الغيوم" الفضائحية المتزايدة والمتفاقمة، أخلاقيا وجنائيا، التي غدت علامة مميزة في الحراك السياسي ـ الحزبي الداخلي الإسرائيلي، ناهيك عما ترسمه من علامات استفهام / استهجان / استخفاف / ازدراء حول مؤسسة حظيت على الغالب حتى اليوم (باستثناء فضيحة الرئيس السابق موشي كتساف) باحترام وثقة إجماعيين بين الجمهور الإسرائيلي.
فالفضيحة الأخيرة تتعلق بعضو الكنيست مئير شطريت، الذي انتقل إلى الجولة الثانية من المنافسة أمام رؤوفين ريفلين، بعدما انتهت الجولة الأولى إلى خروج المرشحين الثلاثة الآخرين من سباق التنافس: عضو ورئيسة الكنيست السابقة داليا إيتسيك، قاضية المحكمة العليا السابقة داليا دورنر والبروفسور دان شيخطمان الحائز على جائزة "نوبل" في الكيمياء للعام 2011.
منصب محفوف بالشبهات!
يبدو واضحا أن التدهور المتواصل الحاصل في معايير العمل السياسي ـ الحزبي ـ البرلماني، الشخصية والأخلاقية، منذ بضع سنوات، يرتدي صورا مختلفة ومتعددة تتزايد باستمرار، مع استمرار الاتساع في مقاييسه ودوائره إذ يتفشى، يوما بعد يوم، في مزيد من المجالات ومن المؤسسات الرسمية التي تحظى (أو: كانت تحظى) حتى الآن بامتياز اعتبارها "نقية / طاهرة"!
ولا شك في إن إحدى هذه المؤسسات، إن لم تكن أولها وأبرزها، مؤسسة الرئاسة في إسرائيل، التي تميزت حتى الآن بقدرتها على تشكيل مركز جذب وتوحيد للمجتمع الإسرائيلي (اليهودي، تحديدا وأساسا) بمختلف أطيافه وانتماءاته، مما أكسبها احتراما وثقة واسعين جدا واستثنائيين بين الجمهور الإسرائيلي، عموما، عبرت عنهما العديد من استطلاعات الرأي العام التي أجريت في إسرائيل على مدار سنوات عديدة خلت.
وفي مساعي صيانة هذه المؤسسة وتحصينها أمام أخطار الفساد والتكلس واحتمالات الابتزاز، جرى في العام 1999 تعديل "قانون أساس: رئيس الدولة" ليقضي بتحديد مدة ولاية رئيس الدولة بولاية واحدة فقط فترتها سبع سنوات، بدلا مما كان سابقا: فترة خمس سنوات قابلة للتمديد (إعادة الانتخاب) لدورة ثانية أخرى.
وعلى الرغم من أن فضيحة رئيس الدولة السابق، موشي كتساف، بتورطه في ممارسات أخلاقية مشينة وجرائم جنائية خطيرة ثبتتها المحاكم الإسرائيلية ضده (ففرضت عليه عقوبة السجن الفعلي لسنوات طويلة بجريرتها) مثلت فترة انحطاط نسبي في موقف الجمهور الإسرائيلي من هذه المؤسسة، إلا أنها كانت فترة قصيرة جدا، إذ تكشفت هذه الفضيحة في المراحل الأخيرة من ولايته في هذا المنصب (انتخب لهذا المنصب في تموز 2000 واستقال منه في تموز 2007) وسرعان ما تبددت غيمتها من فوق رأس المؤسسة نفسها، إذ استطاع خلفه في هذا المنصب، شمعون بيريس، أن يعيد للمنصب مكانته، احترامه، هيبته، ثقته ورمزيته في أعين المواطنين الإسرائيليين. وللتذكير، كان شمعون بيريس قد خسر المنافسة الأولى على هذا المنصب في العام 2000، إذ تغلب عليه كتساف بفارق ستة أصوات (63 مقابل 57)، ثم عاد وتنافس في العام 2007 وفاز بالمنصب، بعد تفوقه على عضوي الكنيست رؤوفين ريفلين وكوليت أفيطال.
غير أن "جيل شمعون بيريس" قد انتهى واختفى من الحياة السياسية ـ الحزبية الداخلية في إسرائيل (وليس الداخلية فقط، لكن هذا مجال آخر للبحث)، خاصة وأن بيريس الشخص (ابن الـ 92 عاما) هو آخر ما تبقى من ذلك الجيل من القادة الإسرائيليين، وخاصة بعد سقوط أريئيل شارون من الحلبة السياسية، ثم وفاته.
وفي واقع هذه المستجدات، أعلن سبعة أشخاص ترشيح أنفسهم لخوض هذه المنافسة الجديدة طمعا في الفوز بمنصب رئيس الدولة العاشر، خلفا لشمعون بيريس الذي سينهي مهام منصبه رسميا في تموز القادم. وما أن أُعلِنت أسماء المرشحين، حتى انطلقت عمليات "صيد الساحرات" و"التصفية". وكان مرشح الليكود، عضو الكنيست والوزير سيلفان شالوم، أول "ضحايا" هذه العمليات التي تمثلت بالكشف عن شبهات خطيرة بشأن تورطه في ممارسات غير أخلاقية مشينة بحق فتيات عملن بصحبته في مناصب رسمية مختلفة أشغلها. وقد حققت الشرطة مع شالوم حول هذه الشبهات الجنائية، قرر المستشار القانوني للحكومة في ختامها إغلاق الملف وعدم تقديم أية لائحة اتهام بحقه، غير أن شالوم كان قد تلطخ بوصمة اضطرته إلى سحب ترشيحه لمنصب رئيس الدولة. وقبل أربعة أيام فقط من الموعد المحدد لإجراء التصويت في الكنيست، اضطر متنافس آخر من المتنافسين الأساسيين إلى الانسحاب من السباق. وكان "الضحية" هذه المرة عضو الكنيست والوزير السابق بنيامين (فؤاد) بن اليعازر، مرشح حزب "العمل"، الذي كشفت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي عن حصوله على مبالغ طائلة من الأموال من رجل أعمال يهودي استغل جزءا منها في امتلاك منزل فاخر جدا في قلب مدنية يافا العربية بلغ ثمنه 9 ملايين شيكل! وعلى الفور، شرعت الشرطة في إجراء تحقيق جنائي مع بن اليعازر بشبهة تلقي الرشاوى مما اضطره إلى الانسحاب الفوري من المنافسة.
وبانسحاب سيلفان شالوم، ثم بنيامين بن اليعازر، تقدم مئير شطريت خطوات واسعة وسريعة جدا ليصبح أحد المرشحين الأساسيين والمنافسين الجديين على منصب رئيس الدولة (العاشر)، مرشحا رسميا عن حزب "هتنوعا" ("الحركة") بزعامة الوزيرة تسيبي ليفني، الذي انتقل إليه من حزب "كديما" (سوية مع ليفني)، الذي كان انتقل إليه من حزب "الليكود" من قبل (سوية مع أريئيل شارون). لكن الأمر الأهمّ والأخطر الذي انطوى عليه هذا التطور، المتمثل في احتلال شطريت موقعا تنافسيا مركزيا، هو ما أحدثه من تفاعلات وتحركات على الساحة السياسية ـ الحزبية الداخلية وما تمخض عنه من اصطفافات وتحالفات، ثم دعم فعلي، على الرغم من أن الشبهات حول تورطه في قضايا غير أخلاقية، وربما جنائية، كشفت ونُشرت على الملأ قبل موعد الاقتراع على المرشحين في الكنيست.
وعلى الرغم من انتشار الأنباء عن هذه الشبهات قبل موعد التصويت في الكنيست بساعات عديدة، لم ير شطريت أية حاجة إلى اتخذا أية خطوة، لا من قبيل الانسحاب من المنافسة ولا حتى مجرد إصدار بيان توضيحي، بل واصل خوض المنافسة كأن شيئا لم يكن. والأدهى أن الاصطفافات والتحالفات الجديدة التي التفت حول شطريت لم تتأثر إطلاقا بهذه الشبهات، بل حظي شطريت بدعم وأصوات 53 عضو كنيست، أبرزهم وفي مقدمتهم أعضاء الكنيست من حزب "العمل" ومن حزب "ميرتس".
"صفقة" شطريت والمساعـِدة المنزلية!
الشبهات التي كانت حامت حول مئير شطريت (بهدوء وعلى استحياء ينبغي القول!) عشية انتخاب رئيس الدولة الجديد في الكنيست، تفجرت في "كشف صحافي" بثته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي مساء اليوم التالي، الأربعاء. وخلاصة ذلك الكشف الصحافي أن شطريت، بواسطة محاميه الشخصي، وقّع على اتفاقية مع المساعِدة المنزلية التي كانت تعمل في منزله قام (شطريت) بموجبه بدفع مبلغ خيالي، نسبيا، يصل إلى 270 ألف شيكل "تعويضات" لقاء إنهاء عملها بعد سنة وأربعة أشهر. وهو مبلغ خيالي وغير معقول، على الإطلاق، بالنظر إلى الفترة القصيرة جدا التي أمضتها هذه المساعِدة في العمل لدى عائلة شطريت وبالنظر إلى الأجر الشهري المتوسط الذي كانت تتقاضاه (أو حتى، الذي كان ينبغي أن تتقاضاه رسميا).
وبالنظر إلى هذه العوامل، اعتبر مراسل القناة العاشرة أن الاتفاق المذكور الذي وقع عليه شطريت لم يكن "اتفاق إنهاء عقد عمل" أو اتفاق إنهاء علاقات عمل"، بل شكّل "صفقة" أراد شطريت من خلالها "شراء" صمت السيدة المساعِدة، بعدما هددته بأنها تعتزم تقديم شكوى جنائية ضده بشبهة التحرش الجنسي ضدها عدة مرات وفي عدة مناسبات، فضلا عن تقديم دعوى مدنية تطالب فيها بالحصول على تعويضات عن الأضرار المالية التي تكبدتها من جراء عدم منحها الشروط الملائمة خلال العمل وعدم دفع حقوقها العمالية / النقابية كاملة خلال فترة عملها في منزل العائلة. وقالت الأنباء إن ثمة تسجيلات صوتية تثبت ادعاءات السيدة بشأن تحرش شطريت بها جنسيا في أكثر من مرة.
وكشف النقاب، في السياق، عن بند في الاتفاق المذكور يقضي بتنازل السيدة عن أية مطالب أو ادعاءات مستقبلية ضد شطريت و/ أو زوجته، وبند آخر يقضي بتعهد الطرفين (عائلة شطريت والسيدة المساعِدة) بالحفاظ على سريّة الاتفاق بينهما على أن يُلزَم الطرف الذي يخرق هذا البند بدفع غرامة تبلغ 250 ألف شيكل!
وأعادت الأنباء الجديدة إلى الأذهان أن المستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، كان قد تبلغ معلومات حول القضية قبل نحو ستة أشهر فحوّلها إلى الشرطة للتحقيق فيها، لكن الشرطة قررت إنهاء الفحص والتحقيق بعدما رفضت السيدة المعنية تقديم أية شكوى ضد شطريت.
وعقب مكتب المحامين الذي يمثل شطريت على هذه الأنباء بالقول إن "شطريت لم يخضع لأي تحقيق بوليسي ولم يُطلَب منه، إطلاقا، تقديم أية إفادة أو أي تعقيب على الشائعات الكاذبة التي يتم ترويجها".
مؤيدون نادمون!
لم تتح الشبهات التي تفجرت بشأن هذه الفضيحة "المناوبة" أي متسع من الهدوء وتبدد الغبار الكثيف الذي أثارته معركة انتخاب رئيس الدولة الجديد، حتى بعد أن وضعت أوزارها وانتهت بما انتهت إليه من نتيجة. وقد وجد بعض أعضاء الكنيست، وخاصة من حزب "العمل" وحزب "ميرتس"، الذين حاولوا التغاضي عن "الشبهات الهامسة"، بل طمسها وإخفاءها، أنفسهم في أعقاب انتهاء الانتخابات وفوز ريفلين في وضع حرج جدا، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى الحزبي.
ويواجه هؤلاء الآن عاصفة بدأت بوادرها تلوح في اليومين الأولين التاليين على يوم الانتخابات بين أعضاء هذين الحزبين وجمهور أنصارهما ومؤيديهما، فيجدون أنفسهم مضطرين لتقديم إجابة شافية ومقنعة على السؤال الأكبر التالي، ليس في نظرة إلى الأمام فقط، بل في نظرة إلى الوراء أساسا، وهو: ولو كان شطريت قد فاز بالمنصب ـ وهو ما كان محتملا جدا ـ فهل كنا سنستيقظ على واقع جديد / قديم يتمثل في رئيس دولة مشتبه بارتكاب مخالفات جنسية وغير أخلاقية؟ أي تفسير وأي موقف ستقدمون عندئذ؟
وقال أحد أعضاء الكنيست هؤلاء (من حزب العمل)، من دون الإفصاح عن اسمه، حسبما أفادت صحيفة "هآرتس" (12/6): "كان من الغباء المطبق أن نتحد في دعم شطريت، رغم أنه لم يقدم لنا أجوبة شافية وقاطعة عن قضية الاتفاق مع المساعدة المنزلية... لقد انتقلنا من دعم مرشح تحوم فوقه الشبهات بشأن الأموال التي اشترى بها منزله (بن اليعازر) إلى مرشح يبدو أنه كان متورطا بعيب أخلاقي دفعه إلى التوقيع على اتفاق كهذا"!