عندما سقطت بغداد في مساء يوم 13.4.03 وسط حالة من الصدمة والذهول، تحدث المعلقون والمراقبون عن غروب شمس حقبة هامة في تاريخ العراق، وميلاد اخرى جديدة استهلت باستبدال عساكر صدام بالقوات الامريكية المحتلة. وامعن هؤلاء في استشراف ملامح الآتي، وذرف الكثيرون منهم الدموع حزنا واسى على تهاوي ابنة الرافدين وعاصمة الرشيد سبية بأيدي الغزاة بسهولة وسرعة غير معقولتين. لكن ان احدا منهم لم يتوقع ان تبلغ الفوضى حد السطو المسلح والسريع على متاحف وكنوز واثار تنطوي على ارث حضاري عظيم طوله بطول دجلة والفرات، وتمتد جذوره الى سومر وبابل واكَّد والعصور العربية الاسلامية الذهبية.
كل ذلك جرى في وضح النهار وعلى مسمع ومرأى العالم، وتحت مظلة الاميركان، الذين كانوا يدركون تماما ان سرقة تاريخ العراق وبعثرة صفحات ماضيه يعني ضرب مستقبل ابنائه واعاقة نهضتهم.
وتزداد الشكوك، ان لم تكن الدلائل، حول ضلوع المحتلين وسواهم في محاولة اغتيال تراث بلاد ما بين النهرين او اطفاء جذوة حضاراتها المتوهجة نورا وعطاء، عندما تطرح اثريات المتحف القومي العراقي بالمزاد العلني في المدن الاسرائيلية، ليقتنيها الاثرياء وتجار الاثار. هولاء يسعون لبيعها داخل اسرائيل وخارجها مقابل ارباح طائلة، تبقى بخسة جدا بالنسبة للسعر الحقيقي لهذه الموجودات التي لا تقدر بثمن.
المعلومات عن المتاجرة بأثريات المتاحف العراقية في اسرائيل وصلتنا بالصدفة، فقمنا بتحري القضية متظاهرين بالرغبة باقتناء بعضها لاغراض التجارة، فكان ان عرض علينا تجار اسراائيليون في تل ابيب شراء تماثيل منحوتة بالصخر الابيض والبني على اشكال حيوانات مختلفة، اضافة الى رؤوس بشرية تم نحتها بمنتهى الدقة والبراعة، الى جانب قطع ذهبية مختلفة. وقبل الخوض في تفاصيل "الصفقة" اشترط هؤلاء التجار الذين التقيناهم ليلا في تل ابيب ان يتم بيع ما نشتريه منهم خارج اسرائيل تحاشيا للوقوع تحت طائلة القانون الاسرائيلي الذي يحظر المتاجرة بالاثار.
تراوحت اسعار التحف العراقية المسروقة بين 15000 الى 20000 دولار. وبناء على طلبنا زودنا التجار الثلاثة بصور بعض هذه التحف من اجل معاينتها والتشاور بشأنها على ان يبقى الموضوع طي الكتمان والالتقاء بعد بضعة ايام. ومن اجل التأكد من حقيقة وهوية القطع الاثرية التي عرضت علينا قمنا بعرضها على خبير اثار عربي من اسرائيل فأكد جازما حقيقة كونها قديمة وانتسابها الى الحضارات العراقية الغابرة.
وفي حديث "للمشهد الاسرائيلي" كشف لنا طبيب عربي يعمل جراحا في احد ابرز مشتشفيات القدس الغربيةعن ان تجارا عربا يعملون مقاولين ثانويين لتجار يهود عرضوا عليه اقتناء اثريات عراقية مشابهة. واضاف الطبيب الذي فضل عدم الكشف عن اسمه: "بالطبع تأثرت في اعماق نفسي لرؤية رموز الحضارات العراقية العريقة تتنقل بين ايادي تجار السوق السوداء، تباع وتشترى دون اي وازع من ضمير او اخلاق. لم يهن علي هذا المشهد المفجع ولذلك قررت ان اشتري قطعتين ومن ثم البحث عن السبيل لاعادتها للعراق عن طريق سفارة اجنبية او طريق "الامم المتحدة".
ويستذكر الطبيب المذكور محادثة عرضية بلغت اذنيه اثناء زيارته لمستشفى "تل هشومير" في تل ابيب في مطلع شهر ايار الماضي، ويقول: "كنت اسير في ممر داخل المستشفى ومن خلفي يسير طبيب وممرضة سمعتهما يتحدثان فكانت الممرضة تسأله عن الساعة الجميلة على يده، فأجابها قائلا: "هذه ساعة تذكارية وثمينة وهي خاصة بسلاح الجو العراقي.. جلبنا 50 ساعة كهذه من العراق. وتعقيبا على نظراتها المستغربة اضاف الطبيب الاسرائيلي: "نعم.. كنا هناك.."
وابلغنا الطبيب العربي انه عرف لاحقا ان الطبيب الاسرائيلي هو طيار احتياط في سلاح الجو الاسرائيلي، واضاف: "تذكرت ما سمعته في المستشفى عندما عرض علي شراء الاثريات العراقية وربطت بين الامرين."
وقد علمنا ان عضو الكنيست واصل طه سيقوم بطرح الموضوع على جدول اعمال البرلمان الاسرائيلي، علما بأن اي وسيلة اعلام اسرائيلية لم تثر القضية بعد.
في حديث معه قال طه: "سانتظر قليلا ريثما استكمل تفاصيل اضافية في هذه المسالة الخطيرة قبل ان اطرحها على بساط البحث في الكنيست. كذلك نحاول مع بعض الاخوة الاثرياء الشرفاء شراء ما نستطيع من مسروقات المتحف القومي العراقي من التجار الاسرائيليين تمهيدا لاعادتها الى بغداد عملا بواجبنا القومي ووفاء منا لحبنا للعراق وشعبه. الى جانب ذلك سادعو السلطات الاسرائيلية الى الكشف عن الجناة واعادة التحف الاثرية الى اصحابها الى العراق بواسطة الامم المتحدة."
توجهنا الى سلطة حماية الاثار في اسرائيل بهذا الخصوص فاجاب رئيس وحدة مكافحة سرقة الاثريات والمتاجرة بها، امير جانور: "اولا نحن نعلم بوجود هذه الظاهرة منذ حرب الخليج الاولى حيث تم تهريب قطع اثرية من الكويت. في حينه لم نقم بمعالجة الموضوع لانه لم يكن هناك عنوان للتوجه اليه. هذه المرة هناك قضية مهمة ومثيرة على المستوى العالمي. حتى الان وصلتنا معلومات متنوعة حول انتشار اثريات من المتحف العراقي نعكف هذه الايام على متابعتها."
* وفي حالة نجاحكم بوضع اليد عليها، هل ستعاد الى العراق ام ستحتفظون بها بدعوى ان العراق دولة معادية?!
- "صحيح ان حقيقة كون العراق دولة معادية سيخلق بعض العراقيل غير ان هذه الاثريات ثمينة جدا وهي ملك للشعب العراقي بل للانسانية جمعاء، علما بأن القانون الاسرائيلي لا يحظرالاتجار بمثلها - خلافا للقانون الدولي."
* ولكن اسرائيل من المفروض ان تلتزم بميثاق اليونسكو الخاص بمكافحة سرقة الاثار والاتجار بها! فهل ستولون الموضوع الاهمية التي يستحقها?!
- "اسرئيل وقعت على هذا الميثاق وهي شريكة في تطبيقه. وعندما تصبح بحوزتنا معلومات عينية سنتحرك على الفور. وعندها سيطالب الشعب العراقي بها .من جهتنا سنقوم بارجاعها عن طريق الينسكو او الانتربول او غيره..."